الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، أحمَدُه تعالى وأشكُره وهو أهلُ الثناءِ والحمدِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في رُبوبيتهِ وأُلوهيتهِ وأسمائِه وصفاتِه، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرَتُه من خلْقِه وخاتَمُ رسلهِ وأنبيائه، اللهمَّ صلِّ وسلّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين.
أيها المسلمون: واستكبارُ أهلِ الكتاب عن الحقِّ، وبُهتُ اليهودِ خاصّة، ليس وَليدَ الساعةِ، بل وقع في أيام الإسلامِ الأولى والرسولُ صلى الله عليه وسلم حيٌّ يتلو ما أُوحي إليه، ويُخبرُ أهلَ الكتابِ بأنبيائهم وما نزلَ عليهم.
وإذا استثنينا طائفةً من اليهود والنصارى فتحَ اللهُ على قلوبهم واتّبعوا الحقَّ، وكانت أعينُهم تفيض من الدّمع إذا سمعوا من أُنزل على الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قالوا:{رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (1). ومنهم الذين إذا تلي عليهم القرآن يخرون للأذقان سجدًا {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (2).
إذا استثنينا هذه النماذجَ المؤمنةَ المصدّقة، فالأكثريةُ من أهل الكتاب كفروا واستكبروا كما قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3).
معاشر المسلمين: ودعونا نتوقفُ عند شاهدِ بني إسرائيل، كيف شَهِد؟ وعلى ما شهد؟ وما موقفُ قومِه من شهادته؟
(1) سورة المائدة، الآيتين: 83، 84.
(2)
سورة الإسراء، الآيتين: 108، 109.
(3)
سورة الأحقاف، الآية:10.
قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: وهذا الشاهدُ اسمُ جنسٍ يَعُمّ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ رضي الله عنه وغيره (1).
وعبدُ اللهِ بنُ سلامٍ هذا واحدٌ من علماءِ اليهود وأحبارِهم شاء اللهُ له أن يكونَ في عِداد المسلمين، وأن يكشف سوءاتِ ومغالطاتِ اليهودِ، وقد شهد لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بصدق الرسالةِ، وشهد على قومه بالبُهت والمُكابرة والكذبِ.
وقصتُه - كما في «صحيح البخاري» - عن أنسٍ رضي الله عنه: أن عبدَ الله بنَ سلام أتى إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمهُ إلى المدينة فقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمُها إلا نبيٌّ: ما أولُ أشراطِ الساعةِ؟ وما أولُ ما يأكلُه أهلُ الجنّةِ؟ ومِن أين يُشبهُ الولدُ أباه وأُمَّه؟
فقال: «أخبرَني بهنّ جبريلُ آنفًا» . قال: ذاك عدوُّ اليهودِ من الملائكة. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أولُ أشراطِ الساعة: فنارٌ تخرجُ من المشرقِ فتَحشُرُ الناسَ إلى المغربِ، وأما أولُ ما يأكلُه أهلُ الجنةِ: فزيادةُ كَبِدِ الحوتِ، وأما الشَّبَهُ: فإذا سبق ماءُ الرجلِ نَزَعَ إليه الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأةِ نزَعَ إليها» . قال: أشهد أنك رسولُ الله، وقال: يا رسولَ الله، إن اليهودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بَهتوني، فأرسِل إليهم فسَلْهم عنّي - يعني قبل أن يعلموا بإسلامي - فأرسل إليهم فقال:«أيُّ رجلٍ ابنُ سلامٍ فيكم؟ » . قالوا: حَبْرُنا، وابنُ حَبْرِنا، وعالِمُنا وابنُ عالِمنا، قال:«أَرأيتُم إن أسلمَ تُسلمونَ؟ » . قالوا: أعاذَه اللهُ من ذلك، قال: فخرج عليهم عبدُ الله، فقال: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ اللهِ، فقالوا: شَرُّنا وابن شرِّنا، وجاهِلُنا وابنُ جاهِلنا. فقال: يا رسول الله، ألم أُخبرْك أنهم قومٌ بُهت (2).
(1) 4/ 165.
(2)
البخاري في أول الأنبياء 6/ 261، في مناقب الأنصار 7/ 2125 وفي التفسير 8/ 25.
إخوة الإيمان: ونستفيد من هذه الحادثةِ عدةَ دروسٍ، منها: أولًا: أن أهلَ الكتابِ منهم مَن يسمعُ الحقَّ ويستجيبُ للدعوة؛ كعبدِ اللهِ بن سلامٍ، والنجاشيِّ، وأمثالِهم من مؤمني أهلِ الكتاب.
ومنهم - وهم الغالبيةُ - من يستكبرُ حتى ولو ظهر الحقُّ له، وهم الذين قال الله عنهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (1). وأولئك أفحمَهم القرآنُ وجادلهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم في عقائدهم، وما أنزل اللهُ في كتبهم، ولكنهم ظلّوا في غيِّهم سادِرين، وعن اتّباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم رافضين، وفي سورة آلِ عمرانَ والنساءِ والمائدةِ وغيرِها نماذجُ لهذه المحاورةِ المُفحِمة، ومن يضللِ اللهُ فما له من هادٍ، أولئك لم تنفع معهم البيّنةُ، وأولئك الذين قال الله عنهم:{وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2).
ثانيًا: هناك فرقٌ بين عداوة المشركين من أهل الكتاب، وبين دعوتهم للحقِّ، فعداوتُهم من مقتضياتِ الوَلاءِ والبراءِ، والله نهانا أن نتَّخذهم أولياءَ، والحبُّ في اللهِ والبُغضُ في الله أوثقُ عُرى الإيمان.
أما دعوتُهم، فَذلك لإبراء الذّمةِ من جانبٍ، ولقطع الحُجّةِ عليهم ببيان الحقِّ من جانبٍ آخر، وتلك كان يمارسُها الرّسولُ صلى الله عليه وسلم معهم، بل ويَدخلُ عليهم كنائسَهم من أجلها.
روى الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيُّ من حديث عوفِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: انطلق نبيُّ الله وأنا معه حتى دخلنا كنيسةَ اليهودِ، فقال: «أروني يا معشَر يهودَ
(1) سورة البقرة، الآيتين: 146، 147.
(2)
سورة البينة، الآيتين: 4، 5.
اثني عشرَ رجلًا يشهدون أن محمدًا رسولُ الله، يَحطُّ اللهُ عنكم الغضَبَ». فأُسكِتوا، ثم أعاد عليهم، فلم يُجبْه أحدٌ، قال:«فواللهِ لأنا الحاشرُ وأنا العاقبُ، وأنا المصطفى، آمنتُم أو كذّبتم» . فلما كاد يخرجُ قال رجلٌ: كما أنت يا محمدُ، أيُّ رجلٍ تعلموني فيكم؟ قالوا: ما فينا أعلم منك، قال: فإني أشهدُ بالله أنه نبيُّ اللهِ الذي تجدونه في التوراةِ، فقالوا: كذبت، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«كذبتُم» . قال الراوي: فخرجنا ونحن ثلاثة وأُنزلت: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ} (1).
ثالثًا: ونستفيد من هذه الحوادثِ والمروياتِ أنّ أسفارَ أهلِ الكتابِ التي لم تُحرَّفْ تدعو أهلَ الكتابِ للإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم واعتناقِ الإسلامِ، وترْكِ اليهوديةِ والنصرانيةِ، فأنبياءُ بني إسرائيلَ، بشّروا ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعثَ، وأخذوا على قومِهم لئن بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهم أحياءٌ ليؤمنُنّ به ولينصرُنَّه .. وإبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء من بني إسرائيلَ، ما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا .. ويعقوبُ عليه السلام كانت وصيَّتُه لأبنائه حين حضرتْه الوفاةُ، وكان اعترافُ أبنائه له بالعبودية للهِ وحدَه أنهم مسلمون للهِ .. فأين يذهبُ أهل الكتاب إذا كانت كُتبهم المنزلةُ تدعوهم إلى الإسلام .. وأنبياؤهم يُوصونَهم حتى المماتِ بالإسلامِ .. إنها حُجَجٌ قاطعة، وإلزامات ما لهم عنها من خَلاصٍ ولا محيص، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذبَ وأولئك لا يفلحون.
رابعًا وأخيرًا: وكما يوجد عند أهلِ الكتابِ استكبارٌ عنِ الحقِّ وعِنادٌ عن دخول الإسلامِ - إلا مَن رحمَ اللهُ - فثمّةَ ضعفٌ عند المسلمين في دعوتِهم ومجادلتِهم بالحُسنى - دون تنازلٍ عن شيء من الحقِّ .. بل وبأسلوب يُقنعون به
(1) سورة الأحقاف، الآية: 10، المستدرك 3/ 415، 416.
الخصمَ، وإذا استكبر العالِمون المنتفعون فثمّةَ طوائفُ من عوامِّ أهلِ الكتابِ لا يعرفون الحقيقةَ وأولئك جَديرون بالدعوةِ، وإذا قيل للرسول:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (1)، فليس غيرُ الرسولِ بُملزَمٍ بما فوق البلاغِ، فهل يا تُرى يستجمعُ المسلمون طاقتَهم الفكريةَ وأدلّتَهم الناصعةَ لدعوة أهلِ الكتاب .. إن ذلك سيقلبُ ميزانَ القُوى، وسينقذ اللهُ به أقوامًا من الضلالة إلى الهُدى.
(1) سورة الشورى، الآية:48.