الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ثمرات الأمن في الأوطان وأسبابه
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، منَّ علينا بنعمةِ الإيمان والأمنِ في الأوطان، والصحةِ والسلامةِ في الأبدان {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (2).
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، كلَّ يومٍ هو في شأن، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياءِ والمرسلين، ورضي الله عن أصحابه والتابعينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
فأما بعد:
فاتّقوا الله أيها الناس: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3).
هذه وصيةُ الله لكم فاعقِلوها، وهذه نعمةُ ربِّكم فاشكروها.
أيها المسلمونَ: وحين نلتفتُ إلى الماضي قليلًا نتذكرُ ما نحن فيه من نعمةٍ حديثًا، لقد كانت هذه البلادُ - كما يحدِّثُنا التاريخُ في فترةٍ من الزمن - مسرحًا للفتن والحروبِ والنَّهب والسَّلبِ، حتى مَنّ اللهُ على أهلها بظهور دعوةِ التوحيد
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 6/ 1421 هـ.
(2)
سورة النحل، الآية:53.
(3)
سورة الطلاق، الآيتين: 2، 3.
(4)
سورة آل عمران، الآيتين: 102، 103.
على يد الشيخِ الإمامِ المجدِّد محمدِ بن عبدِ الوهابِ يرحمه الله، وبمؤازرةٍ كريمةٍ من الإمام محمدِ بن سعودٍ يرحمُه اللهُ، وحينها التقى العلماءُ والحكامُ على نصرةِ هذا الدين، والقضاءِ على مظاهرِ الشركِ والفسادِ، فقامَ سلطانُ الدينِ ظاهرًا قويًّا، أمنَ الناسُ على أموالهِم، وأهليهم وعبدوا ربَّهم على علم وبصيرةٍ.
ولكنَّ الشانئينَ والحاسدين لم تطبْ نفوسُهم بهذا، وأجلبَ الشيطانُ بخيلِه ورَجِلِه على جندِه وأتباعِه، وعادِت الجزيرةُ - بعد حين من الدهرِ - مرة أخرى مسرحًا للسلبِ والنهب .. يعلو سلطانُ الحقِّ تارةً .. وترتفع أعلامُ الجاهليةِ تارةً أخرى، تُسفكُ الدماءُ، وتُستحلُّ المحارمُ، ولا يأمنُ المرءُ على نفسِه ومَن حولَه.
وفي ظل هذه الأجواء القلقة ينامُ المرءُ حين ينام وشبحُ اللصوصِ يمرُّ على خياله، ويستيقظُ حين يستيقظُ فرحًا مسرورًا إذ لم يكن شيء من عوَّادِ الدهرِ وفاجعاتِ الأحداثِ أصابَه.
يكسَبُ كلَّ يومٍ مرَّ وهو آمنٌ في سِرْبه، ولم يُخدش فيه حياؤه، أو تُسلبْ أموالُه، أو تُنهَ حياتُه، وما أطولَ ليلَ الخائفين! وما أشدَّ فرحَ غير الآمنين بضوءِ النهار يكشفُ لهم الحقيقة، ويخيفُ الغادرين، تُرى في هذه الأجواءِ أيطمئنُّ المسلمُ في عبادته لربِّه؟ وفي ظل هذه الظروف أتستقرُّ الحياةُ وينعمُ الأحياءُ؟ وأنّى للدعوة والخير أن تنتشرَ، وحِلَقُ العلم معطلةٌ، والعلماءُ كغيرهم لا يأمنونَ على أنفسِهم فضلًا أن يوفِّروا الأمنَ لمن يَحمل العلمَ عنهم.
إنها صورٌ ينبغي أن نتذكَّرَها، وإن لم يعش بعضُنا أحداثَها .. وإن كان يفصلُ بيننا وبينها عقودٌ من الزمن.
إخوةَ الإسلام: إن اغتباطَنا بما نحن فيه الآنَ من نعمةِ الأمنِ لا ينبغي أن ينسينا الماضي، بل إن من التحدُّث بنعمةِ الله أن نقارنَ بين الماضي والحاضر،
ونتذكرَ بها نعمةَ اللهِ علينا في الحاضر.
أجل، لقد بدأ شبحُ الظلام يتوارى شيئًا فشيئًا، وفي كل بقعةٍ يتوارى الظلامُ تشعُّ فيها أنوارُ المعرفةِ والأمنِ والاستقرار .. حتى عمَّ الخيرُ وانتشر الأمنُ، وساد العلمُ وانطوى بساطُ الجهلِ .. وكانت بلادُ الحرمين مأوى الأفئدةِ، وملاذَ الخائفين، وبها تتوفرُ فرصُ العيشِ للوافدين .. فلك الحمدُ ربَّنا، وجزا اللهُ كلَّ من أسهمَ في نشرِ الخير وتوطيدِ دعائمِ الأمن في بلادِنا.
عبادَ الله: إن الأمنَ في الأوطانِ نعمةٌ لا يقدِّرُها حقَّ قدرِها إلا من عرفَ أو عاشَ خلافَها، وقد يتصورُ المرءُ خطًا وهو يعيشُ حالةَ الأمن والاستقرار أنَّ الناسَ كلَّهم كذلك، وليس الأمر كذلك {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (1).
وفي حالِ غفلةِ الإنسان قد ينسى أو يجهلُ ثمراتِ الأمن .. وللأمنِ ثمراتٌ كثيرةٌ، ومنها: تحقيقُ العبوديةِ لله، والقيامُ بشرائع الدينِ كما أمرَ اللهُ، وكما جاء بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهل يستطيعُ الخائفُ أن يعبدَ ربَّه كما أراد، والحق تبارك وتعالى يربطُ بين العبودية له، وبين الأمنِ وتوفُّرِ المَطعم، ويقول:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (2).
إن توفرَ الأمن، ورغَدَ العيشِ مقوماتٌ أساسيةٌ للعبادة، وما من عبادةٍ إلا وتحتاجُ إلى هذا وذاك.
وإن فقدانَ الأمن، وشظفَ العيشِ بلوى يمتحنُ اللهُ بها عبادَه، ولكن الصبرَ طريقُ الفرج {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ
(1) سورة العنكبوت، الآية:67.
(2)
سورة قريش، الآيتين: 3، 4.
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (1).
ومن ثمراتِ الأمنِ في الأوطان: رخاءُ العيشِ، واستقرارُ الحياة، فإذا كان الإيمانُ سببًا للأمنِ كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2).
فبركاتُ السماءِ والأرضِ تُفتَحُ لأهل الإيمان: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (3).
إن الأمنَ ضرورةٌ لاستقرارِ الحياةِ ورَغَدِ الأحياءِ فبالأمنِ تُؤمنُ السُّبلُ، وتُجلبُ الخيراتُ، ويأمنُ التجارُ على أنفسِهم وأموالِهم، وبالأمنِ يُقمعُ الفسادُ، ويؤخذُ على أيدي المفسدين، وتكسدُ تجارةُ اللصوصِ ويُذلُّ (الشّطار).
ومن ثمراتِ الأمنِ: انتشارُ العلمِ وكثرةُ العلماءِ، والعلمُ أساسُ الحضارةِ، وميزانٌ لتقدمِ الدولِ، وهو مع الإيمانِ مجالُ سباقِ الأمم.
أما العلماءُ فهم ورثةُ الأنبياءِ عليهم السلام بهم يفتحُ اللهُ قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعيُنًا عُميًا. وأنَّى للعلمِ أن ينتشرَ حين يُخافُ العلماءُ، وأنّى لأمةٍ أن تُسابقَ الزمنَ وأبناؤها خائفون على أنفسِهم، مشغولون بلقمةِ العيشِ لهم ولمن حولَهم؟ وحتى لو وُجِدَ علماءُ جُرَءاء، ينشرون العلم سرًّا في ظروفِ الخوفِ والقلق، فليس ذلك سبيلَ انتشارِ العلم، وإنما يهلكُ العلمُ إذا كان سِرًّا، وإنما سبيلُ نشرِه ونموِّ مؤسساتِه حين يتوفَّرُ الأمنُ، وتستَقرُّ الحياةُ، ويأمن الأحياءُ.
إخوةَ الإسلام: إن تحقيقَ الأمنِ مكسبٌ لنا جميعًا، وتوفيرُ الأمن مسئوليتُنا جميعًا، وعلى كلِّ واحدٍ منا كِفلٌ في تحقيق الأمنِ، وكلٌّ منّا مُطالبٌ أن يكون
(1) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.
(2)
سورة الأنعام، الآية:82.
(3)
سورة الأعراف، الآية:96.
عينًا ساهرةً للكشفِ عن أوكارِ المفسدين، وتوفيرِ الأمن والأمانِ له ولإخوانِه المسلمين .. فمن رأى مُنكم منكرًا فليغيِّرْه بيدِه، وحين نغفلُ عن هذا الواجبِ، فسنتعرّضُ جميعًا للشِّقْوةِ ونكدِ العيشِ في الدنيا، والمصيبةُ أعظم إذا امتدّت شقوةُ الدنيا بضنكِ الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (1).
(1) سورة النحل، الآية:111.