الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس أولوية الكيف المنظم على الكم المبعثر
لم تُمدح كثرة لذاتها، بل ذُمَّتْ؛ إذ كان أصحابها لا يفلحون، وقد قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، وقال تعالى:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] وقد مُدِحَتِ القِلَّةُ المؤمنةُ حيث كانت شاكرةً، قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، ومُكِّنَ لها؛ إذ كانت مستضعفةً، قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، وغَلَبَتْ عدوَّهَا بإذن ربها، قال تعالى:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].
والقلَّة المنظمة المحكمة لأمرها تنتصر -بإذن الله- على الكثرة المبعثرة في عملها، وأولوية الدعوات مع التركيز في جذور البناء، قبل التوسع والانتشار في الفضاء،
"ولن يُغلَب اثنا عشر ألفًا مِن قلَّة"(1).
والتعاونُ لنصرة دين الله، والاجتماعُ عليه واجبٌ شرعيٌّ، ولا ينبغي أن يكون محلًّا للخِلاف، وإن جرى الخلاف سائغًا في حكم الانتماءِ لطائفة متحزِّبةٍ من طوائف الدعوة إلى الله تعالى في الواقع المعاصر.
وقد دلَّت على وجوب التعاون والاجتماع جملةٌ من النصوص الشرعية العامة والخاصة، والقواعد الفقهية والمقاصدية والأصولية، كما أنه حاجة واقعيَّةٌ، ومسألة فِطْرِيَّةٌ اجتماعيَّةٌ، وتَشْهَدُ لهذا وقائعُ السيرة النبوية، وعهود السلف الصالح قولًا وعملًا.
وحقيقة التجمعات الدعوية أنها وسيلةٌ شرعية لإقامة الواجبات الكفائية.
ولا شك أن هذه التجمعات تتفاوت في طريقة إدارتها، وأسلوب توجيهها، وأسماء الوظائف فيها، إلا أنها -وعلى الجملة- لا تخرج عن قاعدةٍ وقيادةٍ، من خلال تناصُحٍ وتشاوُرٍ، ثم التزامٍ بطاعةٍ في حدودِ ما قامت لأجله هذه التجمعات، يكون هذا بين الشيخ والتلاميذ في
(1) أخرجه أبو داود، (2611)، والترمذي، (1555)، وأحمد، (1/ 294) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
التجمعات العلمية، كما يكون في مؤسسات الدعوة الرسمية، وجماعاتها الأهلية والشعبية.
والأصل أن تتكامل هذه الجهود الجماعية، وأن تتطاوع هذه الفئات الدعوية؛ لتنتهي إلى إخراج أهل الحل والعقد في الأمة، والذين يُفوَّض إليهم عمومُ النظر في التحديات العامة، والمصالح الكلية للأمة الإسلامية.
فلا غِنًى بالدعوات عن عِلْمِ الإدارة المعاصر، وعلم السياسة الشرعية؛ لتكثير المصالح الدعوية، من انتظام الأعمال، والإفادة القصوى من الرجال، وترشيد الجهود، وتنسيق المواقف العملية، وإقامة الشورى الإيمانية، وضمان انتقال الخبرات، وتراكم التجارب، واستمرار العطاء، وتحصيل أسباب النجاح والتمكين، وتَوَقِّي المعاطب، واجتناب المفاسد.
وكل دعوة راشدة تقوم على: ركيزة عملٍ جماعيٍّ، وتتمتع بقبولٍ وإقبال جماهيريٍّ -لا بد لها من تخطيط دعوي، وتدريبٍ عملي، ثم يأتي العمل التنفيذي، ليأتي معه وبعده التقويم القياسي، والذي يعين على التطوير الذاتي.
والخطوة الرئيسة في الإدارة: هي التنفيذ الذي سبقه تخطيط وتدريب.
ومن معالم التنفيذ المهمة: التنظيم وحُسْنُ الإدارة، والدعوة التي تدير أعمالها بطريقة منظمة هي أحرى الدعوات بحسن استثمار
الطاقات، وتوجيه الجهود لتحقيق الأهداف في أقل وقت وبأكمل أداء، ذلك أن النجاح قرينُ النظام، وأن الفشل ربيبُ الفوضى.
وكل عملٍ ناجحٍ تقف خلفه إدارةٌ تُحْسِنُ تحديد الأهداف، وتحويلها إلى خطة تُرْسَمُ بدقة، وتضع لها برامج، يقوم بها رجال مؤهلون ومدربون، وتتابعهم إدارة واعية تعلِّم وتُشجع، وتُحاسب وتُشاور، وتُشارك في حَلِّ المشكلات وتجَاوُزِ العقبات.
وحقيقة الإدارة التنظيمية أنها وسيلةٌ ناجحةٌ، وأداةٌ ناجعةٌ في تحصيل المقاصد، وإحراز النتائج، وكما هي موهبةٌ، فهي علمٌ، وخبرةٌ، وفنٌ، ودُرْبَةٌ.
والإدارة الدعوية مطلوبة شرعًا طلبَ الوسائلِ، لا الغاياتِ، وهي مسئولية، وتكليفٌ، لا غُنْمَ فيها، ولا تشريف، وهي مطلوبةٌ سياسةً طَلَبَ الذرائعِ، لا المقاصدِ، وكما تحتاجها الطائفةُ فلا يَستغنِي عنها الداعية الفرد، في تنظيم وقته، وإدارة جهده لاتخاذ المواقف المناسبة.
والقائدُ الإداري هو: من جمع بين القوة والأمانة، وبين الكفاءة والديانة، قال تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
واستئجار الأقوى أولى، والقوة في كل ولاية بحسَبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، والدُّرْبَةُ على الطعن والضرب،
والكَرِّ والفَرِّ، والقوة في الحكم بين الناس ترجعُ إلى العلم بالعدلِ الذي دل عليه الكتاب والسنة، والقدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألَّا يشتريَ بآياته ثمنًا قليلًا، وتَرْك خشية الناس (1).
وفي العمل الدعوي الإداري حقوق وواجبات؛ إذ كل حقٍّ يقابله واجب، ولا تصلح مطالبةٌ بالواجب قَبْلَ أداء الحق.
وفي العمل الإداري شورى تُسَدِّدُ الرأي وتقوِّم العمل، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وبهذا عَمِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في المهمات كافَّةً، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه:"ما رأيت أحدًا أكثرَ مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم "(2).
وفي العمل الإداري نفحة إيمانية، تُقَدِّمُ القدوةَ، وتُعَلِّمُ الأسوةَ، وتحارب الهوى، وتُحقق العدل، وترعى الأمانة، وتملأ الدعوةَ ربانيَّةً.
وفي العمل الإداري تقويمٌ دوري على أسس من الربانية والموضوعية؛ لاكتشاف الخطأ، وإصلاح الخلل، وضمان النمو،
(1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (28/ 253).
(2)
علقه الترمذي بصيغة التضعيف بعد حديث، (1714) ووصله عبد الرزاق، (5/ 330)، رقم، (9720)، وأحمد، (4/ 328)، رقم، (18928)، والبيهقي في سننه، (9/ 218)، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 340): رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
واستمرار العمل، وممارسة النقد الذاتي.
والتقويمُ القياسيُّ علامةُ صحةٍ وعافية في حق الأفراد والتجمعات كافَّةً.
وأخيرًا؛ فإذا قال قائل: إن أزمةَ كثيرٍ من الدعوات المعاصرة -والسلفية بشكل أخص- هي أزمةٌ إدارية فلن يكون قولُه هذا بعيدًا عن الصواب، ومجانبًا للحقيقة.
ولعلَّ توسيعًا في دائرة الكفاءاتِ القيادية المتخصصة تربويًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، وعمليًّا يحقق انفراجًا لهذه الدعوات، التي ربما أُصيبت بعقم إنتاجي، وضمورٍ جماهيري.
ولعلَّ مراجعةَ آلياتِ صناعة القرار داخل مؤسسات الدعوة إلى الله، وتعميق مبدأ الشورى، وتقويةَ التواصل بين القاعدة والقيادة، يُسهم في صناعة المواقف، بطريقةٍ أصوبَ وأحكمَ وأسلمَ.
ولعلَّ التركيزَ على صناعة المؤسسات السلفية الدعوية والإعلامية، بدلًا من بناء الرموز الفردية يكون أنفعَ للأمة من الاحتشاد خلف شخص، أو رمز، مهما كان أثره أو حجمه!