الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وَسعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا .. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيينَ.
إخوةَ الإسلام: وثمةَ فائدةٌ، بل عِدَةُ فوائدَ تتعلقُ بحياةِ رجلٍ مجاهد، وصحابيٌّ فاضلٌ، كان في طليعةِ قومه، بل سيدٌ مطاعٌ فيهم، كان له في الجهادِ حظوةٌ .. وفي الشهادةِ مفخرة .. هو من أهلِ بدرٍ، وكفى بأهلِ بدرٍ فخرًا أن يقال لهم:«اعملُوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم» . اهتزّ لموتِه عرشُ الرَّحمن .. ويقال: إن ملائكةَ الرحمنِ شاركت في حملِ جنازته.
إنه سعدُ بنُ معاذٍ الأوسيُّ الأشهليُّ، كان له مع قريشٍ موقفٌ، ومع اليهودِ موقفٌ، ومع المنافقينَ موقفٌ، وقبل هذا وذاكَ كان له مع قومِه موقفٌ مشرفٌ .. وبه نبدأُ؛ لأن سعدًا بهم بدأ بالدعوةِ .. وتأملوا في آثارِ الدعوةِ .. أخرج ابن إسحاق في «السيرة» قال: لما أسلمَ سعدٌ وقفَ على قومه فقال: يا بني عبدِ الأشهلِ، كيف تعلمونَ أمري فيكم؟ قالوا: سيدُنا فضلًا وأيمنُنا نقيةً، قال: فإن كلامَكُم عليَّ حرامٌ، رجالُكم ونساؤكم حتى تؤمنوا باللهِ ورسولِه، قال: فوالله ما بقيَ في دار بني عبدِ الأشهل رجلٌ ولا امرأةٌ إلا وأسلموا (1). أما قريشٌ فقد بلغها إسلامُ سعدٍ عن طريقِ هاتفٍ يهتفُ على أبي قبيسٍ ويقول:
فإنْ يُسلمِ السعدانِ يصبحْ محمدٌ بمكةَ لا يخشى خلافَ المُخالفِ
فقال أبو سفيانَ: من السعدانِ؟ سعدُ بكرٍ، سعدُ تميمٍ؟
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 437.
فسمعوا في الليل الهاتفَ يقول:
أيا سعدُ سعدُ الأوس كنْ أنتَ ناصرًا
…
ويا سعدُ الخزرجينِ الغَطارفِ
أجيبا إلى داعي الهُدى وتمنَّيا
…
على اللهِ في الفردوسِ مُنيةَ عارفِ
فإنَّ ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى جنانٌ
…
منَ الفردوسِ ذاتُ رَفارفِ
لقد تأثرت قريشٌ لإسلامِ سعد .. ففضلًا عن صداقتِه مع بعض زعمائهم قبلَ الإسلام .. كان السيدَ المطاعَ في قومِه .. وبإسلامه دخل في الإسلامِ معظمُهم .. وظلت قريشٌ تُكِنّ له العداوةَ منذ أسلم - وظلّ بعضُ رجالاتها يتحيَّنونَ الفرصةَ للقضاءِ عليه، حتى إذا كانت غزوةُ الأحزابِ رماه (حِبّانُ بنُ العَرقةِ) بسهم في أَكحَلِه - وهو يقول: خذها مني وأنا ابنُ العَرقةِ، فردّ عليه سعدٌ، عَرّقَ اللهُ وجهَكَ في النارِ ثم قال: اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبّ إليّ من أن أجاهدَهُم فيكَ من قومٍ آذوا نبيَّكَ وكذَّبوه وأخرجوه، اللهم إن كنتَ وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعَلْها لي شهادةً، ولا تُمِتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظةَ (1).
ولقد استجابَ اللهُ دعوةَ سعدٍ .. فما قدمتْ قريشٌ إلى المدينةِ بعد الأحزاب .. واندملَ جُرحُه حتى مكَّنه اللهُ من رؤيةِ ما قرَّتْ به عينُه لبني قريظةَ، ثم انفجر الجرحُ ونزفَ الدمُ، وكانت الشهادة لسعدٍ بعد حكمِه في بني قريظةَ - فما هو موقفُه من اليهودِ؟
أخرج البخاريُّ ومسلمٌ وأحمدُ وابنُ سعدٍ عن عبدِ الرحمنِ بنِ سعدِ بنِ معاذ أن بني قريظةَ - حين نقضوا العهدَ وحاصرَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نزلوا على حكمِ
(1) أخرجه أحمد 6/ 141، ابن هشام في «السيرة» 2/ 266، سير أعلام النبلاء 1/ 282، ورجاله ثقات.
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ إلى سعدٍ فجيءَ به محمولًا على حمارٍ وهو مُضنًى من جُرحِهِ، فقال له:«أشِرْ عليَّ في هؤلاءِ» . قال سعدٌ: إني أعلمُ أن الله قد أمركَ فيهم بأمرٍ أنتَ فاعِلْهُ، قال: أجلْ، ولكن أشِرْ، قال: لو وُليتُ أمرَهم لقتلتُ مقاتِلتَهُم، وسبيتُ ذراريَّهم. فقال صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيدِه، لقد أشرتَ عليَّ فيهم بالذي أمرَني اللهُ به» (1).
لقد كان سعدٌ رضي الله عنه من أعرف الناس باليهودِ .. وإن قومًا نكثوا عهدَهم في أحلكِ الظروفِ، ومع خيرِ البرية لا ينفعُ فيهم إلا حزُّ الرءوسِ، وقد كان حكمُ سعدٍ رضي الله عنه موافقًا لحكمِ الله من فوقِ سبعِ سماوات - وهذا الذي أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونفَّذه.
وما أحوجَ الأمةَ اليومَ إلى رجلٍ، بل رجالٍ أمثالَ سعدٍ يتعاملونَ مع اليهودِ بما يستحقون.
أيها المسلمونَ: وهذا السيدُ المجاهدُ البدري - لم يسلم من أذى المنافقينَ ولَمْزِهم - فلقد كان سعدٌ رضي الله عنه رجلًا طوالًا بدينًا - وحين ماتَ واحتملوا جنازتَه وجدوا لها خِفة عجيبةً، فقال المنافقون: والله إن كان لبادنًا وما حملنا أخفَّ منه.
وفي الرواية الأخرى وهي أصحّ إسنادًا: فقال القومُ: ما حملنا يا رسولَ الله ميتًا أخفّ علينا منه، قال:«ما يمنعُه أن يخفَّ وقد هبطَ من الملائكةِ كذا وكذا لم يهبطوا قطُّ قبلَ يومِهم قد حملُوه معكم» (2).
أيها المؤمنونَ: وسعدٌ رضي الله عنه هو الذي اهتزَّ عرشُ الرحمنِ لموتِه، كما أخبرَ
(1) أخرجه البخاري برقم (3043)، ومسلم برقم (1768).
(2)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» بإسناد حسن، وانظر «سير أعلام النبلاء» 1/ 286، 287.
بذلك الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم (1).
ومع هذا الجهادِ والشهادةِ والمناقبِ العظمى .. لم يَسلمْ سعدٌ رضي الله عنه من ضمَّة القبر .. تلكَ التي لا ينجو منها أحد، قال جابر رضي الله عنه: جلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قبر سعدٍ وهو يُدفنُ فقال: «سبحانَ الله! » مرتين، فسبحَ القومُ، ثم قال:«اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ» فكبَّروا، ثم قال:«عجبتُ لهذا العبدِ الصالحِ شُدِّدَ عليه في قبرِه حتى كان هذا حينَ فُرِّجَ عنه» (2).
ما أعظمَ الهوَل يا عبدَ الله: وإذا لم يَسلمْ سعدٌ من أهوالِ القيامةِ وهوَ بعدُ في أوّلِ منازلها .. فكيف الحالُ بعَرَصاتِ القيامة .. وكيف الحالُ بمن هم دون سعدٍ بمراحلَ، رُحماكَ ربي ما أشدَّ الهولَ! وأعظمَ المطَّلعَ! حتى تبيضَّ مفارقُ الولدان، وتضعُ الحواملُ حملَها وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى، ألا فاتخذوا عبادَ الله لهذا اليومِ أُهبته؛ فهناكَ يفرُّ المرءُ من أخيهِ وأمِّه وأبيه، وصاحبتِه وبنيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه.
رضيَ اللهُ عنكَ يا سعد وحشرنا معك، وأعاننا على ما أعانك عليه.
(1) صحح إسناده الذهبي في «السير» 1/ 293.
(2)
أخرجه أحمد، والحاكم في «مستدركه» 3/ 206 وصححه، ووافقه الذهبي.