الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشاعر ما بعدَ رمضانَ
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله جعلَ في تعاقبِ الليلِ والنهارِ وقضاءِ الشهور والأيام آيةً لمن أرادَ أن يذّكر أو أرادَ شكورًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، تفضّلَ على عباده بمواسمِ الطاعاتِ لتعظيمِ أجورِهم، وشرعَ لهم من أيام الأعيادِ والأفراحِ والمسرّاتِ ما تطيبُ به نفوسُهم وتَنْشرحُ له صدورُهم، ووعدهم بالمزيد في حال شكرِهِم، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان ومن سبقَه من الأنبياءِ شاكرينَ لربِّهم، ذاكرينَ لخالقِهِم. اللهمّ صلِّ وسلِّم عليهم أجمعين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2).
إخوة الإيمان: قبلَ أيامٍ ودّعْنا رمضانَ .. ودّعَنا رمضانُ إلى عامٍ قابلٍ، سيكون بعضُنا حينها شاهدًا حَيًّا، وسيكون آخرونَ غائبينَ في عِداد الموتى .. وإلى ذلك الحين، بل وفي كلّ حينٍ نستودعُ اللهَ دينَنا وأماناتِنا وخواتيمَ أعمالِنا لمن كتبَ اللهُ له الحياةَ، أو قدّر عليه المماتَ.
أجل؛ لقد ودّعَ المتقونَ رمضانَ بالدموعِ من العيونِ والحزنِ من القلوبِ .. إنّهم حَزِنونَ على فُرَصِ الطاعةِ من صيامٍ وقيامٍ وذِكْرٍ وتلاوةٍ وإحسانٍ .. وحَزِنون على أيامٍ فُتحتْ فيها أبوابُ الجنةِ وكَثُر العُتقاءُ من النارِ .. وصُفِّدت الشياطينُ، حزِنون على ذهاب أيامِ نالت النفوسُ من التقوى حظَّها .. ومن شهودِ آياتِ الله
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 10/ 1421 هـ
(2)
سورة آل عمران، الآية:102.
في الأنفسِ والآفاقِ ما عظّمَ الخالقَ في قلوبها .. حَزِنون على أيامٍ تُعَمَّرُ فيها المساجدُ بالمصلينَ والتَّالينَ والذاكرينَ ..
إي وربي، إنهم حزِنونَ على كلِّ فرصةٍ للطاعةِ تُضاعَفُ فيها المثوبة، وحزِنونَ أكثر إذ تَهْجُرُ فِئامٌ من المسلمينَ هذه الطاعاتِ أو بعضَها إلى رمضانَ القادمِ .. وبين الرمضانيين مَفاوزُ لا تنقطعُ فيها أعناقُ الإبلِ فقط، بل وتنقطعُ فيها أنفاسُ البشر، ويرحلُ عن هذه الحياةِ جُموعٌ من المسلمينَ استكملت رزقَها وأجلَها، وأتاها اليقينُ من ربِّها.
أيّها المسلمونَ: لقد فازَ في رمضانَ من جاهدَ نفسَه على طاعةِ الله، فكانَ في عِدادِ الحافظينَ لصيامِهِم من قولِ الزورِ وعملِ الزورِ، وكانَ في عدادِ القائمينَ والراكعينَ والساجدينَ والمستغفرينَ بالأسحارِ .. وكان من المساهمينَ في الدعوةِ والإحسانِ .. أجل، إنها نفوسٌ استطاعت أن تَشُدّ المَآزِرَ، وأن تتجافى المضاجِعَ .. وأن تتغلبَ على أهواءِ النفسِ .. وعسى اللهُ أن لا يحرمَ هؤلاءِ الأجرَ، وأن يُضاعِفَ لهم المثوبةَ، وأن يتجاوزَ لهم عن الخطيئةِ والغفلةِ، ولكن ماذا بعدَ رمضانَ؟ إن ثمّةَ فئةً أُخرى قادرةٌ على مواصلةِ المسيرِ بعد رمضانَ .. وعندها هِمّةٌ على مراقي العزّ في شوالَ وما بعدَه من أيام وشهورِ العام .. أولئكَ أحسُّوا بلذةِ الطاعةِ فما عادوا يُطيقونَ هجرَها .. وأولئكَ وفَّقهمُ الله لعملِ الحسنةِ على إثرِ الحسنة. وعملُ الحسنةِ اللاحقةِ مؤشّرٌ على قَبول الحسنةِ السابقة، وفضلُ اللهِ يؤتيه من يشاءُ، أولئكَ يَسْتَشْعِرونَ أن قِصَرَ الحياةِ الدنيا - بجانب الآخرةِ - لا يستحقُّ أن يُصرَفَ من العمرِ شيءٌ بالعبثِ واللَّهوِ والغفلةِ والتفريط .. وهذه الحياةُ الدنيا متاعٌ، والآخرةُ دارُ القرارِ.
يا أخا الإسلامِ: وحين تزدحمُ هذه المشاعرُ الفياضةُ بعد رمضانَ .. فإني
سائلُكَ .. وأدَعُ الإجابةَ لكَ فأنتَ على نفسِكَ رقيبٌ .. ولن يكونَ أحدٌ أحرصَ منكَ على نجاةِ نفسِكَ وإسعادِها.
والسؤالُ الموجّه يقول: بِم تُفكّرُ بعدَ انقضاءِ شهرِ رمضانَ؟ وأُسارعُ إلى مساعدتِكَ في اختيارِ الجواب لأقولَ لك: إن كنتَ عَزَمتَ على مواصلةِ الخيرِ فرعاكَ اللهُ وسدَّدكَ ووفَّقكَ وأعانكَ، وأَنتَ أهلٌ لحُسنِ الظنّ بكَ، وإن ضعُفتْ نفسُكَ وفكّرتَ بأمرِ سوء .. وهممتَ بنقضِ غَزْلِكَ في رمضانَ، والعودة إلى مُنكراتٍ كنتَ تُزاوِلُها قبلَ رمضانَ، فاتّقِ اللهَ وادفعْ هذه الفِكَر السيئةَ، وجاهدْ نفسَكَ على الخلاصِ منها، وهل ترضى أن تُصنّفَ مع أقوامٍ بئسَ هُمُ القومُ، لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضانَ .. وليس من العقلِ أو الحزمِ أن تُضيِّعَ رصيدًا جمعْتَه في شهرِ الصيامِ .. استبشرتَ به أنتَ، وحفِظَه لك الكرامُ الكاتبون، وستلقاهُ مذخورًا لكَ يومَ الحسابِ.
يا أخا الإيمانِ: إنّ تقوى الصيامِ ينبغي أن تظهرَ على المسلمِ في شهرِ الصيامِ وبعد شهرِ الصيامِ .. وإلا فَما تحقَّقتِ التقوى - وهي الحكمةُ - من وَراءِ الصيام.
أيّها الناسُ: كُلُّنا غَدَا بالأمسِ للعيد، وكلُّنا لبسَ الجديدَ، وتلك مظاهرُ نشتركُ فيها جميعًا .. ولكن ثمةَ مظاهِرُ نتفاوتُ فيها، وتلكَ التي تستحقُّ أن نَتنبَّه لها وأن نتنافسَ فيها .. إن الموفَّقَ حقًا - يومَ العيدِ - من كان بالطاعةِ سعيدٌ .. والموفَّقُ من حفظَ له الكرامُ الكاتبونَ ما يُسعدُه يومَ الوعيدِ .. وتلكَ وربِّي، وإن لم نقطعْ بها لأحدٍ في هذه الحياةِ فستنكشفُ يومَ العرضِ على اللهِ .. وما أعظمَ الفَضيحةَ حين يُكشفُ عن ساقٍ ويُدعى أقوامٌ للسجود فلا يستطيعونَ .. وحينَ تتطايَرُ الصّحفُ، فمنهم من هو آخذُها باليمينِ وهو في العيشةِ الراضيةِ والجنةِ العاليةِ .. ومنهم من يأخذُها بالشمال وأولئكَ الذين يُقال لهم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (1) - وأولئكَ أهلُ الزَّقومِ والغِسلين.
أيّها المسلمونَ: وفرحتُكم بالعيدِ مَظهرٌ من مظاهرِ دينِكم، وشِعارٌ للفرحةِ بإتمامِ الصيام والتوفيقِ للقيام، وتلاوةِ القرآن .. بل هي جزءٌ من قوله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (2).
ولكن هذه الفرحةَ ينبغي أن لا تُنسيَكُم جموعًا من إخوانكمُ المسلمينَ كتبَ اللهُ أن يعيشوا في مِحَنٍ وبلايا - وحصارٍ وأذى من قِبَلِ الأعداءِ .. وأولئك المُمْتَحنونَ لا ندري كيفَ كانَ عيدُهم .. وإلى أيّ مدى استشعروا العيدَ وفرحتَه كما استشعره إخوانُهم .. ولكنا بكلِّ حالٍ ينبغي أن ندركَ أنهم جزءٌ مِنّا .. وعلينا أن نسعى لإسعادِهم، وأن نساهِمَ بما نستطيعُ في رَفْعِ نوازِلِهم، وعسى اللهُ أن يأتي العيدُ القادمُ وهم سالمونَ آمنونَ، أعزّاء منتصرون.
إخوة الإسلام: إن في دينِنَا فسحةً للفرحِ والبهجةِ - ولاسيما في أيامِ العيدِ .. ولكن احذروا أن يتحوّلَ الفرحُ المشروعُ إلى بَطَرٍ وأَشَرٍ، وفيما أحلّ اللهُ غنيةٌ عمّا حرَّمَ. عَظّموا اللهَ في حالِ سَرّائِكم وضرّائِكم، واعبدُوه وأطيعوه في حال أفراحِكُم وأحزانِكُم، فأنتم مأمورونَ بالعبوديةِ للهِ في كلّ حالٍ من أحوالكم:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3).
عبادَ الله: اجعلوا من أيامِ العيدِ فرصةً للصِّلةِ والزيارةِ، والعفوِ والمسامحةِ، والمحبةِ والرحمةِ .. وما لم تتصافى النفوسُ في أيام الأعيادِ والبهجةِ والسرورِ،
(1) سورة الحاقة، الآيات: 30 - 32.
(2)
سورة يونس، الآية:58.
(3)
سورة الأنعام، الآيتين: 162، 163.
فمتى يتمّ ذلك؟ ! وما لم يتجاوزِ المسلمونَ الأحقادَ والضغينةَ على أثرِ تقوى الصيامِ والقيام - فأيّ أيامٍ هي أَحرى بالمسامحةِ والوئامِ، واعلموا أن الشيطانَ أَيِسَ أن يُعبدَ في أرضِكُم، ولكن بالتحريش بينكم، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1).
(1) سورة فاطر، الآية:6.