الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد مختارة، والصحابي الذي اهتز له عرش الرحمن
(1)
الخطبة الأولى:
إخوةَ الإسلام: ما أحوجَنا على الدوامِ للتفكيرِ في المبدأ والمعادِ، وحقيقةِ الحياةِ، ومصيرِ الأحياءِ، وطبيعةِ الحياةِ الدُّنيا والسعيِ للآخرة.
وسأختارُ لكم قُصاصاتٍ معبِّرةً، وفوائدَ مختارة، تنيرُ الطريقَ، وتُبصِّرُ السالكَ، سطَّرها يَراعُ العلماء، وإنما أرادوا بها تنبيهَ الغافلِ .. وشحذَ الهِمَمِ.
الفائدةُ الأولى: المبدأُ والمعادُ حقيقةٌ يؤمنُ بها المؤمنونَ، ويرتابُ فيها الكافرونَ والمنافقونَ، وبراهينُ المعادِ، وأدلَّتُه في القرآنِ كثيرةٌ، وهي مبينةٌ على أصولٍ ثلاثةٍ:
أحدها: تقريرُ كمالِ علمِ الربّ سبحانه وتعالى، كما جاء الردُّ على من قال:«من يُحيي العظامَ وهي رميمُ» {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (2).
الأصل الثاني: تقريرُ كمالِ قدرتهِ تعالى كقولهِ تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (3). وقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (4).
الأصل الثالث: كمالُ حكمتهِ، كقولِه تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (5). وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 11/ 1421 هـ.
(2)
سورة يس، الآية:79.
(3)
سورة يس، الآية:81.
(4)
سورة القيامة، الآية:4.
(5)
سورة الأنبياء، الآية:16.
تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (1).
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: ولهذا كان الصوابُ أن المعادَ معلومٌ بالعقلِ مع الشرعِ، وأن كمالَ الربِّ تعالى وكمالَ أسمائه وصفاتِه تقتضيه وتُوجِبُه (2).
الفائدةُ الثانية: للعبدِ سترٌ بينَه وبين اللهِ، وسِترٌ بينه وبين الناسِ، فمن هتكَ السترَ الذي بينه وبين اللهِ، هتكَ اللهُ السترَ الذي بينه وبين الناسِ.
وللعبدِ ربٌّ هو ملاقيهِ، وبيتٌ هو ساكِنُهُ، فينبغي له أن يسترضيَ ربَّه قبل لقائِه، ويعمرَ بيته قبل انتقالِه إليه.
الفائدةُ الثالثة: قالوا: أصولُ الخطايا كلُّها ثلاثةٌ: الكِبرُ، والحِرصُ، والحَسدُ. فالكِبرُ هو الذي أصارَ إبليسَ إلى ما أصارَهُ، والحرصُ هو الذي أخرجَ آدمَ من الجنةِ، والحسدُ هو الذي جرّأَ أحدَ ابنَي آدمَ على أخيهِ، فمن وُقِيَ شرَّ هذه الثلاثةِ فقد وقيَ الشرَّ، فالكفرُ من الكِبرِ، والمعاصي من الحِرصِ، والبغيُ والظلمُ من الحسدِ.
الفائدة الرابعة: احذر يا عبدَ الله من هجرِ القرآنِ، وهجرُ القرآنِ أنواع: فمنها:
هجرُ سماعِه والإيمانِ به والإصغاءِ إليه.
الثاني: هجرُ العملِ به والوقوفِ عند حلالِه وحرامِه وإن قرأه وآمنَ به.
الثالث: هجرُ تحكيمِه والتحاكمِ إليه في أصولِ الدينِ وفروعهِ.
الرابع: هجرُ تدبُّرهِ وتفهُّمِه ومعرفةِ ما أرادَ المتكلمُ به منه.
الخامس: هجرُ الاستشفاءِ والتداوي به في جميعِ أمراضِ القلوبِ ودوائها، فيطلبُ شفاءَ دائه من غيره ويهجرُ التداوي به، وكلُّ هذه الأنواع من الهجرِ داخلةٌ
(1) سورة الأنبياء، الآيتين: 115، 116.
(2)
الفوائد (29).
في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1).
الفائدةُ الخامسة: من قواطعِ سيرِ المرءِ عن الآخرةِ تعلُّقُه بالمألوفِ من ملاذِّ الدُّنيا، وقد يخيلُ الشيطانُ للإنسانِ بصعوبةِ تركِ المألوفِ، وإنما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ من تركها لغيرِ اللهِ، أما مَنْ تركَها صادقًا مخلصًا في قلبهِ لله، فإنه لا يجدُ في تركِها مشقةً إلا في أوّلِ وهلةٍ ليُمتَحنَ أصادقٌ هو في تركِها أم كاذبٌ، فإنْ صبرَ على تلك المشقةِ قليلًا استحالتْ لذةً.
وهذه الفائدةُ تشجعُ المبتَلينَ على تركِ ما ابتُلوا من أمورٍ محرَّمةٍ.
الفائدةُ السادسة: قال بعضُ الزُّهادِ: ما علمتُ أن أحدًا سمعَ بالجنةِ والنارِ، تأتي عليه ساعةٌ لا يطيعُ اللهَ فيها بذكرٍ أو صلاةٍ أو قراءةٍ، أو إحسانٍ، فقالَ له الرجلُ: إنِي أُكثرُ البكاءَ، فقال: إنك إن تضحكْ وأنت مُقرٌّ بخطيئتكَ، خيرٌ من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ على الله بعملِكَ .. ثم قال الرجلُ للزاهد: أوصني، فقال: دَعِ الدُّنيا لأهلِها كما تركوا همُ الآخرةَ لأهلِهَا، وكن في الدُّنيا كالنحلةِ؛ إنْ أكلتْ أكلت طيبًا، وإن أطعمتْ أطعمتْ طيبًا، وإنْ سقطتْ على شيءٍ لم تكسِرْهُ ولم تخدِشْهُ.
الفائدةُ السابعة: في ظلال قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2).
ففي هذه الآية عِدّةُ أسرارٍ وحِكمٍ ومصالحَ للعبدِ؛ فإن العبدَ إذا علمَ أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوبِ، والمحبوبُ قد يأتي بالمكروهِ، لم يأمن أن توافيه المضرةُ من جانب المَسرّةِ، ولم ييأس أن تأتَيه المسرةُ من جانب المضرَّةِ، لعدم
(1) سورة الفرقان، الآية:30.
(2)
سورة البقرة، الآية:216.
علمِه بالعواقبِ، فإنَّ اللهَ يعلمُ منها ما لا يعلمُهُ العبدُ .. ومن هنا فعلى العبدِ أن يطمئنّ لقضاءِ الله وقَدرِه، وأن لا يقلقَ لمكروهٍ ينزلُ به - فقد يكون فيه الخيرُ - وألا يُنسيه الفرحُ بالنعمةِ تحصلُ له ما قد تجرُّه عليه من ويلاتٍ ومكارهَ.
الفائدةُ الثامنة: بم تفكِّر بين هَمّ الدنيا والآخرة؟ قال العارفون: فرِّغْ خاطرَكَ للهمِّ بما أُمرتَ به، ولا تُشغله بما ضُمنَ لك، فإن الرزقَ والأجل قرينان مضمونان، فما دامَ الأجلُ باقيًا، كان الرزقُ آتيًا، وإذا سَدّ عليكَ بحكمتهِ طريقًا من طرقه، فتحَ لك برحمتِه طريقًا أنفع لك منه، فتأمل حالَ الجنينِ يأتيه غذاؤه وهو الدمُ من طريقٍ واحدةٍ وهو السُّرة، فلما خرجَ من بطنِ الأُم وانقطعتْ تلك الطريقُ، فتح له طريقينِ اثنين، وأجرى له فيهما رزقًا أطيبَ وألذّ من الأولِ لبنًا خالصًا سائغًا، فإذا تمّت مدةُ الرَّضاع وانقطعتِ الطريقانِ بالفطامِ، فتحَ له طُرقًا أربعةً أكمل منها: طعامان وشرابان؛ فالطعامان من الحيوانِ والنبات، والشرابانِ من المياهِ والألبان، وما يُضاف إليهما من المنافعِ والملاذِّ، فإذا ماتَ انقطعت عنه هذه الأربعةُ الطرقُ، لكنه سبحانه يفتح له - إن كان سعيدًا - طرقًا ثمانيةً، وهي أبوابُ الجنةِ الثمانيةِ، يدخلُ من أَيِّها شاءَ، فهكذا الربُّ لا يمنع عبدَه المؤمنَ شيئًا من الدُّنيا إلا ويؤتيهِ أفضلَ منه وأنفعَ له (1).
الفائدةُ التاسعة: أنواعُ الدراهم وأفضلُ الكسب، وما نوعُ درهمكَ قالوا: الدراهمُ أربعةٌ: درهمٌ اكتُسبَ بطاعةِ الله، وأُخرجَ في حقِّ الله، فذاكَ خيرُ الدراهم، ودرهمٌ اكتُسبَ بمعصيةِ الله وأُخرجَ في معصيةِ الله، فذاكَ شرُّ الدراهمِ، ودرهمٌ اكتُسبَ بأذى مسلمٍ، وأُخرجَ في أذى مسلمٍ فهو كذلك، ودرهمٌ اكتُسبَ بمُباحٍ وأُنفقَ في شهوةٍ مباحةٍ، فذاكَ لا له ولا عليه.
(1) الفوائد (75) النفائش.
الفائدةُ العاشرة: ذكرى وتحذير .. كم يُفرِّطُ بعضُ المسلمينَ في الصلاة وهي عمادُ الدِّين، وكم يؤدِّيها أناسٌ على غير هَدي المرسلين فينقرونها نقرَ الغُراب، أو يسهونَ عنها في أوقاتها، والله تعالى توعّدَ وقال:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (1).
إن المحافظة على الصلاة علامةُ الوارثين للفردوسِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2). والويلُ لمن أضاعها وأولئكَ لهم الغيُّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (3).
كم تشهدُ الفُرشُ على المتأخرينَ عن الصلواتِ المفروضةِ، وكم تئنُّ المساجدُ على المنشغلينَ عن عمارتها بعمارةِ القصورِ والضيعاتِ الدنيوية الفانية.
قرأ عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} . ثم قال: لم تكن إضاعتُهم تركَها، ولكن أضاعوا الوقتَ (4).
وقال الحسنُ البصري: عطَّلوا المساجدَ ولزموا الضيعاتِ (5).
إن العزاء يُقدَّم لمن فاتَتْهُ صلاةٌ مفروضة، فكيف بمن فاتته صلواتٌ، وفي صحيح السنة:«الذي تفوتُه صلاةُ العصرِ كأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» (6). والمعنى: نقص أهلُه ومالُه (7).
وإذا كان العزاءُ يقدمُ لمن فقدَ شيئًا من ولده .. فكيف بمن نُقِصَ في أهلِه
(1) سورة الماعون، الآيتين: 5، 6.
(2)
سورة المؤمنون، الآيات: 9 - 11.
(3)
سورة مريم، الآية:59.
(4)
تفسير ابن كثير للآية.
(5)
المصدر نفسُه.
(6)
رواه الجماعة، خ 2/ 24، مسلم برقم (626).
(7)
جامع الأصول 5/ 204.
وولدِه؟ إن هذه الصلواتِ الخمسَ لا يحافظُ عليهنَّ إلا مؤمنٌ يرجو ثوابَ اللهِ ويخافُ عقابَه - فهي ليست ليومٍ أو يومين أو سنةٍ أو سنتين .. بل في كلِّ يومٍ خمسُ مراتٍ مفروضة عدا السننِ والرواتبِ المشروعةِ - ولذا يضيقُ المنافقونَ بالصلاةِ ولو أدوها كسالى يُراءون الناس - والامتحانُ الكاشفُ للمصلينَ صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العشاءِ؛ فهنّ أثقلُ صلاتين على المنافقين، ولو يعلمونَ ما فيهما من الأجرِ لأتوهما ولو حَبْوًا .. ألا فجدِّدوا إيمانَكُم وأقيموا الصلاةَ بأوقاتِهَا وواجباتِهَا وسُننها، تكونوا من المفلحين، وإياكم وتلاعبَ الشيطان ووسوستَه، وجاهدوا أنفسكم على الخشوع في الصلاة فالله يقول:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1).
أيها المؤمنون: إننا نخطئُ بالليلِ والنهارِ، ومن رحمةِ الله بنا فرضَ الصلاةَ علينا، فهن كفاراتٌ .. وهنَّ أشبه بنهرٍ جارٍ يغتسلُ منه المصلونَ كلَّ يوم خمسَ مراتٍ، فهل يبقى على أولئك من دَرَنٍ .. إنه فضلُ الله يؤتيه من يشاء، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسِه.
(1) سورة البقرة، الآية:45.