الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاتِلُ البطيءُ
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربّ العالمينَ، أحلَّ لنا الطيباتِ ونهانا عن الإسرافِ فيها، وحرّمَ علينا الخبائثَ والإسرافَ فيها من بابِ أولى.
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، تركَ الأمةَ على محجَّةٍ بيضاءَ، وما توفّاه ربُّه إلا والحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، أما المتشابهاتُ فالسعيدُ من اتقاها واستبرأ لدينهِ وعِرْضِه، ومن ضعُفت همَّتُه ووقعَ في الشُّبهاتِ، فإن ذلك طريقٌ للوقوعِ في المحرماتِ كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه .. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوةَ الإسلام: ما هذا الداءُ الذي وقعَ في شراكِه فئامٌ من المسلمينَ، وتسلَّلت آثارُه من الكبارِ لتصلَ إلى الصغار، وعمَّت البلوى به، فتضررَ غيرُ المتعاطينَ له حين يُصرُّ المُبتلونَ به على تناوله في مجمع الناس وملتقياتِهم العامةِ - وفي حال سفرِهم أو إقامتِهم، إن هذا الداءَ يبدأَ عبثًا أو تقليدًا .. ثم لا يلبثُ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 6/ 1421 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة آل عمران، الآية:102.
أن يتحولَ إلى عادةٍ متأصِّلةٍ يُخيَّلُ للمُبتلى به أنه لا يستطيع الفكاكَ عنه وليس الأمرُ كذلك، إنه وباءٌ يسري في الأمةِ ليخرِمَ مروءَتها وشهامةَ أبنائِها، ويَشيع فيها نوعًا من التبعيةِ والتقليدِ للآخرينَ، وتُشكلُ مدفوعاتُه ضربةً في اقتصادِها، وهو مرضٌ يسري في جسمِ المدخنِ، فلا يكادُ يَمُرّ بعضوٍ إلا أفسدَه، وربما أقعدَه المرضُ، أو كانت الوفاةُ نهايتَه وسبَبه؟
أجل؛ لقد قالوا عن التدخين: إنه القاتلُ البطيءُ، وقالوا: إنه بوابةُ الأمراضِ، وقالوا: إن تسعينَ في المائة من وفياتِ الموتِ المفاجئ من المدخنينَ يرجع إلى جلطة الشُّريان، واحتشاءِ عَضَلةِ القلب؟ وقال أحدُ الأطباءِ:«لقد مضى على معالجتي للسرطانِ خمسٌ وعشرونَ عامًا، فلم يأتني مصابٌ بسرطانِ الحنجرةِ إلا مدخِّنٌ» (1).
وجاءَ في تقريرٍ لأحدِ مراكزِ البحوثِ الأمريكية: إن التدخينَ يؤدي إلى أعلى نسبةِ وفياتٍ في العالم بالمقارنةِ للحروبِ والمجاعاتِ (2).
وهل تعلم أن خمسةً وتسعين بالمائة من مرضى شرايينِ الساقينِ هم من المدخنين (3).
ومن رأي الطبّ إلى حكمِ الشرعِ .. يقول سماحةُ الشيخ ابن بازٍ رحمه الله: والدخانُ بأنواعه كلِّها ليس من الطيباتِ، بل هو من الخبائث، لا يجوزُ شربُه ولا بيعُه ولا التجارةُ فيه كالخمر، والواجبُ على هؤلاء البِدَارُ بالتوبة إلى اللهِ، والندمُ على ما مضى، والعزمُ على ألا يعودَ، ومن تابَ صادقًا تابَ اللهُ عليه (4).
(1) السيجارةُ في قفص الاتهام، دار ابن خزيمة (132).
(2)
النشرة السابقة ص 4.
(3)
النشرة السابقة.
(4)
فتاوى شرعية في حكم بيع الدخان وتعاطيه، اللجنة الخيرية بجدة.
إن من المؤسفِ - حقًّا - أن يُحاصَرَ التدخينُ، وتقلّ نِسبُ المدخنينَ في البلادِ التي تصنع (التبغَ) وتصدِّره نتيجةَ حملاتِ التحذيرِ والمكافحةِ، ووضعِ الغراماتِ على الشركاتِ المنتجةِ.
أما بلادُ المسلمين فتظلُّ سوقًا للتصدير، تُزادُ فيها نِسبُ (النيكوتين) وترتفعُ معدلاتُ المدخنين؟
وهنا وقفةٌ للتأمُّل، وحقائقُ لا بد أن نَعِيَها، وندركَ الدرسَ من خلالها، ومن هذه الحقائق: أكتفي بقضيتين:
1 -
تعهدتْ شركاتُ التبغِ الأمريكية بدفع غرامةٍ مقدارُها ثمانٌ وستون وثلاثُمائة بليون دولار، وذلك لتسديدِ الدعاوى القضائيةِ الموجهةِ ضدَّها، وعلاجِ المتضررينَ من التدخين.
2 -
وتدفعُ شركاتُ التبغ - كذلك - بليوني دولار سنويًّا لتمويلِ برامجَ مكافحةِ التدخين داخلَ أمريكا، والسعي لتخفيضِ نسبةِ التدخين بين المراهقين بنسبةِ 10% خلالَ عشرِ سنوات، وإذا لم يتحقَّقْ ذلك تدفعُ غرامةً أخرى تصلُ إلى بليوني دولار سنويًّا.
فهل يُصنعُ مثلُ ذلك أو قريبٌ منه في بلادِ المسلمينَ مع هذه الشركاتِ المنتجةِ والمصدِّرةِ؟ وما الأثرُ الذي خلَّفتْه هذه الإجراءاتُ وجودًا أو عدمًا؟
والجوابُ: في لغةِ الأرقام التي تقول:
إن الحربَ التي تشُنها دولُ أمريكا وأوربا على التدخين أدّى إلى انخفاضِ نسبةِ المدخنين، فقد انخفضت مبيعاتُ التدخين في أمريكا ما بين عام تسعينَ وخمسٍ وتسعينَ وتسع مائةٍ وألف للميلاد (1990 - 1995) بنسبة 5.4%، وأمريكا اللاتينية بنسبة 2.11%، وفي أوربا الغربية بنسبة 7.1%، بينما يختلفُ
المؤشرُ في دول آسيا، إذ زادت مبيعاتُ التدخين بنسبة 8.8%، وجاءت أعلى نسبةِ زيادةٍ في العالم في الشرق الأوسط حيث بلغت 7.17%؟ ! (1).
إنها حقائقٌ مرةٌ، وأرقامٌ مذهلةٌ، خلاصتُها تعويضُ البلادِ الإسلامية لخسائرِ شركاتِ التبغ في الدولِ الغربية، وهنا يلحّ سؤالٌ: أَلَدى شعوبِ هذه الدولِ الكافرةِ موانعُ محذرةٌ عن التدخين أكثرُ مما لدى أبناءِ وشعوبِ المسلمين؟ أم بلغ أولئك القومُ حدًّا من الوعي ومستوى من التفكيرِ لم يبلُغْه المسلمونَ بعد؟
إن لدى المسلمَ من الموانعِ عن التدخين، ونصوصِ الترغيبِ والترهيبِ، ومفاهيمِ الثوابِ والعقابِ - بما يتجاوزُ الدنيا إلى الآخرة - ما لا يوجدُ مثلُه عند الأممِ الكافرةِ، ولكن الفرقَ في مستوى الوعي، والقدرةِ على ضبطِ النفسِ، وعلوِّ الهِمَّةِ، وتحكيمِ العقلِ.
نعم إن المدخنَ لا يجهلُ أثرَ التدخين، ولا ينكرُ أضرارَه، بل لعله أقدرُ من غيره على التعبيرِ عن هذه الأضرار، لكنه محتاجٌ إلى قرارٍ حازمٍ، وإرادةٍ قويةٍ تضعُ حدًّا للتسويف، وتنهي الصراعَ بين العاطفةِ ممثلةً في الشهوةِ الآسرة، وبين نداءِ الفطرةِ والعقلِ والدِّين التي تنظم الشهوةَ وتضعُ جسورًا فاصلةً بين الحلالِ والحرام، وتميزُ الضَّارَّ من النافع؟ كم تُنظّمُ من حملاتٍ توعويةٍ عن التدخين، وقد يكون المدخنونَ أقلّ الناسِ عنايةً بها واستماعًا لبرامجها.
وكم نرى أو نسمعُ من ملصقاتٍ عن أضرارِ التدخينِ وضرورة الإقلاعِ عنه .. والمؤسفُ حين يكون المدخنونَ أقلَّ من غيرِهم في الوقوفِ عليها والاستفادةِ منها.
على أن ذلك لا يلغي أهميةَ التوعيةِ، ولا يعني الإحباطَ من آثارِ الحملاتِ ..
(1) رسالة من القلب عن التدخين، عن اللجنة الخيرية لتوعية الشباب وحمايتهم من أضرار التدخين، جدة.
فالحقُّ أن لهذه الحملاتِ أثرَها، وقد أقلعَ - بتوفيقِ الله أولًا، ثم بسببِ هذه الحملاتِ - عددٌ من المدخنينَ، وتركوا التدخين إلى غير رجعة.
ولكنا لا نزالُ نخاطبُ فئةً من المدخنين تتصورُ - وهي مخطئةٌ - أن الحملاتِ لا تعنيها، وأن لغةَ الخطابِ لم تلامسْ - بعدُ - شغافَ قلوبِهَا.
مهلًا أيّها المدخن، فأنت المستفيدُ إن أقلعتَ، وأنت الخاسرُ إن أصررتَ - وحسبكَ أن تقدرَ للناصحينَ نُصحَهم، ومن تمام عقلِكَ ومروءتك أن تَفتحَ قلبكَ لمن يُهدي إليك عيوبكَ، ويفتحُ لك نافذةَ الخلاصِ من داءٍ يُقلقك دينًا ودنيا.
أخي المدخن: إني لك ناصحٌ وعليك مشفقٌ، وكم تُسعدُني وتُسعدُ الناصحينَ غيري حين تُشعرُنا بالاستجابة، وتُعلنُ بينكَ وبين نفسِك أو على ملإٍ من أصحابِكَ مفارقةَ التدخينِ إلى غير رجعةٍ، فإن قلتَ: أعدُكم بالتفكيرِ وسوف أسعى جاهدًا للخلاص، فلا تنس سلاحَ الدعاءِ ولا يَطُل بك أمدُ التسويفِ، فالليالي حُبلى بكلِّ جديدٍ، وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غدًا وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، وكم تُسعدُ أنتَ ونسعدُ من ورائكَ حين تنتقلُ إلى جوارِ ربّك تائبًا من كلّ معصيةٍ طالما أصررتَ عليها، واحمدْ ربَّك أنك تنتسبُ إلى دينٍ يدعو إلى التوبةِ ويعظمُ أجرَها .. بل وتبدَّلُ فيه السيئاتُ حسناتٍ، ويفرحُ الربُّ ويتحققُ الفلاحُ.
وباسم الإسلامِ والإيمانِ نُذكِّرك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1).
اللهم انفعنا بهدي القرآنِ وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام .. أقول ما تسمعون.
(1) سورة الأحزاب، الآية:36.