الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ يُحبُّ التوابينَ ويحبُّ المتطهرينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حببَ إلى عبادِه المؤمنينَ الإيمانَ وزيَّنهُ في قلوبِهم، وكرّه إليهمُ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه هدى الأمةَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، ونهاهم عن المنكراتِ والمكروهاتِ من الأخلاقِ والأعمالِ.
اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
إخوةَ الإسلام:
8 -
وما ظنكم بكبيرةٍ من كبائرِ الذنوبِ حرّمها الإسلامُ، بل وأعلنَ اللهُ الحربَ على مرتكبيها، وأصحابُها ضِمن من لُعنوا على لسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إنهم أكلةُ الرّبا وموكلوه وكتبتُه وشاهدوه، ففي «صحيح» مسلم وغيرِه:«لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الرّبا وموكِلَه وكاتبَه وشَاهدَيْه، وقال: هم سواء» (1).
تُرى كم يَشقي بهذه اللعنةِ أفرادٌ في مجتمعِنا - ممن سوّل لهم الشيطانُ وأملي لهم التكثّرَ بالرّبا .. وهل علمَ هؤلاءَ أن الربا وإن كثُر فعاقبتُه إلى قلّ .. بل هو محقٌ للمالِ وبركتهِ بشهادةِ العليم الخبير: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (2).
وإذا كانت تلك شهادةَ القرآن، فشهادةُ الواقع كذلك برهانٌ على هذا المحقِ، وكم يتحدثُ الناسُ عن أفرادٍ تحولوا بين عشيَّةٍ وضُحاه من دائنينَ إلى مدينين، ومن أغنياءَ إلى فقراءِ، وحتى لو لم يحصلْ لهم شيءٌ من ذلك في الدنيا، فيكفيهم خزيًا وعارًا وندامةً وخُسرانًا، أنهم لا يقومون من قبورهم يومَ القيامة:
(1) أخرجه مسلم (1597)، والترمذي (1206)، وابو داود (3333).
(2)
سورة البقرة، الآية:276.
{إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1)، بابُ التوبةِ مفتوحٌ للمُرابين .. ولكنّ الخلودَ في النار جزاءُ العائدين:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
ألا فخلّصوا أنفسَكم من اللعنةِ يا من تُرابون، وقُوا أنفسَكم الخلودَ في النار يا من تجمعونَ ما لا تأكلون، ولا تجنوا على أنفسِكم وعلى أولادكم بأكلِ السُّحتِ وأنتم تعلمون، ولا تُبارزوا ربَّكم بالمحاربةِ وأنتم المساكين!
9 -
عبادَ الله: وثمةَ خِصالٌ لُعن أصحابُها، تجمع مَن سبَّ والدَيه، أو ذبحَ لغيرِ الله، أو غيَّرَ تخومَ الأرضِ .. فعنها وغيرِها قال صلى الله عليه وسلم:«ملعونٌ من سبَّ أباه، ملعونٌ من سبّ أُمَّه، ملعونٌ من ذبحَ لغيرِ اللهِ، ملعونٌ من غيّر تخومَ الأرضِ، ملعونٌ من كَمِهَ أعمى عن الطريق (أي أضلَّه)، ملعونٌ من وقعَ على بهيمةٍ، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ» (2).
ألا فاحذروا هذه الخِلالَ كلَّها وترفَّعوا بأنفسكم عن مقارفتها.
10 -
وترويعُ المسلمِ موجبٌ للعنةِ، وفي «صحيح» مسلم في كتاب البر والصلة بابُ النهي عن الإشارةِ بالسلاح إلى مسلم، ساق الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيهِ بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعَنُه، وإن كان أخاه لأبيه وأمّه» (3).
وكم يتساهلُ بعضُنا بهذا الأمر، والأمرُ خطير. وكم بدأ بمزاحٍ ثم يتحولُ إلى كارثةٍ وأتراحٍ، فالزموا أمرَ الإسلام، ولا تُروِّعوا آمنًا.
(1) سورة البقرة، الآية:275.
(2)
رواه أحمد بسند صحيح. انظر: صحيح الجامع ح (5767).
(3)
مسلم برقم (2020) و (2616).
11 -
إخوةَ الإسلام: وإياكم والتحايلَ على ما حرَّم اللهُ، فهو وإن خَفيَ على البشرِ فلا يخفى على خالقِ البشرِ، والمُحلِّلُ لامرأةٍ بانت من زوجها والمُحلَّلُ له كلُّهم ملعونون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«لعنَ اللهُ المُحلِّلَ والمُحلَّلَ له» (1).
إن هذا المُحلِّلَ تيسٌ مُستعار. وهو والمحلَّلُ له استحلُّوا ما حرَّمَ اللهُ بالحيلة، وهتكِ المروءة، وقلةِ الحمية، وضعفِ الرقابة للهِ؟
12 -
معاشرَ النساءِ وحين لا تستجيبُ إحداكنُ لأوامر الزوجِ ولا تُطيعُه بالمعروف، فيبيتُ غضبانَ عليها، فإن اللعنةَ تصيبُها فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجلُ امرأتَهُ إلى فراشِه فأبتْ، فباتَ غضبانَ عليها لعنتها الملائكةُ حتى تُصبحَ» .
13 -
معاشرَ الرجالِ: وإياكم وإتيان النساءِ في أدبارهنَّ، فذلك مع استقذارهِ وهو يُفوِّتُ على المرأة حقَّها من الزوجِ، ويخالفُ الهدفَ من الزواج وهو الإعفافُ وابتغاءُ الولد، قال صلى الله عليه وسلم:«ملعونٌ من أتى امرأةً من دبرها» (2).
14 -
أيها المسلمون: وممن لُعنوا في كتاب اللهِ الذينَ يؤذون الله ورسولَه {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (3).
15 -
والذين يكتمونَ ما أنزلَ الله من البينات والهدى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(2)
أخرجه أبو داود (2162)، وابن ماجه (1903) د. صالح الونيان، «صوت المنبر» 2/ 1259.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:57.
اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1).
عبادَ الله: ليس هذا حصرًا للملعونين في كتابِ الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو بيانٌ لشيءٍ منها، وقد عقدَ ابنُ القيمِ رحمه الله في كتابه «الداء والدواء» فصلًا في ذنوبٍ تُدخلُ العبدَ تحت لعنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه الله، فزَادت عنده على ثلاثينَ نوعًا، منها ما سبقت الإشارةُ إليه، ومنها من ضارّ مسلمًا أو مكرَ به، ومن آوى محدثًا، ومن انتَسبَ إلى غير أبيه، ومن سبَّ الصحابةَ، ومن أفسدَ امرأةً على زوجها، ومن جعلَ سبيلَ الكافرينَ أهدى من سبيل المؤمنينَ. إلى غير ذلك. ومن شاء المزيدَ فليرجع إليه (2).
أيها المسلمُ والمسلمة: ادرءوا عن أنفسِكم وأهليكم وأولادِكم أسبابَ لعنِ اللهِ أو لعن رسولهِ صلى الله عليه وسلم إننا نأنفُ من اللعنِ في لغةِ التخاطبِ بيننا، فكيف نرضى باللعنِ من خالِقنا أو نبيِّنا؟ وإذا تطاولَ علينا لاعنٌ بغير حقٍّ دافعْنَا وانتصَرْنا لأنفسِنا. أفلا ندفعُ نزغاتِ الشيطانِ، ونتعالى على أسبابِ اللعن من خالقنا؟ ويومَ أن تسمعوا مثلَ هذه الأخلاقِ السيئةِ والممارساتِ الخاطئةِ المؤديّةِ للعنِ، فلا تظنوا أن المخاطبَ غيرُكم، بل اتهموا أنفسَكم، وجاهدوا أهواءكم، وأصلحوا ذاتَ بينكم، وتناصحوا بالمعروفِ، وتناهَوْا عن المنكر، ولا يأنفْ والدٌ من نصيحةِ ولدِه، ولا يترددُ ابنٌ في نصح أبيه، ولا زوجٌ ولا زوجةٌ في مصارحةِ بعضِهم بعضًا، والمؤمنونَ أخوةٌ وهم نصحةٌ فيما بينهم، والمصيبةُ حين تفشو المنكراتُ ولا مُنكِرٌ، وتحيقُ اللعنةُ أو اللعناتُ في مجتمعِ المسلمينَ ولا
(1) سورة البقرة، الآيتين: 159، 160.
(2)
الداء والدواء، ط المدني ص (83 - 85).
مُنذر أو مُدَّكرٌ، وإذا رأيتَ ثمّ رأيتَ الضيقَ والكَدَرَ، والهمومَ والقلقَ تُحيطُ بفئةٍ من الناسِ فاعلم أنها المعاصي والبعدُ عن هدي المرسلين، ثم تذكّر قوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1).
اللهم إنا نعوذُ بكَ من تحولِ عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميعِ سخطكَ.
(1) سورة طه، الآية:124.