الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) في السيرة النبوية
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلّ له ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولُه، اللهمَّ صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعينَ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلّم تسليمًا كثيرًا.
عبادَ الله: اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحرصوا على هَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا، ومن يطع الرسول فقد اهتدى.
إخوة الإسلام: ابتدأتُ في الجمعة الماضية حديثًا عن السيرة النبوية بذكرِ شيءٍ من خصائصِها، وحقيقةِ المحبةِ لصاحبها عليه الصلاة والسلام.
وحديثُ اليوم استكمالٌ لما قبلَه، فالضرورةُ داعيةٌ لمعرفةِ هذه السيرةِ العطرةِ، بل هي كما قال ابن القيم رحمه الله:«فوق كلِّ ضرورة؛ إذ لا سبيل إلى السعادة والفلاحِ في الدُّنيا والآخرة إلا على أيدي الرسلِ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتِهِم، ولا يُنال رضا اللهِ البتة إلا على أيديهم» . إلى أن يقول: «وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارَين معلّقةً بهَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيجبُ على كلِّ من نَصَحَ نفسَه، وأحبّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرفَ من هَدْيِه وسيرتِه وشأنِه ما يخرجُ به عن الجاهلين به، ويدخلُ في عِداد أتباعِه
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 4/ 1421 هـ
وشيعتِه وحزبِهِ، والناسُ في هذا بين مُستقِلّ ومستكثرٍ ومحروم، والفضلُ بيدِ اللهِ يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم» (1).
عبادَ الله: وتقديرُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإجلاله تحدَّث عنها البُلغاءُ، وصاغها الشعراءُ قصائدَ ومديحًا تُروى وتتلى، وهذا كعبُ بنُ زهير رضي الله عنه الشاعرُ ابنُ الشاعرِ وأبو الشُّعراءِ - كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أهدَرَ دمَه، فأُشير على كعب أن يأتيَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه مُسلمًا معتذرًا، مُثنيًا على شمائِلِه، هائبًا للقائِه ومما قال:
نُبّئتُ أنَّ رسولَ اللهِ أوعَدَني
…
والعفوُ عند رسولِ الله مأمولُ
ما زلتُ أقتطعُ البَيداءَ مُدّرعًا
…
جُنحَ الظلامِ وثوبُ الليلِ مسبولُ
حتى وضعتُ يميني ما أُنازعُها
…
في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قولُه القيلُ
إنَّ الرسولَ لنورٌ يُستضاءُ به
…
وصارمٌ من سيوفِ اللهِ مَسلولُ
في عُصبةٍ من قريش قال قائلُهم
…
ببطنِ مكةَ لما أسلَموا زُولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ (2) ولا كُشُفٌ (3)
…
عند اللقاءِ ولا مِيلٌ (4) معازيلُ (5)
شُمُّ العرانينِ أبطالٌ لبوسُهُمُ
…
من نسجِ داودَ في الهيجا سَرابيلُ
لا يفرحون إذا نالت رماحُهمُ
…
قومًا وليسوا مجازيعًا إذ نِيلُوا
إلى أن يقول - مبديًا تخوّفَه من الرسول صلى الله عليه وسلم:
فَلَهُوَ أخوفُ عندي إذ أُكلّمه
…
وقيل إنك محبوسٌ ومقتولُ
من خادرٍ من لُيوثِ الأُسْدِ مَسْكنُه
…
ببطن عَثَّرَ (6) غِيْلٌ (7) دون غِيلُ
(1) زاد المعاد 1/ 69، 70.
(2)
أنكاس جمع نُكُس: وهو الضعيف.
(3)
أي: الذي لا فرس له.
(4)
أي: جبان.
(5)
أي: من لا سلاح له.
(6)
اسم موضع.
(7)
أي: الشجر الملتف.
ومع ذلك كلِّه فقد عفى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقبِلَ عُذرَه وإسلامَه، بل خلع بُردته التي كان يلبسها، فعرفت قصيدته تلك بـ (البُردة) وهي غيرُ البردة المنكرة للبوصيري (1).
أيها المؤمنون: ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيُّ الهدى والرحمة، أعطاه الله اسمين من أسمائه فقال عنه:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2)، وجعله رحمةً للأمة حيًا وميتًا، أما في حياته فكما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3)، وقال عليه الصلاة والسلام:«حياتي خيرٌ لكم وموتي خيرٌ لكم» (4).
أما رحمته للأمة بعد موته، فلِمَا رواه مسلم في «صحيحه» عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال:«إن الله عز وجل إذا أراد رحمةَ أُمةٍ من عباده قبضَ نبيَّها قبلَها، فجعله لها فَرَطًا وسَلَفًا بين يديها، وإذا أراد هلَكَةَ أُمةٍ عذّبها ونبيُّها حيٌّ فأهلكها وهو ينظر، فأقرّ عينَه بهلكتِها حين كذَّبوه وعصوا أمرَه» (5)، إذًا فالرحمةُ حاصلةٌ بنبِّينا في حال حياتِه، وذلك لهدايتِه الخلقَ لسبيل الخير، وبعد مماتِه لتقدُّمه فَرَطًا لهم وعدم هلاكهم وفتح فُرصِ التوبة لهم. وقيل: إن رحمتَه لجميع الخلق: للمؤمن رحمةٌ بالهداية، ورحمةٌ للمنافق بالأمان من القتل، ورحمةٌ للكافر بتأخير العذاب (6).
أيها المسلمون: وانقسم الناسُ في حياتِه ولا زالوا إلى ثلاثة أقسام: مؤمنين استجابوا لله والرسول إذْ دعاهم لِما يُحييهم، وهؤلاء جزاؤهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ، لهم فيها ما يشاءون خالدين فيها.
(1) انظر القصيدة في ديوان كعب ص 21، وانظر بعضها في «زاد المعاد» 1/ 91.
(2)
سورة التوبة، الآية:128.
(3)
سورة الأنبياء، الآية:107.
(4)
رواه ابن مسعود بسند صحيح .. انظر هامش «الشفا» للقاضي عياض 1/ 19 (2).
(5)
مسلم ح (1792). وانظر «مختصر المنذري» (1596).
(6)
القاضي عياض، «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» 1/ 19.
ومنافقين غرَّهم الشيطانُ وغرّتهم أنفسُهم، وظنوا أنهم يُخادعون اللهَ والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون، وهؤلاء حكَمَ اللهُ بأنهم في الدّرْك الأسفلِ من النار، ولن تجدَ لهم نصيرًا، إلا من تابَ وآمنَ وأصلحَ.
وفئةٍ ثالثةٍ: كفّارٍ معاندين صُرَحَاءَ في محاربتِهم لله ورسولِه، وهؤلاء لهم نارُ جهنمَ خالدين فيها لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفّف عنهم من عذابها، كذلك يجزي اللهُ كلَّ كفور.
أمةَ الإسلام: وعاش رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم في سبيل إقرارِ هذا الدِّين ونشرِه في العالمِين حياةَ الزهدِ والكَفَافِ - ولو شاء أن تُسيَّلَ له الجبالُ ذهبًا لسالت - ولكن آثرَ أن يشبَع فيشكرَ ويجوعَ فيذكرَ، واجتمع عليه وعلى أصحابه رضوانُ الله عليهم شدةُ الجوع وشدةُ الخوفِ، وربط على بطنِه حَجَرين من شدة الجوع، في وقتٍ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ، وظُنَّ بالله الظنون .. هنالك ابتُلي المؤمنونَ - ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم قائدُهم - وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، ويصف طرفًا من هذه الشّدة - في يوم الخندق والأحزاب - حذيفةُ بنُ اليمان رضي الله عنه للرجل الكوفي الذي قال له: يا أبا عبد الله، أَرأيتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصحبتُموه؟ قال: نعم يا ابنَ أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: واللهِ لقد كنّا نَجْهدُ. قال: فقال الكوفي: واللهِ لو أدركناه ما تركناهُ يمشي على الأرض ولحمَلْناه على أعناقِنا، قال: فقال له حذيفةُ: يا ابنَ أخي لعلك لا تدري لو أدركتَ رسولَ اللهِ ما تصنع؟ ثم ساق طَرَفًا من مواقفِ الشدةِ التي مرّت بهم ورسولُ اللهِ يُنادي في المسلمين: «مَنْ رَجُلٌ يقومُ فينظرُ لنا ما فعلَ القومُ، ثم يَرجعُ، أسألُ اللهَ أن يكونَ رفيقي في الجنةِ؟ » فما قام أحدٌ من القوم من شدّةِ الخوفِ وشدّةِ الجوع وشدّة البَرْدِ .. حتى دعاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بُدٌّ من القيام .. إلى آخر القصةِ التي رواها ابنُ
إسحاقَ بسند حسن. وروى مسلمٌ القصةَ في كتاب المغازي (1).
أجل، إن سيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم تُعلِّمُنا - فيما تعلِّمنا - العيشَ لحياةٍ كريمةٍ وهدفٍ نبيل، إنها معاني ومواقفُ تشدّ النفوسَ بعيدًا عن الزّيفِ والمبالغةِ، ولابد وأن يتخفَّفَ المرءُ من زينةِ الحياة، ويتعالى على زُخرفها، ويوم أن كانت ملوكُ فارسَ والرومَ تتقلّب على الأرائك والسُّررُ، كان محمد صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبهِ، وكانت منازلُهم قصورًا فارهةً وجناتٍ وأنهارًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم اتخذ من حجراتِ أزواجهِ مسكنًا له في الحياة وقُبِرَ في إحداهنَّ بعد الممات.
وعلّمنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بسيرتِهِ العمليةِ الصبرَ على المِحَن، والتفاؤلَ في زمن الشدائدِ، والجِدَّ والعملَ، والثقةَ بنصر اللهِ رغم الزلازلِ والكُروبِ، وتشهد بطحاءُ مكةَ، وعَقَبةُ الطائفِ، وجَبَلُ أُحد ويومُ حُنين - وسواها من مواقع السيرةِ وأحداثِها - على صدق محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه في الجهادِ والتضحيةِ والبلاغِ المبين.
وحَسْبُ الذين يعشقون البطولةَ بكافّةِ معانيها أن يقرؤوا في السيرة وسيجدون ما يروي ظمأهم .. إي وربِّي، إنّ موقفَ أهلِ الطائفِ من دعوةِ الهُدى يمثِّلُ نوعًا من بطولةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الصبر وتحمُّل الأذى الجسديِّ، كيف والأذى النفسيُّ الواقعُ من أعظمها.
بطولةٌ أُخرى - في هذا الحدث - يوم أن ردّ على مَلَكِ الجبالِ ومنَعَه أن يُطبقَ الأخشبين على قومهِ الذين أخرجوه، وبطولةٌ ثالثة تتمثَّل في نظرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمستقبلِ ويقينِه بانتصار الدعوةِ ولو في جيلٍ ما زالوا في الأصلاب، وهو ما عناه صلى الله عليه وسلم:«بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابِهم مَنْ يَعبدُ اللهَ وحدَه» يقول هذا
(1) الصحيح المسند من فضائل الصحابة، مصطفى العدوي 333، 334، مع زيادة عليها.
وهو في موقفِه ذاك، لا يدري كيف يدخل مكةَ ثانيةً بعد أن خرج منها، وهل يأذنُ له ملأُ قريشٍ بدخولِها - وقد كان - فلم يدخلْها إلا في جِوارِ بعضِ رجالاتِها (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2).
(1) الشامي أضواء على السيرة ص 20 بتصرف.
(2)
سورة آل عمران، الآية:164.