الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس عشر
الجنوح نحو التشديد والتعسير
فالخطاب السلفي قد يَضِيقُ -أحيانًا- بالحريات الفردية والجماعية، ويعمل على تضييقها، أو مصادرتها بالكلية، ولو تأملوا لرأوا الإِسلامَ يزدهر حيث تزدهر الحرية، وتتقلص الدعوة في ظل الاستبداد واستشراءِ الفساد، ولقد كانت مواقفُ كثيرين من مسائلَ معاصرةٍ جنحت إلى التشديد أو المنع، مع ما فيها من المصالح التي تربو على مفاسدها عند التأمل المنصف!
كما يجنحُ بعضُ السلفيين إلى تنزيل المستحب منزلةَ الواجب، وفي هذا توسُّعٌ في إيجاب الواجبات، وقد يصحبه تضييقٌ في إباحة المباحات، أو توسيع لدائرة المحرمات، وربَّما ترافق مع هذا غلوٌّ في الاختيارات الفقهية الفروعية الاجتهادية، فنُزِّلَتْ منزلةَ الثوابت والقطعيات، وتحوَّلَتْ الاجتهاداتُ إلى مناهجَ تُنسب إلى السلف والسلفية معًا!! وربما صار الخطابُ الخاصُّ أو الداخليُّ هو الرؤيةَ التي يُطْرَحُ من خلالها الدِّينُ بأَسْرِهِ، ويُدْعَى إليها الخلق بجملتهم، إن طريق السلف وطريقتهم منقولة بالتواتر حينًا وبالإجماع حينًا آخر، أما ما وقع فيه الاختلاف بينهم سائغًا ومبرَّرًا فلا مجال عندئذٍ إلى أخذِ اختيارٍ أو رأيٍ وتحويلِهِ إلى منهجٍ! فلا يوجد ما يدعو -إذنْ- للمصادر على بعض أقوالِهِم، أو احتكارِهَا، أو إطلاقِهَا شعارًا للمنهج السلفي.
ومن التشديد في الدعوة: محاولةُ إلزام الناس بالمثال، وطلب الكمال، والإنكار البالغ عند ترك نافلةٍ، أو ارتكاب ما لا يحرم، ومن التشدد التعصبُ للرأي أو المذهب، أو الجماعة أو الحزب، ومحاولة صَكِّ الناس في قالب واحد، أو صَبِّهم في منحًى عمليٍّ محدد.
ثم تأتي دعاوَى عريضةٌ، ربما صدرت بها كتبٌ جماهيرية في حسمِ الخلافات الفقهية، أو اتِّباعِ الأدلة المُرْضية، وهي صادرة عن شخصيات سلفية، فإذا بها تَنْحَى منحَىَ الإعناتِ بدءًا من عنوانها، وانتهاءً بمضمونها!
وقد يرتدي التشديد ثوبًا عقديًّا؛ فيُبدَّعُ من الأقوال أو الأفعال ما ليس ببدعة أصلاً، وقد يرتدي ثوبًا أصوليًّا؛ فَيُتَّخَذُ من سدِّ الذرائع منهجًا في الفتيا الحاظرة، ويُهْمَلُ فتحُ الذرائعِ! أو يُغَلَّبُ جانبُ الأخذِ بالأعنتِ؛ ظنًّا أنه الأحوط! وقد يرتدي ثوبًا فقهيًّا، وآخَرَ دعويًّا
…
وهكذا.
ولعل التشديدَ هو الاجتهادُ الأسهلُ، وليس الأفضلَ؛ إذ التشديد يُحْسِنُهُ كلُّ أحد! وإنما العلم الرخصة من ثقة، كما قال سفيان الثوري رحمه الله (1).
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، (1/ 784)، رقم، (1467).
والذي يبدو جليًّا للمراقب أن الخطاب السلفيَّ المعاصِرَ يُحاول -في مطلع الألفية الجديدة- إنتاجَ نفسِهِ مجدَّدًا من خلال مواقفَ مفصَّلَةٍ حولَ قضايا كان التعاملُ معها جُمليًّا، كالتفريقِ بين آلياتِ الديمقراطية، وفلسفَتِهَا العلمانية، وضبط الموقفِ من الليبرالية بعد تحديد مستوياتها بدقة، والموقف من الأنشطة السياسية البرلمانية، وغير البرلمانية، والتمييزِ بين البدع ومراتِبِهَا، وتفاوُتِ معاملة أهلِهَا بتفاوتِ مراتِبِهِمْ، كما انضبط لدى الكثيرين الموقفُ من العمل الجماعي، ولم يَعُدِ التبديعُ هو الحكم المرفوع في وجهه، ووقع تسامُحٌ ظاهرٌ في الموقف من التصوير الفوتوغرافي، وغدا هناك تفريقٌ بين ما يَحِلُّ منه وما يَحْرُمُ، ورُصد شيءٌ من تجنبِ الاستفزازِ في الخطاب الدعوي، وتفريقٌ بين واقع الاستضعاف، وواقع الاستخلاف، وقبولٌ بالتعدُّدية الدعوية السلفية، وغير السلفية!