الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، عظّمَ أجورَ الصابرينَ فقال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1).
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وما يَعْزُبُ عن ربّك من مثقالِ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرَ من ذلكَ ولا أكبرَ إلا في كتابٍ مبين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، ابتلاه ربُّه فصبرَ وشكر، وحطّ للأُمةِ منهجَ الاستقامةِ محفوفًا بالصبرِ والشكر.
وهو القائل «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، إن أصابتْهُ سَرّاءُ شكرَ، فكانَ خيرًا له، وإن أصابتْهُ ضراءُ صبرَ فكان خيرًا، وليسَ ذلكَ لأحدٍ إلا للمؤمن» . اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
إخوةَ الإيمان ..
الوقفة السابعة: (حاجتُنا إلى الصبرِ):
ما أحوجَنا إلى الصبرِ في هذه الحياةِ بحلوها ومُرِّها، وعاجِلِها وآجلِها، إننا بحاجةٍ إلى الصبرِ على طاعةِ الله بتكاليفِها وديمومتِها، وحُسنِ أدائها، وانتظار جزائها من اللهِ، وبحاجةٍ إلى الصبرِ عن معاصي اللهِ بإغراء المعصيةِ وبريقِها الخادع .. وضعفِ النفوسِ أمامَ مغرياتِها ووسوسةِ شياطينِ الإنسِ والجنّ لاقترافِها.
وبحاجةٍ إلى الصبرِ على أقدارِ اللهِ المؤلمة .. بمرارِتها ومفاجأتها وتتابُعِها.
قال العالِمُون: الصبرُ صبران: صبرٌ عن معصيةِ اللهِ، فهذا مجاهدٌ، وصبرٌ
(1) سورة الزمر، الآية:10.
على طاعةِ الله، فهذا عابدٌ، فإذا صبرَ عن معصيةِ الله، وصبرَ على طاعةِ الله: أورثه اللهُ الرضاءَ بقضائه، وعلامةُ الرضاء سكونُ القلبِ بما وردَ على النفسِ من المكروهاتِ والمحبوبات.
وقال بعضُهم: حَدُّ الصبر ألا تعترضَ على التقدير، أما إظهارُ البلوى على غير وجه الشكوى، فلا يُنافي الصبر، فقد قالَ اللهُ عن أيوب عليه السلام:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} (1)، مع أنه قال:{مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (2).
الوقفة الثامنة: (البلايا مع الصبرِ مكفراتٌ):
إن من رحمةِ الله بعباده أن يبتليَهُم ليرفعَ درجاتِهم، ويكفرَ عنهم سيئاتِهم .. وكم يتألمُ المرءُ لضُرٍّ نزل به، واللهُ تعالى أرادَ الخيرَ له، وكم يحزنُ الإنسانُ لشيءٍ فاتَه، واللهُ يُريدُ أن يُعوضَه خيرًا منه .. فهل ندركُ السرَّ، وهل نحتمي بالصبرِ مع احتسابِ الأجر؟
أخرج مسلمٌ في «صحيحه» من حديث أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرةَ رضي الله عنهما، أنهما سمعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ما يصيبُ المؤمنَ من وَصَب، ولا نصبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزْنٍ، حتى الهمَّ يُهِمُّهُ إلا كُفِّرَ به من سيئاته» (3).
وفي الحديثِ الآخرِ قال صلى الله عليه وسلم: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه، وولدِه، ومالِه، حتى يَلقى الله وما عليهِ من خطيئة» (4).
الوقفة التاسعة: (البلايا بين أهلِ الإيمانِ وأصحابِ الفجور):
وهنا وقفةٌ وتنبيهٌ، فقد يُخالجُ النفسَ شيءٌ حين يرى المسلمُ المصائبَ تتابعُ
(1) سورة ص، الآية:38.
(2)
سورة الأنبياء، الآية:83. تفسير القرطبي 2/ 174.
(3)
مختصر المنذري (1789).
(4)
أخرجه الترمذي وحسنه «جامع الأصول 9/ 584» .
على أهلِ الإيمان، بينما يُرى أهلُ الباطلِ والفجورِ والنفاقِ في عافيةٍ وسلامةٍ منها ظاهرًا .. وهنا لا بدَّ للمسلمِ أن يستيقنَ أن العطاءَ ليس علامةَ الرضاء، وأن البلاءَ ليس دليلَ الغضب، فقد جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله:«إن عِظم الجزاءِ مع عِظم البلاءِ، وإن اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فلهُ الرِّضا، ومن سَخط فله السخط» (1).
وفي حديثٍ آخر: «إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عجّلَ له العقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ بعبدِه الشرَّ أمسكَ عنه، حتى يُوافَى به يومَ القيامة» (2).
وهنا مثلٌ نبويٌّ مقارنٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مثلُ المؤمنِ كمثلِ خامةِ الزرع؛ من حيثُ أتتها الريحُ تُفيئُها، فإذا اعتدلت تُلَقّى بالبلاءِ، والفاجرُ - وفي روايةٍ «المنافق» - كالأَرْزَةِ صماءُ معتدلةٌ، حتى يَقصِمها اللهُ إذا شاءَ» (3).
وفي «موطأ مالكٍ» بسندٍ مرسلٍ عن يحيى بن سعيد رحمه الله قال: إن رجلًا جاءه الموتُ في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ: هنيئًا له، ماتَ ولم يُبتلَ بمرضٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«ويحكَ، ما يدريكَ لو أن اللهَ ابتلاهُ بمرضٍ فكفّرَ عنه من سيئاته» (4).
الوقفة العاشرة: (شيءٌ من البلاءِ لا كُلُّه، وأقسامُ الناسِ في البلاءِ):
إن الله تعالى قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} . لأنه لو ابتلاهم بالخوفِ كلِّه أو الجوعِ لهلكوا، والمحنُ تمحِّصُ لا تُهلك (5). وعلى المسلمِ أن
(1) رواه الترمذي وإسناده حسن «جامع الأصول 9/ 584» .
(2)
رواه الترمذي وإسناده حسن، السابق 9/ 583.
(3)
متفق عليه «جامع الأصول 1/ 271» .
(4)
مرسل صحيح، «جامع الأصول 9/ 583» .
(5)
ابن سعدي «التفسير» 1/ 180.
يدركَ أن كلّ مصيبةٍ تنالُه فإنما هي جزءٌ من قدرِ الله، وهناكَ ما هو أعظمُ منها .. وعليه أن يسترجعَ ويصبرَ.
والناسُ حيالَ المصائبِ فريقان: فريقٌ جازعٌ، وفريقٌ صابرٌ؛ فالجازعُ حصلت له مصيبتان: فواتُ المحبوبِ بهذه المصيبةِ النازلةِ، وفواتُ ما هو أعظمُ منها، وهو الأجرُ على الصبرِ عليها .. والصابرُ حصلَ على أجرِ المصيبةِ، وعلى ما يأتيهِ من فضلِ الله بَعدها، وفي «صحيح مسلم»:«ما من عبدِ تُصيبهُ مصيبةٌ فيقولُ: إنا لله وإنا إليه راجعونَ، اللَهمّ أَجِرْني في مُصيبتي واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا آجرَهُ اللهُ في مصيبتهِ وأخلفَ له خيرًا منها» .