الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنكر
…
كل هذا - وأكثر - كان من نجاحات العمل الإِسلامي المبارك في هذه الحقبة المهمة من مسيرة العمل الإِسلامي المعاصر، والإنصاف يقتضي ذِكْرُ هذه المنجزات قبل الدخول إلى آية ملاحظات.
ومع التسليم بما تقدم آنفًا؛ فإن تيارات البعث والإحياء العاملة في الأمة لم تفلح في تخليص الأمة - بشكلٍ عامٍّ - من أزماتها الفكرية والعملية، فضلًا عن تخليصها من الواقع الذي تعاني مشكلاته، وترزح تحت ثقل وطأته، هذا إن لم نقل إن الأمة قد وقعت في أَسْرِ أمراضٍ وعللٍ جديدة، وأثخنتها جراح كثيرة، فإذا بها تقف في مطلع هذا القرن الميلادي الجديد، وفي العقد الثالث والرابع من القرن الخامس عشر الهجري حيرى، تسأل أسئلة قديمة تعود إلى نحو خمسة عقود، حينما كان شعار تلك المرحلة: من أين نبدأ؟! وجاء السؤال: أنَّى هذا؟ في الوقت الذي تجسدت فيه التجارب، وظهرت النتائج متفاوتة، بين مزيد من النضج وإدراك الواقع تارة، والوقوع فريسة الإحباط والفتور تارة، والإحساس بأهمية المراجعات، والخوف من التراجعات تارة أخرى، وأخيرًا التطلع المتفائل إلى مستقبل واعد بنصر، ومبشر بتمكين، بعد أن هَبَّتْ رياح التغيير في الشرق!
ثانيًا: احتمال تجارب واستثمار مكاسب:
والمرحلة الحالية في هذه الألفية تتسم باكتمال تجارب دعوية مختلفة على المستويين التنظيري والعملي،
فعلى سبيل المثال بخروج طوائف من الإِسلاميين المعتقلين في مصر مطلع السبعينيات، وممارستهم لألوان من العمل الإِسلامي التربوي والسياسي في السبعينيات والثمانينيات، ثم تغير الموقف من ذلك كليًّا أو جزئيًّا، ثم العودة إلى المشهد السياسي بقوة بعد الثورات العربية - تكون حلقة مهمة في اختبار جدوى التغيير من خلال العمل السياسي قد اكتملت، ورؤية متكاملة في حِسِّ أرباب هذا العمل قد تبلورت.
ولقد شهد الواقع محاولاتٍ وممارساتٍ متنوعةً، بدأت بدخول اتحادات طلاب الجامعات، وترشيحٍ في النقابات، وحضور تحت قبة مجلس الشعب، كما مرت بتحالفات مع حزب الوفد (1984 م)، ومن بعده حزب العمل (1987 م)، ثم آلت في التسعينيات إلى حرمان من دخول اتحادات الطلاب، وهيمنة القضاء على النقابات، وتراجع عن مجلس الشعب في دورات سابقة، ثم إحالة أوراق حزب العمل إلى لجنة الأحزاب، والمدعي العام الاشتراكي، وتصفية الحزب الذي من بين التهم التي وجهت إليه: احتواؤه للإخوان، أو احتواء الإخوان له، والإفساح لهم في صحيفة الشعب، ومراكز الحزب، وفي نهاية المطاف: تلفيق قضايا مختلفة؛ كقضية حزب الوسط، وسلسبيل، وإعادة تنظيم الإخوان، وأخيرًا: التخطيط لخوض الانتخابات في النقابات، وما تلا ذلك من صعود قوي - في العقد الأوّل من هذه الألفية - للإخوان
في مجلس الشعب (2005 م)، ثم إقصائهم تمامًا في (2010 م)، ثم الوقوف على أعتاب مرحلةٍ جديدة بعد اندلاع الثورة المصرية، والثورات العربية، والعودة بقوة إلى البرلمان؛ بل وترؤس الإخوان للبرلمان بعد أن غيبوا طويلًا في (الليمان)! وفي نفس المرحلة السابقة وُلِدَ تيارُ العمل الجهادي العسكري بشقَّيه؛ (الجماعة الإِسلامية)، (والجهاد)، واكتمل طرحه الفكري، كما مارس خياراته في التغيير، بدءًا من الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتهاء بالخروج المسلح على الدولة، والاغتيالات، وعمليات التفجير، وغير ذلك، والتي قوبلت بالمواجهة الأمنية الصارمة التي قضت على وَهْمِ الشعور بالقوة، وأيقظتِ الكثيرين على حقائقَ مهمةٍ في الصراع، وانتهتِ التجربةُ إلى ما لم تُحْمَدْ عقباه في التسعينيات من هذا القرن الميلادي، وبات التوجه ظاهرًا من قبل أرباب هذا الاتجاه في التخلي عن هذا المسلك، ونَبْذِ ما نبذه أهل العمل السياسي من قبلُ، وبدهيٌّ أن هذا التخلي لا ينصرف إلى الجهاد الشرعي، المستوفي لعناصر الشرعية من العُدَّةِ، والكفاية، والتوقيت، والملاءمة، ونحو ذلك.
ثم ظهرت دراسات تتراجع عن خطوط علمية وعملية ممهورة بتوقيع عدد من القيادات التاريخية للجماعة الإِسلامية، وخروج القيادات - بعد ذلك - مع عامة القواعد إلى الساحة الدعوية في ممارسةٍ منقوصةٍ، وباشتراطاتٍ قاهرةٍ، وبحضورٍ دعويٍّ باهتٍ.
وأخيرًا -وبعد اندلاع الثورة- فإن رياح التغيير، وإعادة ضخ الدماء قد هَبَّتْ على هذه التوجهات الجهادية من جديد، بما يُرْجَى معه ضبطُ المسيرةِ، وتحقيقُ التوازن، ونصرةُ قضية الشريعة، وفي مرحلة ما بعد الثورة المصرية أعلنت هذه المدرسة عن الدخول في معترك السياسة بشكل عملي! حيث حصد حزب "البناء والتنمية" التابع للجماعة الإِسلامية خمسة عشر مقعدًا في البرلمان، وذلك بعد أن صنفت الجماعة الإسلامية قبلًا من الكتب والمقالات ما يمنع من الممارسة السياسية والحزبية!
وعلى التزامن مع حركات التغيير السياسي والعسكري، ظهرت المدارس والدعوات السلفية العلمية، التي عُنِيَتْ بالتغيير العلمي والفكري عبر إحياء الاهتمام بالعلوم الشرعية، ونَقْلِها إلى الشباب، وبمرور الزمن أصبح شبابُ الأمسِ (مرحلة السبعينيات) شيوخَ اليوم، إلا أن حركات البعث والتجديد ينبغي أن تتضمن جوانبَ أخرى مهمةً بجوار الجانبين: العلمي والدعوي.
وطَرْحُ المدارسِ والدعواتِ السلفيةِ نَفْسَها على أنها البديلُ الكامل لطوائف العاملين على الساحة، جَرَّها إلى معاركَ وخصوماتٍ، كان يمكن الاستعلاءُ عليها، وإن كانت تلك المواجهات الفقهية تارةً، والفكرية تارةً أنضجَتِ الحسَّ الجماعيَّ لدى هذه المدارس، والتوجهات العلمية، فاتخذت مواقفَ متطورةً من فكرة العمل الجماعي، جعلتها في النهاية تُقِرُّهُ وتَقْبَلُهُ، وتقول بمشروعيته؛ بل بأكثرَ من ذلك أحيانًا!
ولقد بَقِيَتْ أدبيات وكتابات كثيرة من أصحاب الأقلام في هذا
التيار تدور في فلكِ إنكارِ بعضِ المنكرات الاجتماعية، وبعضِ المخالفات السلوكية، وشروحٍ لبعضِ المتون العلمية، في حين بقيت منكراتُ المجتمع السياسية بعيدةً -غالبًا- عن مداخلةٍ منهجية وعلمية قوية، أو تحرير رأيٍ علمي تقف وراءه دراساتٌ بحثية عميقة، ومثل هذا يقال في منكرات الاقتصاد، والإعلام، والتعليم، والتربية، ووسائل الفعل والتأثير العامة، مما يعني بعدًا عن آلياتٍ وفعالياتٍ مهمة في التغيير، مع نقصٍ حادٍّ في كفاءات ومؤسسات مهمة في المجالات الحيوية السياسية، والإعلامية، والاقتصادية، وهذا على أية حال له استثناءاتٌ تُذْكَرُ -هنا وهناك- ولا تُنْكَرُ، ومحاولات متفرقةٌ لابد وأن تذكر فتُشْكَرَ؛ فلقد وُجِدَتْ مداخلاتٌ سياسية، ومشاركات مجتمعية في عدد من الدول العربية؛ كالكويت، والبحرين، وعدد من الدول الإِسلامية؛ كباكستان، إلا أنها -من حيث العدد- نادرةٌ قليلةٌ لا تُعْطِي حكمًا، ولا تَرْفَعُ حكمَ الظاهرة المذكورة، وبدخول الألفية الجديدة فإن تحولاتٍ منهجيةً قد رُصدت عند الدعوات السلفية التي تحررت من أنماطها العلمية التقليدية، وولجت ميادينَ دعويةً، واجتماعية، وسياسية متعددة؛ جعل منها كياناتٍ قويةً ومنظَّمةً وقادرةً على الفعل والتأثير، وقد تبدَّى هذا واضحًا
وضوحَ الشمسِ في الحالة السلفية بعد الثورة المصرية! كما لوحظ هذا بجلاء -أيضًا- في الثورة الليبية.
ومما تجدر الإشارة إليه: أن جمعيات أخرى -وفي بلاد متعددة- نالت قدرًا من الرسمية والقانونية، كانت تعمل على الساحة من خلال آليَّاتها، ووفق خطتها الخاصة واجتهاداتها المحدَّدة، فكانت تؤتي ثمارًا محدودة بمحدودية الأهداف المرسومة، والإمكانيات المتاحة، إلا أنها في بلاد الثورات العربية اليوم تعيد حساباتها، وتتخلص من كثير من معوقاتها.
ثالثًا: صعود وهبوط في أرصدة العمل الجماعي:
إذا كان العمل الجماعي في إطار من التعاون الشرعي لا تنبغي المماراةُ في مشروعيته، ولا الجدالُ في أهميته، ولا النقاشُ في ثماره وفوائده، ولا الخلافُ في كونه من أقوى وسائل التغيير، إلا أنه قد اتسمتْ مرحلة التسعينيات بهبوط ملحوظ في أسهم العمل الجماعي الذي ينتظم عِقْدُهُ من خلال الانتماء لجماعات متحزِّبة ترفع رايةً وشعارًا، ويضمها سياجٌ فكري وعملي خاصٌّ، كما شهدت المرحلة تراجعًا في مواقف بعض الرموز الدعوية، التي كان لها صوت مسموع، وكلمة نافذة من دعاة وخطباء وعلماء، وفي المقابل ارتفعتْ إلى السطح -في مطلع التسعينيات، وفي بعض البلاد العربية- رموزٌ جديدة يجمعهم جميعًا أنهم من دعاة العمل الفردي، سواء أكانوا خطباء، أم طلبة علم، مع كونهم من
الناقمين على العمل الجماعي إمَّا لمواقفَ شرعيةٍ من صورته الحزبية الضيقة، أو لمواقفَ نفسيةٍ، وتجارب شخصية!
واستطاعت الشخصيات الجديدة أن تقتطع من سواد الجماعات، وممن دار في فلكها، وعُنِي بقضاياها، ومما ساعد على ذلك: اهتزازُ أصحاب الأعمال الجماعية في مواقفهم وممارساتهم بدءًا من حرب الخليج، كما إن حدَّة المواجهات الأمنية مع هذه الاتجاهات الدعوية قد وَهَّنَ ارتباطَ البعض بها، وهذا في مقابل تأجيل المواجهة مع أصحاب التوجهات الفردية، والجماعات والجمعيات الرسمية حتى حين!!
ثم وقع المحذور الأكيد -خاصَّةً في مصر- بالانقضاض على الباقِينَ، بعد تقليم أظافر الأوَّلينَ، وصار مألوفًا مَنْعُ أصحابِ المنابر، والتضييقُ على أصحاب الدعوات الفردية، والمناهج الشخصية، بل والاعتقالاتُ؛ وذلك لما في هذه الدعوات الفردية -أيضًا- من الحق، بل لما فيها من قوة الصدع بالحق أحيانًا!!
وحتى تلك الدعوات الجماعية التي أُجِّلت المواجهة معها، ووجدت نفسها تستفيق -فجأة- على أن القوم قد أداروا لها ظهر المِجَنِّ، فَمُنِعَتْ مِثْلُ جماعة التبليغ من الحركة الحرة، والسفر داخل وخارج البلاد، ووقعتْ بين صفوفها اعتقالاتٌ، ونال الدعواتِ السلفيةَ -أفرادًا وجماعاتٍ- ما نال جماعةَ الإخوان، وجماعاتِ الجهاد!!
وكان الأغرب في هذه القضية تحول بعض المنظِّرين لمشروعية العمل الجماعي إلى العمل الفردي؛ إما بلسان الحال والمقال، أو بلسان الحال مع الكَفِّ عن الخوض النظري في هذه القضية.
وفي المقابل؛ فإن الأغرب -مطلقًا- تحوُّلُ مسألةِ التنظيم في العمل الجماعي في حِسِّ البعض إلى اعتبارها غايةً، وليست وسيلة، وأن وجودَ التنظيم واجبٌ شرعي لا محيصَ عنه، وأن الغرض الأساسي من هذا التنظيم هو مجرَّدُ النكاية في نظام حكم قائم، أو إثبات الوجود، وتبادل الاستفزازات، مهما كانت تكلفة ذلك باهظةً، إلا أنه كان يُشْعِرُ البعضَ بالرضى والقدرةِ على التحدي، والارتواءِ النفسي، بعيدًا عن المصالح العليا للأمة والدعوة، فصارت هموم المجموعة أهمَّ من هموم الدعوة، والعمل للإسلام!!
وذلك من أخطر الإصابات التي لحقت العمل الإِسلامي في العقود الثلاثة الماضية، فبدلًا من أن يُشَكِّلَ التنظيم وسيلةً فعالةً في تحقيق أكبر كسب للقضية الإِسلامية، ويقدِّم دليلًا عمليًّا على صحة التجربة الإِسلامية؛ ليثير الاقتداء، ويدعو إلى الائتساء، وليكون ميدانًا عمليًّا للتدريب على المعاني الإسلامية المفقودة في الأمة اليوم، من مثل: الشورى، والعدل، والتجرد، بدلًا من ذلك
كله، انقلبت الوسيلة إلى غاية، فَقُدِّمَتْ مصلحةُ الجماعة على مصلحة الأمة، وارْتُكبَتْ في سبيل حفظ الانتماءِ الخاصِّ مخالفاتٌ جسيمةٌ في حَقِّ الانتماءِ العامِّ.
واحْتُمِلَ الضررُ الأعلى في حق الأمة -أحيانًا- لدفع الضرر الأدنى في حق الجماعة!! إلى الحد الذي حَوَّلَ بعضَ هذه التجمعات إلى أجسامٍ غريبةٍ في جسد الأمة، منفصلةٍ عن أهدافها، منغلقةٍ على نفسها، ومنكفئةٍ على ذاتها، بلا رغبةٍ -ابتداءً- أو قدرةٍ -انتهاءً- على التفاعل مع الأمة، كما شاع في إثر ذلك جوٌّ من الإرهاب الفكري داخلَ هذه الكيانات، فلم يُسْمَحْ بنقدٍ ذاتيٍّ، ولم يَبْقَ مجالٌ حتى للتفكر والتأمل، أو المناصحة، والمكاشفة؛ فأفضى الأمر إلى أن تصبح هذه الوسائل التنظيمية -ذاتها- عرضةً للنقدِ والنظرِ الشرعيِّ بحالتها الراهنة؛ إذ لا يمكن للمستَبِدِّ المنغلِق أن يكون أملًا لأمته.
وتوقفتْ جموعُ العاملين لتتساءل: إلى أين نَمْضِي؟ وإلى أين يُمْضَى بنا؟!
وشهدت الساحة ظاهرةً حقيقيةً وهي: الانشقاقات أو الانشطارات داخل الجماعة الواحدة!!
ومما يُذْكَرُ لبعض الاتجاهات السلفية انضباطُ هذه القضية لديها، وحسنُ إدارتها، مما مَكَّنَ من جَمْعِ أوصالِ العمل الإسلامي السلفي على مستوى القطر، وهو أَمْرٌ تبدَّى واضحًا في عمل الجماعة السلفية بالإسكندرية بعد قيام الثورة المصرية.
رابعًا: انشقاق سلفي غريب:
من ملامح التسعينيات الخطرة: انقسام أصحاب التوجهات العلمية السلفية إلى تيارين ومدرستين، تيارٍ مع السلطان مَنْ كان، وحيث كان! في حين بقي الآخرون بمنهج الحق مستمسكين، والأخطر في هذا الصدد: تبريرُهُمْ التحولَ عن منهج العدل والاعتدال بتقعيدِ قواعدَ للمرجئة في أبواب الإيمان، والأحكام، وأسماء الدين، واعتبار ذلك هو منهج أهل السنة والجماعة، مع ما يستتبع هذه البدعة الكلية من انخرام أصل الولاء والبراء، والاستنامة لبدعة العلمانية، وترك الحكم بغير ما أنزل الله، وطاعة الحكام في هذا البلاء المبين، والغلو في تقديس الظالمين، وإنزالهم منازل الخلفاء الراشدين!!
وتوافَقَ مع هذا خلطُ مناطاتِ الآثار والنصوص في هذا الصدد، وَرَمْيُ المخالفين بالخروجِ تارةً، وإثارةِ الفتنِ تارةً، وعدمِ تقديرِ الواقعِ، وفقهِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ تارةً أخرى، علاوةً على تنابزٍ بألقابٍ، وتصديرِ تهمٍ معلَّبة، مما مَثَّلَ إرهابًا فكريًّا، بل وتمالؤًا عمليًّا مع الظالمين على الدعاة والمحتسبين.
ومن عجبٍ أن هذا التيار تَرَكَ قضاياه العلميةَ والدعويةَ، وأقبل على إخوانه الدعاةِ من أهل السنة تنقُّصًا وتجريحًا، وقدحًا
وتشويهًا، بحجة بيان الحق وإظهار النصيحة! ولا شك أنه بقيام الثورات العربية فإن أصواتًا كثيرة سوف تهدأ في هذا الاتجاه، أو تنقطع تمامًا! على أن بقيةً سوف تبقى متاجرةً بالدين في فضائياتٍ، وصحفٍ، ومجلات! أو مرابطةً على ما تعتقده من خاطئ التصورات!
خامسًا: تراجع تيارات الغلو عامة:
ومن معالم الرشد في مرحلة الألفية -مقارنةً بالسبعينيات-: تراجعُ ظاهرة الغُلُوِّ في التكفير، وانحصار تيارات التشد في الحكم على الناس، وتجهيل المجتمعات، وتكفير الهيئات، وكذا تراجعت مواقفُ كثيرٍ ممن كان يتشكك في إثبات عَقْدِ الإِسلام لعامة المسلمين، ويتأخَّرُ عن جُمَعِهم وجماعاتِهم، ولا يأكل من الذبائح في أسواق المسلمين، كما شاع القول بجريان العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد، كمسائل الأحكام.
وهذا -بلا شك- ثمرةٌ من ثمرات الانفتاح على العلم والعلماء، وهو أمارةٌ من أمارات النضجِ، وعلامةٌ من علامات الصحة والعافية، كما يُذكر لأصحاب التوجهات العلمية الفردية، والعلماء
المستقلين دورٌ مؤثِّرٌ في مواجهة هذه الفتنة، ومهما يكن من أسباب هذا التراجع -الذي نُسِبَ إلى التَّقِيَّةِ أحيانًا، وإلى الصدق في التحول أحيانًا أخرى- فإن الواقع بعد الثورات العربية بوقائعه سَيُخْرِجُ مكنونَ الضمائرِ، ومستورَ السرائر!! وقد يُرصد في الآونة الأخيرة -هنا أو هناك- استئناف لنشاط جماعات الغلو بصور متعددة.
سادسًا: نضج في التعامل مع الخلاف:
كما يُلْحَظُ أن هناك تغيرًا في الموقف من الخلاف عمومًا، وهو تطور إيجابي، سواء أكان الخلاف فقهيًّا، أم دعويًّا حركيًّا؛ فكله من باب واحد وهو الظنيات، وذلك في مقابل الأمورِ القطعيةِ وما كان من جنس مسائل الاعتقاد الكبار، فحصل التفريقُ بين مواطنِ الاجتهادِ العلمي والعملي، ومواطنِ الإجماع والاتفاق، وعلى أية حال فقد بدأ إدراكٌ علمي لأسباب الخلاف، وتفهُّمٌ لموقف الآخر في مختلف القضايا، وانعكس هذا -بطبيعة الحال- على المواقف العملية، وَوُجِدَ قدر من التسامح والتغافر في هذا الباب، وإن كان لم يصلْ بعدُ إلى حدِّ الظاهرة، إلا أن الممارسة العملية، والمشاركة المجتمعية، والسياسية الواسعة المتوقَّعة في المرحلة المقبلة يُرْجَى أن تُسهم بدور فعال في مزيد من النضج في هذا الباب، وقد ظهرت مبشرات كثيرة -بحمد الله- في الحالة المصرية بعد الثورة، لا سيما في العلاقة بين السلفيين والإخوان.
سابعًا: إخفاق أكثر مشاريع الوحدة والائتلاف:
إذا كانت محاولات التجميع والتوحيد بين مختلف الطوائف العاملة في الساحة خلال التسعينيات قد باءت بالفشل؛ فإن الفشلَ ذاتَه كان واسطةَ العقدِ التي جمعت بين أكثرِ الفرقاء المتخالفينَ من العاملينَ للإسلام!
ثم جاءت الألفيةُ الجديدةُ ليقعَ أهلُ الإِسلام بين مطرقةِ النظم والحكومات الظالمة، وسندان الهجمات الصهيو صليبية على العالم الإِسلامي في أفغانه، وعراقه، وأرضه المباركة في فلسطين، ولتنسحق الشعوب العربية الإِسلامية بين ذلك سحقًا يُفَجِّرُ طاقةَ الغضبِ فيها، ويُلْهِبُ حماس الانتصارِ للآدميةِ والكرامةِ الإنسانيةِ بغضِّ النظرِ عن أية اعتباراتٍ أخرى، كما تبدَّى هذا في الثورات العربية.
ولقد كانت مرحلةُ السبعينياتِ مرحلةَ شعاراتٍ بَرَّاقَةٍ، وتَفَاؤُلٍ مُغْرِقٍ في الخيال، وطموحٍ بلا حدودٍ، وهذا كله يُذَكِّر بمرحلة ما قبل الخمسينيات، حيث كان الشعور السائد لدى شباب الإخوان بأن التغيير الكامل قد هَبَّتْ رياحه، وأشرق فجرُهُ على أيدي هذه الثُّلَّةِ المؤمنةِ، وأن النصر على قيدِ رميةِ حجرٍ، إلا أنه يبقى بين الواقع والخيال بونٌ ما، واشتركت مرحلة السبعينيات مع المرحلة السابقة في عدم تقدير واقع الأمة بفصائلها المختلفة، وقُوَاهَا المؤثرةِ تقديرًا جيدًا، مع غفلةٍ غافلةٍ عن مَواطن الضعفِ وأسبابِ الوهن في العمل الإِسلامي ذاته، فلما دار دولابُ الأحداثِ
سريعًا، وتتابعت الفتنُ، وامْتُحِنَتِ القلوبُ، وعُرِكَتِ النفوسُ، وظهرتْ معادنُ الرجالِ، وثبتَتْ خلاصةٌ لتقود في مرحلة جديدة، كان من أهم ما أُخِذَ عليهم فيها أن جهدًا فكريًّا مميزًا في تلك المرحلة لم يبذل، بل تجمدت الأفكار عند تراث الإِمام، أو المرشد! ودارتِ الكتاباتُ في هذا الفلك، مع العناية بالتأريخ للمرحلة السابقة، وحدث نوعُ قصورٍ عام في متابعة التجديد والتطوير في الفكر والحركة مع ظهور مستجدات كثيرة، فاستطال قومٌ الطريقَ، واستبطَؤوا النصرَ، وأحسوا أن مرحلة الاستعداد لن تنتهي على هذا النحو، فلقد اتصلت عقودٌ من السنين قامت فيها دولٌ وكيانات، وسقطت كتلٌ وتجمعات، والمراوحة في المكان هي نصيب العمل الإِسلامي، حيث لم يقم لأهل السنة كيانٌ عالمي، أو إقليميٌّ مؤثِّرٌ، ولم تُرْفَعْ لهم رايةٌ سياسية، مع أن الكثير كانوا يعتقدون أن الأمرَ أيسرُ من ذلك وأعجلُ، وتَسَرَّبَ اليأسُ!! وجاء السؤال مرة أخرى كيف السبيل؟ وما هو المَخْرَجُ؟
ثامنًا: إحساس سلفي بالعجز السياسي:
اكتشف عدد من العاملين في حقل الدعوة -أفرادًا وجماعاتٍ- أنهم في عجز سياسي مطبق، وأن بينهم وبين كفاءات أصغر دولة ومقوماتها بونًا شاسعًا، يظهر ذلك ويتجلَّى فيما تقدم من خلوِّ الساحة عن مشاركةٍ علميةٍ وعمليةٍ فعالةٍ في أمور السياسة، والاقتصاد، والإعلام، والتعليم، والتربية، وعلى المستوى الفكري لم
يستطِعِ العملُ الإِسلامي -رغم ما له من مقوماتٍ كثيرة- أن يبني حوارًا فكريًّا منظمًا، لا على المستوى الداخلي فيما بين التيار نفسه، ولا فيما بين طوائف العاملين على الساحة الإسلامية، ومن ثم لم تستطِعْ هذه الاتجاهات أن تخرجَ بخلاصةِ فكرِهَا المتلاقحِ، وأطروحاتها الممحَّصَةِ إلى ساحة الأمة، فضلًا عن أن ترتقي بخطابها ومشروعها الفكري الحضاري إلى المستوى العالمي.
وأزمة الخليجِ خير شاهدٍ على هذا العجز الفكري، ففي الوقت الذي امتلأت فيه أرفف المكتبات بالدراسات الجادة، والندواتِ الموسعةِ، والحضورِ المكثفِ لمن هم خارج المعسكر الإِسلامي، نجد أن العمل الإِسلامي لم يفرز أو يقدم دراسةً محترمةً أو عملًا متميزًا على مستوى مؤتمرٍ علميٍّ أو ندوةٍ شرعيةٍ واقعيةٍ، أو استبيانٍ، أو دراسةٍ جماعيةٍ، ومثل هذا قد يقالُ في المعالجةِ الإِسلامية لقارعةِ الحادي عشر من سبتمبر وإفرازاتها.
وهذا المستوى المتواضع من الأداء لا بد وأن يقود إلى نتيجةٍ حتميةٍ، وهي أن صلةَ الدعاةِ إلى الله بالأحداث الجارية هي صلةُ المنفعلِ لا الفاعل، فالأحداثُ تُصنع بعيدًا عنا، ونُسْتَدْعَى لها في الوقت المناسب، ويُوظِّفُنَا غيرُنا دون أن نقدرَ على توظيف الأحداث لمصلحة المسلمين، بل تُصَفَّى الحسابات بدمائنا وأموالنا -أحيانًا- ونشارك في معاركَ لا تعنينا، ولا ندرى عقباها!
وَيُقْضَى الْأَمْرُ حِيْنَ تَغِيْبُ تَيْمٌ
…
وَلَا يُسْتَأْمَرُوْنَ وَهُمْ شُهُوْدُ
وبقيام الثورات العربية على قاعدةٍ من رفض الظلم والكبت والقهر والفساد والاستبداد، ووقوع شيءٍ من الحرية في إِثْرِهَا، وفي ظل انفتاح العمل الإسلاميِّ، وانعتاقه من أَسْر الملاحقة الأمنية، والتضييق المنظم، وتعطشِ الناس إلى قيادةٍ إسلاميةٍ منهجيةٍ رشيدةٍ، عند هذا الحدِّ اكتشف الكثيرُ من العاملين للإسلام في هذه المرحلة أنهم كانوا يقعون -بشكلٍ منظمٍ- ضحية العمل الارتجالي، والتفكير الآني، وافتقد البعض اتزانهم الفكري، حين أفاقوا على حقيقة كونهمْ كانوا يُكَمِّلون النقصَ الخطير في معالم لوحة الصراع مع الباطل من مخيلاتهم بعيدًا عن حقائق الصراع، ومقتضياته الواقعية، والأمثلةُ كثيرةٌ في هذا المجالِ إلى الحدِّ الذي نَستغني معه عن التذكيرِ بها، وكان إدراك شيء من هذا الخلل الفكري، والعجز السياسي سببًا مباشرًا لما يمكن أن يسمى بصراعِ الأجيالِ داخلَ الطائفةِ الواحدة، والتيارِ الواحد، وَوَجَدَتِ التياراتُ السلفيةُ نَفْسَهَا مضطرةً لشرح تبدُّلِ اجتهاداتها حول قضايا متعددة على الصعيدين الدعويِّ والسياسيِّ معًا.
تاسعًا: معاملة الظاهرة الدينية على أنها معضلةٌ أمنية:
للحقّ فإنَّ جزءًا مهمًّا من إشكاليات العملِ الإِسلاميِّ قد يرجع إلى المعضلة الأمنية؛ فلقد بات الإِسلاميون هدفًا ثابتًا، وغرضًا دائمًا للملاحقات، والمتابعات الأمنية، وربما صح القول بأن الأجهزة الأمنية رفعت شعارًا في مواجهة العمل الإِسلامي هو: لا للتنظيم في العمل الإِسلامي، فكلُّ عملٍ تنظيميٍّ ذي طبيعة دعوية فكرية، أو تربوية، يهدف إلى التغيير العام انتهاءً لا مجال له، إلا تحت سمع وبصر الدولة، ومن خلال تشريعاتها وتقنيناتها، وكلُّ عملٍ سياسيٍّ منظمٍ ينبغي له أن يمرَّ من خلال قنواتها المنظِّمةِ لعمل الأحزاب في الدولة، وأن يتم تداولُ السلطةِ من خلال آلياتها، وما من شك أن الهاجس الأمني، والمعالجة الأمنية العنيفة مع التيارات الإِسلامية، قد ترك بصماته الواضحة في فكر وبنية ونظرية هذه الجماعات، والطوائف الإِسلامية كافة، وصار الخروج من دائرة التعامل الأمني مطلبًا وهدفا يسعى إليه الدعاةُ، إلا من استطاع أن يطبِّع علاقاته مع الطغيان بشكل أو بآخر، أو من اعتقد أنه ليس ثمةَ طغيانٌ أصلًا، وأن المشكلة تكمن فقط في فكر الخوارج، والقاعدة
…
وغير ذلك!!
ومما أذكى جذوةَ الصراع انضمامُ قوًى دوليةٍ بشكلٍ سافرٍ، وقد كانت تتخفى بالأمس وراء الأنظمةِ العلمانية، ثم اليوم في زمنِ العولمة تَنْبِذُ إلى المسلمين على سواء، وتسعى إلى عولمة الصراعِ مع الإِسلامِ في كل البقاع، وعلى كل المستويات، ولقد شهدت الألفية الجديدة تحالفًا نصرانيًّا علمانيًّا بدعيًّا ضدَّ السلفية بكل صورها، ومختلف تجلياتها.
عاشرًا: وجود إشكالية تربوية وقيادية:
وعلى صعيدٍ آخر لم تكن مشكلة تدنِّي المستوى الإيماني والتربوي والعلمي للأفراد بهذا الحجم الذي يعاني منه العمل الإِسلامي اليوم، ولقد عزى بعضُهم ذلك إلى عجزٍ في القيادات، وتحوُّلِها من مفهوم القيادة الشامل، والاستحواذ على أسباب التأثير والقدرة؛ إلى حالة يمكن وصفُهَا بالقيادات الإدارية، التي تقوم بعملٍ روتينيٍّ لا يحمل في طيَّاته معانيَ القدرة على التجديد والإبداع، وإدراك الواقع، والكفاية الشرعية، والعملية.
وبسببٍ من هذه المشكلة عزف بعضُ العاملين عن انتماءٍ سابق، وخرج من ثوب الاجتماع، لينشىء عملًا يتلافى فيه عيوبَ القيادات السابقة، ويُعْنَى بالجوانب العلمية، والإيمانية، والتركيز
التربوي، إلا أن المفاجأة كانت أن جزءًا كبيرًا من المشكلة يرجع إلى الشباب والأتباع، وليس فقط إلى القادة والمؤثِّرين، فهنا كَلَلٌ دعويٌّ، وخللٌ منهجيٌّ، وضعفٌ في القراءة والاستيعاب، وبطءٌ في التنفيذ والاستجابة، واستهانةٌ بالارتباطات والأعمال، وتنافسٌ غيرُ شريفٍ، وعجبٌ بالنفس على قلة البضاعة، وغير ذلك.
كما ساعد على العجز عن استنباتِ القياداتِ وبناءِ الثقاتِ ما رُكِزَ في عقول الكثيرين من أن نبوغ قياداتٍ جديدة أَمْرٌ يحمل في ثناياه تنكُّرًا للقيادات السابقة، أو خروجًا على خَطِّها، فمن الوفاء أن يعيش الكلُّ على صورة الماضي، وفكر الرواد، وعقل القائد، على الرغم من تحول الظروف، وتبدل المشكلات، وتنوع الوسائل، وغير ذلك.
ومما ساعد على ظهور ظاهرة الضعف في نوعيات القواعد: التهامُ نارِ المواجهة -في كثير من المواقع- للعناصر المميزة، والقيادات الناشئة، بالقتل، أو السجن، أو التوقيف، أو التجميد، أو الاحتواء أخيرًا، مع هجرة كثير من القيادات إلى خارج البلاد؛ طلبًا للسعة، أو انعتاقًا من الملاحقة.
ومما يتصل بالأمر السابق: غياب العِلمْ بغياب العلماء، أو تغيُّبُهم عن مراكز التأثير، وصنع القرار داخل العمل الإِسلامي،
وكل ذلك قد حصل؛ فتارة غاب العلماء، وانسحبوا من مواقعَ كثيرةٍ، في الوقت الذي تغلبت فيه زعاماتٌ من غير العلماء، أو عاملون غيرُ علماء، وتارة وقع الشقاق بين أجنحة العمل الواحد؛ فكانت النتيجةُ إقصاءَ العلماء، وتغييبَ دورِهم في القيادة والإرشاد.
ونتيجة لغياب العلم الهادي، الذي يوضح معالم الطريق، فَيَقِي المعاطبَ، ويُنْجِي من المهالك، فقد وقع العمل الإسلامي أسِيرَ التجربة والخطأ، يتلمسُ طريقَهُ في دياجيرَ مظلمةٍ من الفتن، وعواصفَ عاتيةٍ من المِحَنِ، ونوازلَ مستجدةٍ من حوادث الزمن، لا تنجلي غُمَّتُها إلا باجتهادٍ محقَّقٍ، وعِلْمٍ موثَّقٍ.
وإن كانت الأمانة تقتضي القولَ بأن الشبابَ المتوضِئَ بالإيمان قد غيَّر كثيرًا من وجه الحياة الاجتماعية، والسلوك العام، بقيامه بواجب الدعوة العامة والخاصة، وما انتشار الهدي الظاهر عامة، وانكسار حدة كثير من منكرات الأخلاق إلا ببركة هذه الجهود المخلصة، التي لم يأتِ مثلُها، ولا قريبٌ منها عبر جهود مؤسسات دينية، أو علماء رسميين.
ولقد شهد الواقعُ حالاتٍ من اجتهاداتٍ غير ناضجةٍ، ومن انفعالاتٍ غير مدروسةٍ من الشباب، ومن خَلْطٍ بين الشجاعةِ والتهورِ، وبالمقابلِ شهد حالاتٍ من التراجع، ولَبْسِ الحق
بالباطلِ، وزهادةٍ في الخيرِ، ومداهنةٍ في الأمر، وترخُّصَاتٍ شاذَّةٍ، وخَلْطٍ بين الحكمةِ والفتنةِ ممن انتسبوا إلى العلم الشرعي.
حادي عشر إشكالية التعميم والتسطيح في فقه التغيير:
ومن المعضلات في الواقع: مشكلةُ التعميم في الأحكام، والمنطلقات والشعارات، ونحو ذلك، مما يعكس مشكلةً تتعلق بالموضوعية، والدقة والإنصاف، والتعامل مع الحقيقة.
فتارةً يقعُ تعصبٌ مطلَقٌ لطائفةٍ، أو شخصٍ، أو فكرةٍ ما، وتارةً يقعُ العكسُ تمامًا، وتارةً تقع مبالغةٌ في تقدير أمرٍ ما، وربما وقع التشنيع إلى الغاية في نفس الأمر!
وأمثلةُ الواقعِ والممارساتِ عديدةٌ، والمهم أن يشعر العملُ الإِسلاميُ -في هذا الصدد- أنه لم يبلغ الكمالَ، ولا قاربَهُ في الموضوعية، وأن يهتمَّ بالدراسات الاجتماعية، مع الانفتاحِ في الحوار البنَّاءِ، وعدمِ الخضوعِ لسلطانِ الشائعاتِ، وتلافي الاضطرابِ في ردودِ الأفعالِ.
إن مشكلة التعميم في الأفكار والتصورات لا تظهر خطورتها إلا على أرض الواقع؛ حيث تظهر المجازفات، وتُختبر المصداقيات، وستبقى العقليةُ المسلمةُ أسيرةَ التعميمِ، ما لم تَخرج إلى الواقعية المجرَّدة من المثاليةِ الخيالية، وإلا فسيكون دائمًا البديل هو إمَّا
الهروب من الواقع بأي صورة من صور الهروب، أو السقوط في فتنته سقوطًا لا قيام بعده.
إن التغيير في المجتمعات يجري وفق سننٍ لا تتبدلُ ولا تتغيرُ، كتلك السنن التي ندركها في عالم المادة، وإن إغفالَ تلك السننِ، أو التغافلَ عنها لا يؤدي إلا إلى الفشل ولا بد.
والحديثُ في هذا يطول، إلا أن السُّنَّةَ ماضيةٌ بأن هذا الدين لا ينتشر إلا بجهدٍ من بنيه، وأن هذا الجهدَ لا بد أن يتصلَ، وأن يستمرَّ ولا ينقطعَ، وأن الزمنَ جزءٌ من عمليةِ التغيير، وأن التغييرَ مسئوليةُ الجميعِ، وأنه لا يقعُ غالبًا إلَاّ متدرِّجًا، وغيرَ ذلك من السنن الفاعلة والمؤثرة.
ومن فقه التغيير: قراءةُ تجارب السابقين والمعاصرين، والعملُ الإسلامي في السبعينيات والثمانينيات عاش عزلةً فكرية، وعانى من ضعفٍ حادٍّ في متابعة أحوال المحيطين وما عندهم من جديد، إضافةً إلى ما تقرر من وجودِ نقصٍ فقهيٍّ حادٍّ في القيادات الواعية الخبيرة، فترتَّبَ على ذلك كلِّهِ ضيقٌ في الآفاق عامة، وفي الآفاق السياسية والحركية خاصة، حتى ما حاوله بعض الإِسلاميين في هذا المجال كان ولا يزال بحاجة إلى دعمٍ وترشيد.
ومن فقه التغيير: قبول مبدأ التعددية الوظيفية، والتكامل داخل
الإِسلاميين، مع مراعاة التوازن داخلَ كلِّ طائفةٍ متميّزةِ العملِ، مع اعتقاد أن كلَّ عملٍ راشدٍ يَصُبُّ في حصيلة الأمة في النهاية، فالمطلوب أن يمارسَ كلٌّ اجتهادَه برشدٍ، ويُقِيمُ علاقته مع غيره برشدٍ أيضًا، فلا مناصَ من ذلك للتغيير الراشد.
وأخيرًا فقد كان كل ما سبق من وجود مراجعات وتراجعات في الخطاب السلفي المعاصر -بمختلف توجهاته- سببًا دافعًا، ومحرِّكًا يقف وراءَ البحث في أهمية دراسةِ وترتيبِ الأولويات في الخطاب السلفي المعاصر.