الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربّ العالمين نعمُه علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن يشكر فإنما يشكرُ لنفسِه، ومن كفر فإن اللهَ غنيٌّ عن العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأولين والآخِرين، أرشدَ - وهو الصادقُ الأمينُ - إلى نعمةِ الصحةِ والغبنِ فيها، فقال عنهما وعن الفراغ:«نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ؛ الصحةُ والفراغ» .
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين.
عبادَ الله: وإذا كانت الصحةُ والفراغُ أمانةً، وسوف يُسألُ الإنسانُ ما صنعَ فيهما، فالمالُ والعمرُ أمانةٌ كذلك، وسوف يسألُ المرءُ عنهما:«لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن علمه ما فعلَ به، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِه فيما أبلاهُ» (1).
أخي المدخن: ما موقفُك من هذا الحديثِ والموقفُ عصيبٌ، والمحاسِبُ يحاسبُ على النقيرِ والقطميرِ، ولا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ولو تقاصرت نَظرتُك عند حدودِ الدنيا - وما ذلك بمحمودٍ - لقيلَ لك: أليسَ المالُ صعبًا جمعُه .. أليستَ الصحةُ مطلبًا يُبحثُ عنه وتُصرفُ الأموالُ لتوفُّرِه .. فما بالُك أيها المدخنُ تحرقُ مالكَ بنفسِك، بل وتحرقُ معه أحشاءك؟ وأُراكَ تسيرُ في اتجاه معاكس للآخرين، فهم يبحثونَ عن الصحةِ وأنت بطوعِك واختيارِكَ تتشبثُ بما يُسيءُ إليها؟ ويحرصونَ على المالِ وأنت من المهلكينَ له والمبذرينَ في إنفاقه.
يا صاحبي: وقل لي بربك ماذا جنيتَ من التدخينِ؛ فيما مضى من عمركَ،
(1) رواه الترمذي برقم (2417) وصححه الألباني.
فدينُك لم يسلم، ودنياك في خطر، وأنتَ في وحشةٍ مع جيرانِكَ وأصدقائك، والأمرُ أخطرُ حين يقعدُ بك التدخينُ عن شهودِ الصلاةِ مع جماعةِ المسلمين؛ لأنك تخشى أذاهم برائحةِ التدخينِ، أو تنقطعُ عن زيارةِ وصلةِ أقربائك لأنك تشعرُ بالغربة بينهم حين تكونُ نشازًا في التدخين ..
ألم يمنعْك التدخينُ يومًا من الجلوسِ مع الأخيار، وإن كنتَ تُحبّ الأُنسَ بهم والاستماعَ إلى أحاديثهم، ولكن يمنعك الحياءُ من معاشرتهم؟
ألم يقعد بك التدخينُ عن كثيرٍ من معالي الأمورِ - أنت أهلٌ لها، وبك من مقوماتِ الخيرِ ما يرشِّحُك لها .. ولكنَّ عتابَك لنفسك في الإصرارِ على شربِ الدخانِ حال بينك وبين المساهمةِ فيها.
أيها المدخنُ: وأنت حينَ تتوارى عن الأعين وتتخفَّى عن الأنظارِ في شربِ الدخانِ، فذلك مؤشّرٌ لحيائك - والحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ - ومؤشرٌ لخيريةِ المجتمعِ إذ ينكرُ هذه المظاهِرَ السلوكيةَ المنحرفةَ، ولكن قُل لي بربّك: ألا يؤلِمُكَ هذا التخفي، ألا تشعر بنقصٍ وأنت تتستَّر؟ وفي سبيل ماذا تُعذّبُ نفسك بذُلِّ المعصية، وتُرهقُها بآلام الشعورِ بالذنبِ دونما فائدة؟
دعني أصارحك وأقولُ: إنك تظلمُ نفسَك وتخطئُ في حساباتك حين تظنّ أن شُربَ الدخانِ يُفرج همّك، أو ينسيكَ آلامَك، أو يسعدك في حياتك، أو يسليك في غربتِك، أو يشعرك بالفرحةِ في مجاملةِ أصدقائك المدخنين، أو تقولُ في نفسِك: إنني عشتُ عليه صغيرًا وشبتُ عليه كبيرًا ويصعبُ عليّ فراقُه .. أو غير ذلك من أسبابٍ وحججٍ يتعلقُ بها المدخنون؟
واسمح لي أيها المدخنُ أن أسأَلَك وأدعُ الإجابةَ لك، هل تُصنّفُ التدخينَ ضمنَ الطيباتِ أم الخبائثِ؟
وهل ترضى لأحدٍ أن يقول عنك أنك مشجعٌ على انتشارِ الخبائثِ؟
هل تسمّي اللهَ حينما تبدأ بشربِ الدخانِ وتحمدُه في حالِ انتهائك، كحالك حين تتناولُ الطيبَ من الطعامِ والشراب؟ !
وهل هناك مأكولٌ أو مشروبٌ تطؤه بحذائك أو ترمي به في مكانٍ غير مشرف كما تصنعُ بالسيجارة؟
ألست تشعرُ بالذنبِ حين تحملُ الدخانَ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ؟
وهل تُفَكِّرُ في شربه في أحدِ المساجدِ؟ وماذا تعني هذه المشاعرُ عندك؟ هل حقّقَ لك التدخينُ مكانةً اجتماعيةً أو مكسبًا ماديًّا؟ أو تفوَّقًا صحيًّا؟
هل ترضى أن يتعاطاه أحدُ أبنائك أو إخوانِك أو أقاربِكَ؟
أخي المدخن: ودعني أذكِّرك بقيمةِ ما تُهلكُ من المال والوقتِ - لا أشكّ أنك حريصٌ على وقتك ومالِك، فقد قالوا: إن المدخنَ لمدة عشرينَ سنةً إذا كان يدخنُ أربعينَ سيجارةٍ يوميًا يتكلفُ أكثرَ من سبعةٍ وخمسينَ ألفًا، وإذا كانت السيجارةُ الواحدةُ تستغرقُ خمسَ دقائقَ، فإن أربعينَ سيجارةً تستغرقُ مائتي دقيقة، فهل ترضى أن تقضي أكثرَ من ثلاثِ ساعاتٍ يوميًّا في معصيةِ الله؟ والعمرُ محدودٌ، والوقتُ أمانةٌ ومسئوليةٌ ..
وكم من جياع المسلمينَ وفقرائهم ومنكوبيهم يحتاجُ إلى هذا المال الذي تنفقه فيما يضرُّك ولا ينفعُك، وربما استفادت منه دولٌ أو شركاتٌ تُحاربُ بها المسلمينَ، فهل يرضيك هذا؟ (1)
إخوةَ الإسلام: ومما يلفتُ النظرَ أن العالمَ كلَّه يتخوفُ من مرضِ الإيدز - وحقَّ لهم ذلك - ولكن منظمةَ الصحةِ العالمية تقررُ أن التدخينَ أخطرُ وباءٍ عرفته البشريةُ في تاريخها الطويل، وأن ضحاياه تفوقُ ضحايا الإيدز، فإذا كانت
(1) انظر: القاتل البطيء (التدخين) دار الوطن (84).
ضحايا الإيدز في عشرِ سنواتٍ بلغت مليونين ونصف، فإن هذا الرقمَ يمثلُ ضحايا التدخينِ في سنةٍ واحدةٍ، ومع ذلك تجدُ العالم كلَّه مرعوبًا من الإيدز، بينما يواصلُ المدخنونَ التدخينَ، وإن فتكَ بهم أضعافًا مضاعفة؟ (1)
عبادَ الله: وإذا تضافرت الأدلةُ الشرعيةُ على تحريمِ الدخان، واتفقَ الأطباءُ على أضرارِه، وتنادت الهيئاتُ والمنظماتُ للتحذيرِ منه، وأجمعَ العقلاءُ على هدره للصحةِ والمالِ والوقت، فأيُّ شيءٍ يدعو العاقلَ فضلًا عن المسلم للتشبُّثِ به؟ ! وهنا أسجلُ عددًا من الوصايا عساها تُعينُ على الخلاصِ منه:
1 -
أقدِمْ أيّها المسلمُ على تركه بإرادةٍ قوية، وتذكّر أنك لستَ أولَ من تركه ولن تكونَ الأخيرَ.
2 -
ومما يُخففُ عنك من آلامِ الإلفِ والعادةِ أن تتركَه طاعةً لله ورسولِه، وليس لمجردِ التخوفِ من أضراره الدنيوية، وفي هذا يقولُ ابنُ القيم رحمه الله:«إنما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ مَنْ تركَها لغير اللهِ، أما مَن تركها مخلصًا من قلبه للهِ، فإنه لا يجدُ في تركِها مشقةً إلا في أول وهلةٍ؛ ليُمتحنَ أصادقٌ هو في تركِها أم كاذب، فإن صبرَ على تركِ المشقةِ قليلًا استحالت لذة» (2).
3 -
ابتعد - قدر طاقتك - عن مجتمع المدخنين، وعوِّض ذلك بأصحاب خيِّرين.
4 -
اشغل وقتَكَ بمشاريعَ خيرةٍ تنسيكَ التفكيرَ في التدخينِ حاضرًا، وتسعدُ بها مستقبلًا.
(1) فتاوى شرعية في بيع الدخان .. اللجنة الخيرية/ جدة.
(2)
لماذا ندخن؟ محمد بن إبراهيم الحمد، دار الوطن، ص 9.
5 -
راجع عياداتِ مكافحةِ التدخينِ إن احتجتَ إلى ذلك، فلهم في ذلك جهدٌ مشكور.
6 -
ولا غنى لك - أيها المقلعُ عن التدخينِ - عن الصبر، لاسيّما في الأيامِ الأولى، ولكن تذكر أن لذةَ الانتصارِ على النفس والهوى أعظمُ من لذةٍ كاذبةٍ عابرة.
7 -
ومن مصلحةِ المدخنينَ وغير المدخنينَ أن يُمنعَ التدخينُ في الأماكنِ العامةِ، ويتابعَ منعُه في الدوائِر الحكومية، وفي وسائلِ النقلِ البريةِ والبحريةِ والجوية، فذاك يحدّ من انتشاره، وربما كان داعيًا للمدخنين للخلاصِ منه.
8 -
وكم هو جميلٌ أن تُعنى مناهجُ التعليمِ - بمراحلِه المختلفةِ - بالتحذيرِ منه بعباراتٍ جيدةٍ ومعلوماتٍ دقيقةٍ وحديثة.
9 -
وأن تُعنى وسائلُ الإعلام - بكافةِ قنواتِها - بوضعِ برامجَ مفيدةٍ وصيحاتٍ محذرةٍ.
10 -
وهمسةٌ للمدخنين وغير المدخنينَ، فمن بُليَ بشيء من المعاصي فليجاهد نفسه على الخلاصِ منها.
وإنني في هذا اليومِ العظيمِ والجمعِ المبارَكِ داعٍ فأمِّنوا: اللهم عافِ كلَّ مبتليً ووفِّقْه للتوبةِ النصوح، وأبدل سيئاته حسناتٍ يا خيرَ مسئولٍ، يا ذا الجلال والإكرامِ .. اللهم ارحم ضعفَنا، وأعِنّا على أنفسِنا الأمارةِ بالسوء، ووفِّقنا لطاعتِك، وجنِّبنا معاصيك، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان.