الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، أشهدَ نفسَه وملائكتَه وأولي العلمِ على وحدانيتِه وقيامِه بالقسط، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له يُحبُّ المقسطين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءت شريعتُه محقِّقةً للعدل، داعيةً للمودةِ والائتلاف، وناهيةً عن الفرقةِ والشقاقِ والتباغضِ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عبادَ الله: ومن قواعدِ الائتلاف استيعابُ المخالِفِ واستمالتُه للحقِّ بهدوءِ العبارة وحُسن المجادلةِ، وفتحِ الفرصِ المناسبةِ للحوار البنّاء، والوصولِ إلى نتائجَ طيبةٍ، أجل إن الله عز وجل وجَّه رسولَه صلى الله عليه وسلم في الحوار مع المشركين أن يقولَ لهم:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1).
فالرسولُ صلى الله عليه وسلم على يقينٍ أن ما عليه هو الحقُّ، وما عليه المشركونَ باطلٌ، ولكنه أسلوبٌ من أساليبِ الحوار يُستمالُ به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطعُ الطريقَ عليه لأول وَهْلَةٍ .. وإذا أخطأنا في أساليبِ الحوارِ مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ لإبداء وجهةِ نظرِ الطرف الآخرِ، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاورُ رمزًا من رموز الجاهليةِ ووَتًدا من أوتادِ قريش قال له:«قُل يا أبا الوليدِ أسمعْ» . ولا يُبادرُه بسهام الحقِّ - وهو الأعلى - حتى يقولَ له: «أفرغتَ يا أبا الوليد؟ » . إنه ليس ضعفًا ولا تزلُّفًا ولا نفاقًا، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوتِه للحقِّ .. وقد كان شيءٌ من هذا .. ودخل في نفس الوليدِ شيءٌ من عظمةِ محمد صلى الله عليه وسلم وعظمةِ القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به.
(1) سورة سبأ، الآية:24.
إنها مَلَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطةً، ولا جدلًا عقيمًا، أو ترفًا فكريًّا .. ففرقٌ بين هذا وذاك! !
أيها المسلمون: ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطِلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريح، ذلك أن التعريفَ بالضلال تعرية لأهلِه، وقد يعودُ صاحبُ الضلالِ إلى الحقِّ إذا لم يُشهَّرْ به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقٌّ يُطلبُ نشرُه .. لا سيما إن كان نشرُه يثيرُ فتنةً.
ومن سُبلِ التأليف مخاطبةُ الناس بما ينفعُهم وعلى قدر عقولِهم، وفي هذا يقول عليٌّ رضي الله عنه:«حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُه» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «ما من رجلٍ يُحدّثُ قومًا حديثًا لا تبلُغه عقولُهم، إلا كان فتنةً لبعضهم» .
ويُعدد الغزاليُّ من وظائفِ المعلم المرشِد: أن يقتصرَ بالمتعلِّم على قدْر فهمِه، فلا يُلقى إليه ما لا يبلُغه عقلُه فيُنفِّره، وكذلك قيل: كِلْ لكلِّ عبدٍ بمعيار عقلِه، وزنْ له بميزانِ فَهمِه، حتى تسلمَ منه وينتفعَ بك، وإلا وقعَ الإنكارُ لتفاوتِ المعيار (1).
على أن مما يوقعُ في الفرقةِ والخلافِ التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلميةِ لمن ليس من أهلِها، أو ذكرُ كبارِ المسائل لمن لا يحتملُ عقلُه إلا صغارَها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائبَ ونفرةٍ وخلافٍ؛ كما قررَ أهل العلم (2)، فليحذر منه.
أيها المسلمون: ومن قواعدِ الائتلاف الإنصافُ بالموازنةِ بين المصالحِ والمفاسدِ، فإسلامُ كافرٍ على يد مبتدعٍ أولى من بقاءِ الكافر على كفرِه. وتوبةُ فاجرٍ بسماعه أحاديثَ ضعيفةٍ خيرٌ من بقائه على فجوره.
(1) الإحياء 1/ 55، 56.
(2)
الموافقات للشاطبي 1/ 87.
والصلاةُ خلفَ المبتدِع أولى من ترك الجماعةِ، بل يُستعانُ بالمبتدِعةِ في تحصيل واجبٍ أعظم، وتُحتملُ مفسدةُ بدعتِهم، وكذلك أخذَ السلفُ بعضَ الأحاديث عن أهل بدعةِ القَدَرِ في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السُّنة، بعد موازنَتهم بين هجر الرواية عنهم زجرًا لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظِ السّنةِ، وقررَ هذا ابنُ تيمية بقوله:«فلو تُرك روايةُ الحديثِ عنهم لاندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم» .
بل رتبَ على ذلك قاعدةً عامةً ومهمةً قال فيها: «فإذا تعذَّرَ إقامةُ الواجباتِ من العلم والجهاد وغيرِ ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتُها دون مضرةِ ترك ذلك الواجب، كان تحصيلُ مصلحةِ الواجبِ مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيرًا من العكس» (1).
إخوةَ الإسلام: ومما يُسهمُ في الائتلاف بين المؤمنين قابليةُ التنازلِ لمصلحة الجماعةِ، وإن كان المتنازلُ أحقَّ من غيره، وفي أحدِ غزواتِ المسلمين (ذات السلاسل)، أمّرَ عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم عمرو بنَ العاصِ رضي الله عنه، ثم بعثَ له مددًا من المهاجرين فيهم أبو بكرٍ وعمرُ، وأمَّر عليهم أبا عبيدةَ ابنَ الجراح رضي الله عنه، فلما وصلَ المددُ قال عمرو: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابِك، وأميرُنا أبو عبيدةَ، فقال عمروٌ: إنما أنتم مدَدٌ أُمددتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدةَ - وكانَ رجلًا حسنَ الخُلُق، ليّنَ الشيمة، متبعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحبًا للتأليفِ والجماعة - سلَّمَ الإمرةَ لعمرو وجمعَ الكلمة (2).
عبادَ الله: وحين يُوصي العلماءُ والدعاةُ وطلبةُ العلم بالحرصِ على الائتلاف ودفع الاختلاف بكلِّ وسيلة، فلا يعني ذلك تميعَ الدين أو السكوتَ عن الحقِّ
(1) الفتاوى 28/ 212، فقه الائتلاف/ 248.
(2)
ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء 1/ 5 - 23.
وكشفِ الباطل .. لكنه الأدبُ في الاختلاف والسعيُ بكلِّ وسيلةٍ للائتلاف، وكم هو رائعٌ أن يدفعَ العلماءُ مفسدةَ فتنةِ العامة، بإظهارِ الوُدّ وتقديرِ بعضهم لبعض، وعدم التنازعِ على مشهد من الناس، ومما يُذكر في ذلك أن الإمام أحمدَ وإسحاقَ وعبدَ الرزاقِ خرجوا إلى المصلي في عيدِ الفطر، وكان أحمدُ وإسحاقُ يَرون سُنيةَ التكبير لعيد الفطر، بينما لا يرى عبدُ الرزاق سنيةَ التكبير إلا في عيدِ الأضحى، ولكن ما الذي حصل في المصلَّى؟ لم يكبر أحمدُ وإسحاقُ مراعاةً لاجتهاد عبدِ الرزاقِ، وعبدُ الرزاق عجبَ من عدم تكبيرِهما وقال: لو كبَّرتما لكبَّرت معكما، مداراةً لاجتهادهما، ودفعًا لفتنةِ العَوَام (1). وهكذا يحرصُ العلماءُ على توحيد المواقف أمامَ الناس، وإن اختلفت اجتهاداتُهم في بعض المسائل.
ويُوصي العلماءُ وطلبةُ العلم - كذلك - في سبيلِ الائتلاف ودفع الاختلافِ والفرقةِ بالسكوتِ أحيانًا عن بعض المسائلِ غير المألوفةِ، لاسيما إذا كان الخلافُ فيها جاريًا، ونشرُها بين الناس يُحدثُ فتنةً لبعضهم، وهنا يرشدُ الشاطبيُّ رحمه الله إلى ضابطٍ لعرض المسائلِ الشرعيةِ المثيرةِ ويقول:«وضابطه أنك تَعرضُ مسألتَك على الشريعةِ، فإن صحّت في ميزانِها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حالِ الزمانِ وأهلِه، فإن لم يؤدِّ ذكرُها إلى مفسدة فاعرِضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلكَ أن تتكلمَ فيها، إما على العمومِ، إن كانت مما تقبله العقولُ على العموم، وإما على الخصوص، إن كانت غيرَ لائقةٍ بالعموم، وإن لم يكن لمسألتِك هذا المساغُ فالسكوتُ عنها هو الجاري على وفقِ المصلحةِ الشرعية والعقلية» (2).
(1) سير أعلام النبلاء 12/ 214 - 221 ترجمة محمد بن رافع.
(2)
الموافقات 4/ 191 عن فقه الائتلاف، محمود الخزندار/ 247.
ومع هذه الوصايا للعلماءِ والدعاةِ وطلبةِ العلم يوصَى عوامُّ المسلمين وغيرُ المتفقهين منهم بالثقةِ بأهل العلم، وتوسيع المداركِ، وعدمِ العجلةِ بإصدار الأحكام، وعدمِ الفرحِ بالخلاف يقع بين العالِمَيْن، وبعدم التشكُّك في شيء من دين اللهِ، إذ الخلاف يقعُ في فروعِ الدين لا في أصولِه، وقد يكون في هذا الاختلافِ رحمةٌ وسَعَةٌ، وحين يقعُ التنازلُ فلا بد من ردِّه إلى اللهِ ورسولِه وإلى ورثةِ الأنبياء عليهم السلام.
عبادَ الله: كم نحن بحاجةٍ جميعًا إلى الفقه في الدِّين، ذلك الفقه الذي يجمعُ ويؤلفُ ويهدي ويرشدُ، وكم نحن بحاجة إلى أن نبلُغَ بدينِنا ما بلغ الليلُ والنهارُ .. دون أن نهدرَ شيئًا من طاقاتنا في الوقيعة والخلاف بين المسلمين .. وإنني بهذه المناسبة أوصي بقراءة كتابٍ نافعٍ جامع - كذا أحسبُه واللهُ حسيبنا جميعًا - هذا الكتابُ صدر مؤخرًا بعنوان «فقه الائتلاف - قواعدُ التعامل مع المخالفين بالإنصاف» ومؤلفه محمود محمد الخزندار وهو من مطبوعات دار طيبة في الرياض - أسألُ اللهَ أن يجزلَ المثوبةَ لمؤلفِه وأن ينفع به، وأن يعلِّمنا جميعًا ما ينفعُنا، وأن ينفعَنا بما علَّمنَا.