الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله أكرمَنا بالإسلامِ وشرَّفَنا بالقرآن، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، منِ استمسكَ بشرعهِ فاز في الدنيا وأفلحَ في الأخرى، ومن أعرضَ عن سبيله فإن له معيشةً ضَنْكًا، ويُحشرُ يومَ القيامةِ أعمى.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه جاءَ ليتمّمَ مكارمَ الأخلاقِ، وكانت بعثتُه هدىً وتكريمًا للإنسان، أفلحَ وأنجحَ من اتبعَ هُداهُ، وضلّ وارتكسَ من حاربَه أو عاداهُ أو خالفَ هُداهُ. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلينَ.
أيّها المسلمون: وكما يتحقّقُ الأمنُ بوازعِ السلطانِ، والخوفِ من عقوبةِ الدنيا، يتحقَّقُ الأمنُ كذلكَ بوازعِ الإيمانِ، والخوفِ من عقوبةِ اللهِ في الآخرةِ، وإذا علمتم أثرَ الإيمانِ في تحقيقِ الأمنِ في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1).
فتأملوا أثرَ الكفرِ بأنعُمِ اللهِ بإلباسِ الناسِ لبوسَ الجوعِ والخوفِ بعدَ الأمنِ ورَغدِ العَيْش، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2).
إنه الإيمانُ والتُّقى؛ بهما تُفتَحُ بركاتُ السماءِ والأرضِ، وبهما يتحققُ الأمنُ والرخاءُ، ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3).
ومن هنا فعلينا أن نفهمَ الأمنَ بمفهومِه الشامل؛ الأمنُ الفكريُّ والعَقديُّ،
(1) سورة الأنعام، الآية:82.
(2)
سورة النحل، الآية:112.
(3)
سورة الأعراف، الآية:96.
والأمن الخُلُقي والقِيَمي، والأمنُ الجنائي، والأمنُ الصحيُّ والغذائي، حين يُخلِصُ الأطباءُ وتتوفرُ الأجهزةُ والأدويةُ، حين لا يغشُّ المزارعونَ، ولا يحتكرُ البائعون، أجل إننا حين نغفلُ عن انتشارِ الأفكارِ الرديئةِ، ثم تتسللُ إلى عقولِ أبنائِنا وبناتِنا تحدثُ فيها جنوحًا نحوَ الجريمةِ، وتُسَهّلُ عليهم اقترافَها .. وكم تفعلُ القصةُ الهابطة، أو الروايةُ ذاتُ الفصولِ السيئة، أو الكِتابُ المنحرفُ، أو المقالةُ الداعيةُ للفجورِ، كم تفعلُ هذه وتلك من فعلٍ في العقولِ، وكم تُنشئُ من سلوكياتٍ محذورةٍ شاذةٍ، بها يهتزّ الأمنُ وتكونُ الجريمة.
وحينَ نتسامحُ في زمالةِ الأديان، ونرضى أن يزاحم دينَ الإسلامِ الحقَّ أديانٌ محرّفةٌ، ونِحَلٌ فاسدةٌ، فلا شكّ بأثرِ ذلك على الأمنِ العقديِّ؛ إذ يُحدثُ هؤلاءِ من الجرائمِ ما هو مسموحٌ لهم في أديانهم، وليسَ كذلك في دينِنَا، بل ربما فَتنوا العامةَ بشعائرهِم وطقوسِهِم، فَخلّفَ أثرَه على الأمن، ولا شكّ أن العقائدَ المنحرفةَ، والتصوراتِ الفاسدةَ تقودُ إلى سلوكياتٍ منحرفة تُخِلُّ بالأمن.
أما الأمنُ الخُلقيُّ والقِيَمي فيكونُ برعايةِ الأخلاقِ الفاضلةِ، وحمايةِ القيمِ الإسلاميةِ من التلوثِ والانحدار، ويوم لا يكونُ قيمةٌ للخُلُقِ ولا رعايةٌ للقيم، يومَها تتحولُ الحياةُ إلى مسرحٍ للفوضى؛ يأكلُ القويُّ الضعيفَ، وحينها ينفرطُ عقدُ الأمنِ، وتشيعُ الفاحشةُ، ويكثرُ المجرمون، وتتوارى الفضيلةُ والفضلاءُ.
أما الأمنُ الجنائيُّ فيتحققُ يومَ لا يُسمحُ للسارقِ بأخذِ حقِّ غيرِه، ولا لصاحبِ المُسْكرِ أو المُخدّرِ أن يُحدِثَ الضررَ بنفسِه أو بمن حوله، ولا للأحمقِ والأهوجِ أن يقتلَ أو يضربَ من اختلفَ أو تنازعَ معَه، ولا لأصحابِ الشهواتِ أن يقضوا وَطَرَهُم فيما حرّم اللهُ عليهم، أو يُمكَّنُ الأحداثُ من قيادةِ السياراتِ دون استشعارٍ للمسئوليةِ؛ فيُهلِكوا أَنْفسهم وغيرَهم، أو نحو ذلك من ممارساتٍ أو اغتصابٍ تُحدثُ فجوةً في الأمنِ لا تُحمدُ عُقباه.
عبادَ الله: إن مسئولِيّتَنا الشرعيةَ والخُلقيةَ والوطنيةَ توجبُ علينا المساهمةَ في الحفاظِ على الأمن، وردعِ وفضحِ من تُسوِّلُ لهم أنفسُهُم العبثَ بأمنِ البلادِ والعبادِ، وينبغي ألا تَجُرَّنا العواطفُ للتسامحِ والتساهل، أو الوساطةِ للمجرمين، أو الشفاعةِ في الحدود.
لقد عدَّتِ الشريعةُ الإسلاميةُ الشفاعةَ في إسقاطِ الحدِّ، أو العدولَ عنه، جَوْرًا مُهلِكًا، وقال صلى الله عليه وسلم مُنكِرًا على أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنهما شفاعَتَه في إسقاطِ حدِّ السرقةِ عن المخزوميةِ التي سرقتْ، وأَهَمَّ قريشًا أمرُها:«أتشفعُ في حَدٍّ من حدودِ الله؟ ! » . ثم قامَ خطيبًا في المسلمين - يعلِّمُهم ومَن وراءَهم من المسلمين - كيف يكون العدلُ ويقول: «أيها الناسُ، إنما ضلَّ من كان قبلَكُم أنهم كانوا إذا سرقَ الشريفُ تَركُوه، وإذا سرقَ الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحَدَّ، وأيمُ اللهِ، لو أنّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعَ محمدٌ يدها» (1).
إخوةَ الإسلام: إن الحديثَ عن الأمنِ والمساهمةِ في توفيرهِ ينبغي أن تشاركَ فيه المؤسساتُ التربويةُ والعلميةُ، والأجهزةُ الإعلاميةُ، فضلًا عن الأجهزةِ المعنيةِ بالأمن، ينبغي أن يكونَ همًّا يُحِسُّ به الأولياءُ ويتحسّبُ لآثاره الأبناءُ، وإذا تميزَ أبناءُ المجتمعاتِ الإسلامية بشعيرةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ عن المجتمعاتِ الأخرى، فينبغي أن تُستثمرَ هذه الشعيرةُ العظيمةُ في تحقيقِ الأمنِ وكفِّ المجرمينَ.
إننا - بحمد الله - نعيشُ في هذه البلادِ حالةً أمنيةً لا نظيرَ لها في عالم اليوم، وإن وُجِدَتْ أحداثٌ وقضايا تُخلّ بالأمن أحيانًا فتلكَ - مع عدمِ خُلوّ مجتمع
(1) رواه البخاري في «صحيحه» كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحدِّ، برقم (6788)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم (1688) كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها.
منها أو قريبٍ منها - هي كذلك تخفُّ إذا تضافرتِ الجهودُ على مراقبةِ أصحابِهَا من قِبَلِ عمومِ المجتمعِ، وتخفُّ كذلك كلّما نشِطتِ الجهاتُ المعنيةُ بالأمنِ على الإخلاص في عملِها وتحديثِ أساليبها، وتطويرِ الأداءِ لدى الأفرادِ العاملين فيها.
أما تطبيقُ الحدودِ، وإحالةُ المجرمينَ للقضاءِ، فلا شكّ أنها ضمانٌ بإذن اللهِ لنشرِ العدلِ وتحقيقِ الأمنِ.
أما التوعيةُ بقيمةِ الأمنِ والتحذيرِ من ارتكابِ المحظوراتِ والجرائمِ بوسائلَ مختلفةٍ، فتلكَ وسيلةٌ وقائيةٌ غايةٌ في الأهميةِ؛ لأننا لا نفرحُ بوجودِ المجرمِ لنعاقبَهُ، بل نُسرُّ لانخفاضِ معدلِ الجرائم واستصلاحِ المجرمين، وفتحُ بابِ الأملِ والتأكيدُ على قيمةِ التوبةِ، يُسهمُ كذلك في استصلاحِ مَنْ به فسادٌ وعنده استعدادٌ للصلاحِ ونسيانِ الماضي، وفي الحديثِ الحسن «التائبُ من الذَّنبِ كَمَنْ لا ذنبَ له» (1).
(1) أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الزهد، باب ذكر التوبة برقم (4250) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (152)، وحسَّنه الألباني.