الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين عُلوّ الهمّةِ والتوبة في رمضان
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: والمتأملُ في أيامِ الله عمومًا، وفي الأيام الفاضلةِ على الخصوص يرى أنها تمضي سِرَاعًا، وأيامُ اللهِ عمومًا، ومواسمُ الطاعاتِ لا تنتظرُ الكسالى أو تتوقفُ للنائمين، أو تُحابي المفرِّطين.
إن عجلةَ الزمنِ تدورُ، والليلُ والنهارُ يتعاقبان، والحفظةُ الكرامُ يكتبون، وغدًا يُكشَفُ المخبوءُ، ويتبينُ الفائزون من الظالمين والمقتصِدين.
تُرى كم نُضيِّعُ من الفرصِ في حياتِنا؟ ! وما نَصيبُ فُرصِ الآخرةِ في تفكيرِنا وأعمالِنا؟
وما نصيبُ شهرِ رمضانَ من الفُرص المُضاعةِ في واقعِنا؟ وحين تذهبُ باحثًا عن أسباب هذا التفريطِ والضياعِ، أو ذاك الجِدّ والمسارعةِ لاغتنام فُرصِ الزمانِ تجدُ أن لعُلوِّ الهمّةِ أو ضعفِها أثرًا بالغًا في حياة الإنسانِ، فمن الناس من يُشعرُ نفسَه بأن فيه الكفايةَ لعظائمِ الأمور، ويجعل هذه العظائمَ هِمّتَه، وهذا عظيمُ الهمّةِ كبيرُ النفس. ومنهم مَن فيه الكفايةُ لعظائم الأمورِ، ولكن يبخسُ نفسَه
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 9/ 1421 هـ.
فَيُضيِّعُ همَّه في سفاسفِ الأمور وصغائِرها، وهذا ما يُسمى بصغير الهِمّة أو صغيرِ النفْسِ.
ومن الناس من لا يكفي لعظائم الأمور ويُحسّ بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يُخلَق لأمثالها، فيجعلُ هِمّتَه وسعيَه على قدر استعدادِه، وهذا الصنفُ بصيرٌ بنفسِه، متواضعٌ في سيرتِه. ورابع الأصناف من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قويّ عليها، مخلوقٌ لأَنْ يحملَ أثقالَها وهذا يُسمونَه (فخورًا) أو (مُتعظِّمًا)(1).
عبادَ الله: وإن شئتم أن تضعوا أيديَكم على الفَرْق بين عُلوِّ الهِمّةِ ودُنوِّها وتَرَوْا مواقعَكم فيها، فدونكم تعريفًا لكلٍّ منهما:
فعلوُّ الهِمّةِ هو استصغارُ ما دون النهايةِ من معالي الأمور، وطلبُ المراتب الساميةِ، واستحقارُ ما يَجودُ به الإنسانُ عند العطيةِ، والاستخفافُ بأوساطِ الأمور وطلبُ الغايات، والتهاونُ بما يملِكُه، وبَذْلُ ما يُمكنهُ لمن يسألُه من غيرِ امتنانٍ ولا اعتدادٍ به.
أما دنوُّ الهِمّة: فهو ضعفُ النفسِ عن طلب المراتِ العالية، وقصورُ الأملِ عن بلوغِ الغاياتِ، واستكثارُ اليسيرِ من الفضائل، واستعظامُ القليل من العطايا، والاعتدادُ به والرضا بأوساط الأمور وصغائِرِها (2).
أيها المسلمون: فرق بين من تتعاظم هِمّتُه إلى التطّلع إلى جناتِ الفردوس، ثم هو في حياته يسعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا، فإذا حلّت مواسمُ الخيراتِ استثمرها، وإذا أدرك فرصَ الطاعاتِ سابقَ إلى اغتنامها، وبين مَن هِمّتُه طِيبُ
(1) رسائل الإسلام، محمد الخضر حسين 2/ 87 عن كتاب «الهمة العالية» محمد الحمد ص 18.
(2)
تهذيب الأخلاق للجاحظ ص (28) و (34) عن كتاب «الهمة العالية» للحمد (16) و (17).
المطعمِ وأثيرُ الفراش، والسَّمرُ هنا أو هناك لتقطيعِ الأوقاتِ، حتى ولو سمع الفُحشَ أو رأى المنكراتِ!
أيها الصائمونَ: وحين يظنُّ البطَّالون أنّ في كثرةِ النوم أو كثرة الأكل والشُّرب - لاسيَّما في رمضانَ - نوعًا من السعادةِ وطريقًا للأُنس والراحة، يراها أصحابُ الهِمَمِ مورثةً للبلادَةِ جالبةً لأمراض التُّخمةِ .. وهذا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يقول:«من كَثُرَ نومُه لم يجدْ في عُمرِه بركةً» (1).
وهذا شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله يقول: «فالذينَ يقتصدون في المآكلِ نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها، فإن أولئكَ إذا أدمنوها وأَلِفُوها لا يبقى لها عندهم كبيرُ لَذّةٍ، مع أنهم قد لا يصبرون عنها وتكثُر أمراضُهم بسببها» (2).
إن شهرَ الصيام فرصةٌ تعلو فيها الهِمَمُ - أو هكذا ينبغي أن يكون - فما تزالُ الهِمّةُ العاليةُ بصاحبها تضربُه بسياط اللّوم والتأنيب، وتزجُره عن مواقفِ الذُّلِّ واكتسابِ الرذائل وحرمانِ الفضائل، حتى ترفعَه من أدنى دركاتِ الحضيض إلى أعلى مقاماتِ المجد والسُّؤدُد.
كيف لا: والصائم بنهارِه يستمتع بالصيام، وهو بليلهِ سعيدٌ بالقيام .. وكيف لا! والصائمُ يقضي شطرًا من وقتِه يُناجي ربَّه يستغفرُه ويستهديهِ ويسألُه المزيدَ من فضلِه، يتلو كتابَه فيخشعُ قلبُه، ويذكُره في نفسِه، فيزدادُ تعظيمًا ومحبةً له - ثم هو يتصدقُ ويَصِلُ، فتطيبُ نفسُه وينشرحُ صدرُه، ويدعو الآخرين للخير، فيجعلُ له الرّحمنُ بين خلقِه وُدًّا.
نعم، إن هذه المعاني والأعمالَ الخيرةَ تحتاج من النَّفْسِ إلى صبرٍ ومصابرةٍ،
(1) الأدب النبوي/ 212، الهمة العالية (43).
(2)
جامع الرسائل، تحقيق محمد سالم 2/ 340، عن الهمة العالية للحمد (41) و (43).
لكنها تَلذُّ في النهاية - لمن وَفّقه اللهُ - فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكارِهِ، والسعادةُ لا يُعْبَر إليها إلا على جسرِ المشقة .. ولكنها في النهاية تَلَذُّ وتصفو على حدّ تعبير الشاعر:
تَلَذُّ له المروءةُ وهي تؤذِي
…
ومن يَعْشَقْ يَلَذُّ له الغرامُ
أيها الصائمون: تداركوا ما بقي من أيام رمضانَ، فالفرصُ الضائعةُ تُعوَّضُ، والفُرصُ الباقية يُعَضُّ عليها ولا يفرَّط في شيءٍ منها.
أيها المسلمون: وحين نصارحُ أنفُسَنا نقول: إن الهِممَ قد اعتراها حتى في شهرِ الصيام فتورٌ .. ولم يسلمِ الخَيِّرون - فضلًا عمّن سواهم - من هذا الفتور .. ودونكم نماذجَ لضَعفِ الهِمَم .. فمتى يحضرُ الصائمون لصلاة الجمعة؟ ! وكم عددُ الذين يَمكثون في المساجدِ بعد صلاةِ الفجرِ بالذِّكر والتلاوةِ؟ وأين الذين تمتلئُ بهمُ المساجدُ من بعد صلاة العصرِ إلى ما قبلَ الغروبِ .. هل زادتْ نوافِلُنا في رمضانَ؟ أم تعاظمت صدقاتُنا في شهر الإحسان؟ أين التبكيرُ للمساجد؟ إلى غير ذلك من أسئلة نجدُ في أنفسِنا حَرَجًا وضعفًا حين نريدُ الإجابةَ عنها.
عبادَ الله: إن من الفُرصِ في رمضانَ - بل وفي سائر العام - فرصةَ التوبةِ إلى اللهِ وهذه التوبةُ نُقصِّر في فَهمِها حين نظُنّها خاصةً بفئةٍ من المسلمين، بل هي عامةٌ، والدعوةُ فيها موجّهةُ للمؤمنين - فضلًا عن سواهم - وفي هذا يقول ربّنا تبارك وتعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
والإمامُ ابنُ القيِّم رحمه الله عقد في كتابه «مدارج السالكين» فصلًا عن التوبةِ قال عنه: إنه من أنفع فصولِ الكتاب، والعبدُ أحوجُ شيءٍ إليه، وبه حصرَ اثني عشرَ
(1) سورة النور، الآية:31.
نوعًا من المحرَّماتِ، وقال: إن عليها مدارَ كلِّ ما حرَّم اللهُ، وإليها انتهاءُ العالمِ بأسرهم إلا أتباعَ الرُّسل، وهذه الاثنا عشر قد يكون في الرجلِ أكثرُها وأقلُّها، أو واحدةٌ منها، وقد يعلمُ ذلك وقد لا يعلمُ، والتوبةُ النصوحُ إنما تكون بالتخلُّص منها والتحصين من مواقَعتِها .. ثم قال: ولا يستحقُّ العبدُ اسمَ (التائبِ) حتى يتخلّصَ منها، وهي: أجناسُ المحرّماتِ في كتاب الله .. وتلك هي الكفرُ، والشِّركُ، والنفاقُ، والفسوقُ، والعصيانُ، والإثمُ والعدوانُ، والفحشاءُ، والمنكرُ، والبغيُ، والقولُ على الله بغيرِ علمٍ، وإتباعُ غيرِ سبيلِ المؤمنين (1).
أيها المسلمون: إن التوبةَ كما قيل: وظيفةُ العمرِ، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، وأولُ منازلِ العبوديةِ، وأوسطُها وآخِرُها، لا يستغني عنها مسلمٌ، بل ينبغي أن تتجدَّد في حياته، وكلَّما أحدثَ معصيةً وذنبًا، أحدَثَ على إثرها توبةً وندَمًا واستغفارًا وما منّا إلا مفرّطٌ في واجبٍ، أو متساهلٌ في الكفّ عن محرّمٍ، وكلُّ ذلك محتاجٌ إلى توبةٍ. وما أحرانا معاشرَ المسلمين بالتوبةِ في شهرِ التوبةِ، وفي زمنٍ تُصفَّد فيه الشياطينُ، وتُفتحُ أبوابُ الجِنان.
إن مراجعةَ النفسِ مطلبٌ على الدوام، ولكنها تتأكدُ في مثل شهرِ الصيام - فهل نراجعُ أنفسَنا ونتوبُ إلى خالقِنا؟ ونستجيبُ لنداء خالقِنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2).
(1) مدارج السالكين 1/ 344.
(2)
سورة التحريم، الآية:8.