الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين.
عبادَ اللهِ ..
الوقفة الثانية: «يا معشرَ الشبابِ من استطاعَ منكمُ الباءةَ فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصَرِ، وأحصنُ للفرجِ، ومن لم يستطعْ فعليهِ بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ» .
إن الزواجَ رحمةٌ ومودّةٌ واستجابةٌ للفطرة، وتهذيبٌ للغرائز، ووضع للبَذْرِ في منبتِه .. به تتكاثرُ الأمةُ، وبه تُغضُّ الأبصارُ وتُحفظُ الفروجُ.
إنه تاجُ الفضيلةِ، وسُنةُ الأنبياءِ والمرسَلين عليهم السلام وسبيلُ المؤمنين، واستجابةٌ لأمر اللهِ:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (1).
عظّم اللهُ شأنَه، وسمَّى عَقْدَه:{مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2).
وجعله آيةً من آياته؛ إذ به جعل بين الغريبيْنِ البعيدين مودةً ورحمةً وسُكنى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3).
إن الزواجَ يرفعُ من عيشِ البطالةِ والفتنةِ، إلى معاش الجِدّ والعِفّة، وبالإعراض عن الزواج - لمن قَدِرَ عليه - ينقرضُ النسل، وتُطفأ مصابيحُ الحياةِ، وتُقبضُ العِفّة.
(1) سورة النور، الآية:32.
(2)
سورة النساء، الآية:21.
(3)
سورة الروم، الآية:21.
عبادَ الله: ومن أقوى العللِ للإعراض عنِ الزواج، تفشّي أوبئة السُّفور والتبرُّج والاختلاط؛ لأن العفيفَ يخاف من زوجةٍ تستخفُّ بالعفاف والصّيانة، والفاجرُ يجد سبيلًا محرَّمًا لقضاءِ وَطَرِه متقلبًا في بيوت الدَّعارة - نسألُ اللهَ العافيةَ لنا ولإخواننا المسلمين - ومن هنا قال العارفون: إن مكافحةَ السَّفور والتبرُّج والاختلاطِ واجبٌ لمكافحةِ الإعراض عن الزواج (1).
معاشرَ الشبابِ - وإذا استطعتمُ الباءةَ - فلا تتردَّدوا في الزواج مخافةَ الفقر من جَرّاءِ الزوجةِ والعِيال، فسوف يُغنيكم اللهُ من فضلِه، وفي التنزيل:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2).
معاشرَ الشباب: إن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكم يحمل الدعوة ويفسر الهدف ويضع البديل والوجاء «يا معشر الشباب منِ استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصومِ؛ فإنه له وِجَاءٌ» (3). وفي حديث آخر: «تزوّجوا؛ فإني مكاثِرٌ بكم الأُممَ، ولا تكونوا كرهبانية النصارى» (4).
معاشرَ الأولياء: وأنتم مخاطَبون، بل مأمورونَ من اللهِ بإنكاح الأيامى - وهم من لا أزواجَ لهم من رجالٍ ونساء ثيِّباتٍ وأبكارٍ (5)، يقول تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (6).
الوقفة الثالثة: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (7).
(1) د. بكر أبو زيد: حراسة الفضيلة 120، 121.
(2)
سورة النور، الآية:32.
(3)
متفق على صحته.
(4)
هو في «صحيح الجامع الصغير» (2938).
(5)
السعدي «تفسير كلام المنان» 5/ 114.
(6)
سورة النور، الآية:32.
(7)
سورة النور، الآية:33.
معاشرَ الشبابِ: وتلك هي الوصيةُ الثالثةُ لكم، وهذا حكمُ العاجزِ عن النكاح - لسببٍ أو لآخرَ - أمرَه الله أن يستعِفَّ، أي: يكفَّ عن المحرَّم، ويفعلَ الأسبابَ التي تكفُّه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطرُ بإيقاعِه فيه (1).
معاشرَ الشباب: ومهما بلغت دواعي الشهوةِ، ومثيراتُ الفتنِ، ووسائلُ الإغواءِ والإغراءِ، فمن يتَّقِ اللهَ يجعل له مَخرجًا، ومن يَستعفَّ يُعفَّه اللهُ، ومن يستغنِ يغنِه اللهُ.
وما أروع المسلمَ - عمومًا والشبابَ خصوصًا - وهو يتعالى عن مثيراتِ الفتنةِ، ويحفظُ فرجَه عن الحرام، ويستخدمُ نظرَه في الحلال.
قال العارفون: إن العبدَ إذا حفظ فرجَهُ وبصرَه عن الحرام ومقدِّماتِه مع دواعي الشهوةِ، كان حفظُه لغيره أبلغَ، ولهذا سمّاه اللهُ حافظًا:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (2). واعتبر ذلك من صفات المؤمنين.
إنّك لتُسَرُّ غايةَ السُّرور حين ترى طائفةً من الشباب يغضّون أبصارَهم تعفُّفًا وحياءً، وتستحي النساءُ المتبرجاتُ منهم بل تخافُهُم، فضلًا عن أن تُراودَهم على أنفسِهم، مع أن هؤلاء الشبابَ في مرحلةِ هَيَجان الغريزةِ، ولديهم رغبةٌ في النساء، لكنه العفافُ كَفَّهم وآثارُ الصلاح والتُّقى، به اللهُ حرَسَهم، اللهم زِدهم عفافًا وتُقًى، وأَغنهم من فضلك، وعوِّضهم بالحلال عن الحرام ..
وإذا كان ربُّك يَعجبُ من شابٍّ ليست له صبوةٌ، فأحَدُ الثلاثةِ الذين لا يُكلِّمهمُ اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزكيِّهم ولا يَنظرُ إليهم .. شيخٌ زانٍ (3)، وفي مقابل
(1) السعدي: تفسير كلام المنان 5/ 415.
(2)
سورة المؤمنون، الآية:5.
(3)
رواه مسلم في «صحيحه» برقم (107).
ذلك فإنك لتعجبُ غايةَ العجبِ حين ترى كهلًا أو شيخًا كبيرًا لا يزال يُتبعُ النظرةَ النظرةَ، ويحقِّقُ النظرةَ في مواطنِ الزينةِ والشهوة في المرأةِ، مع أن لديه ما يُغنيه ويقضي وطَرَه - لكنها الفتنةُ وضعفُ الدِّيانة - نسألُ اللهَ يَعصمَ هؤلاء ويكفيَهم بما رزقهم، كما نسألُ اللهَ لنا ولإخواننا المسلمين السلامةَ من الفتن، ومنكراتِ الأقوالِ والأفعال.
أيها المسلمون: وهكذا يواجهُ الإسلامُ مشكلةَ الفتنةِ لشهوةِ الفروج مواجهةً عمليةً، فيُرشدُ عمومًا إلى غضِّ الأبصار، وحفظِ الفروجِ، ويأمرُ القادرين بالزواج لتتمَّ لهمُ العفةُ والحصانةُ المشروعةُ، وليحقِّق بالزواج المقاصدَ العظيمةَ، ويوجِّه العاجزين عن الزواج لأيّ سببٍ من الأسباب إلى الاستعفاف، حتى تتهيأَ لهم فرصُ الزواجِ. ويمنعُ من مقارفة وسائلَ أخرى كالزنا واللواط ونحوِها، ويحيط ذلكَ بأوصافِ الفاحشةِ والآثام وانتكاسِ الفِطر، في حين أنه يُثيبُ على قضاء الشّهوة في إطارها المشروع، ويَجزي بالحسنى على غَضِّ الأبصار وحِفظِ الفروج، فهل تَرون تنظيمًا يُداني أو يقاربُ هذا التنظيمَ الربانيَّ؟ ألا إنه يَستحقَّ الاستجابةَ، ويدعو وبواقعيتِه إلى العِفَّة والفضيلة.