الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر أولوية العالمية في الخطاب السلفي
عالميةُ الخطاب السلفيِّ مستمدةٌ -في الأصل- من عالمية هذا الدين -عقيدةً وشريعة- ومن عالمية كتابه، ومن عالمية بعثةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، ومن عالمية حاجة البشرية إليه.
فكان حقًّا على كل داعٍ أن يتأسَّى بالداعية الأول صلى الله عليه وسلم، حيث خرج بدعوته إلى خارج حدود الجزيرة، وكَاتَبَ الملوكَ والقياصرةَ والأكاسرةَ يَدْعُوهم بدعاية الإسلام، مصداقًا لقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
ولقد تجددت العالمية في دعوة الصحابة رضي الله عنهم من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث قام خطيبهم ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه؛ ليعلن هذا المبدأ في الدعوة، فقال:"ابْتَعَثنا اللهُ لِنُخْرِجَ الناسَ مِنْ عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ الله، ومِنْ ضِيْقِ الدنيا إلى سعةِ الدنيا والآخِرَةِ، ومِنْ جَوْرِ الأديانِ إلى عدلِ الإسلامِ"(1).
ومما يؤكد معنى العالمية -شرعًا-: إقامةُ آصِرَةِ الاجتماع على أصل التوحيد دون غيره من الأواصر، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
(1) انظر: تاريخ الطبري، (2/ 401).
إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ومما يثبته في الواقع بشارةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بدخول الناس في دين الله أفواجًا، وببلوغِ دعوةِ الإسلامِ ما بَلَغَ الليلُ والنهارُ، وبامتدادِ مُلْكِ أُمَّةِ الإسلامِ في مشارق الأرض ومغارِبِهَا، مما وقعَ بالفعلِ أو يُنْتَظَرُ وقوعُهُ.
ومما يبرهن على عالمية الدعوة إلى الإِسلام: تلك السعة في شريعته، التي تؤكد على رفع الحرج، ونفي الجناح، وجَلْبِ التيسير عند المشقة، وتغيُّرِ الفتوى بتغيُّرِ معطياتها زمانًا ومكانًا، وهذا الذي على مثله يُؤمِنُ الناسُ بالإِسلام؛ فتتحققُ مصالِحُهم في العاجل والآجل، ليس فقط بحفظ الضروريات، وإنما برعاية الحاجيات، والتحسينيات -أيضًا- مع تشريع الرُّخص المبيحة للمحرمات عند وجودِ المشَقَّاتِ البالغةِ، أو الضروراتِ.
ومن أظهر ما يدلل على العالمية في الدعوة ويرشحها: عالميةُ الصراع بين الإِسلام وملَلِ الكفر قاطبةً، وتحالفُ قوى الباطل على الإِسلام وأهله، مَنْ كانوا وحيث كانوا، قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
ومن أسفٍ أن تفتقدَ كثيرٌ من الدعوات السلفية في عملها اليوم
سمةَ العالمية، في الوقت الذي ترتفع فيه راياتٌ ومرجعياتٌ دوليةٌ عالميةٌ لليهود والنصارى، وللرافضة الباطنية، وأخيرًا للخرافيين والمنحرفين.
وربما انْتُقِدَ الخطابُ السلفي المعاصر بأنه خطابٌ تغلبُ عليه المنازعُ القُطْرِّيةُ، في حين انطلق غيرُهُ عالميًّا على المستوين الدعويِّ والسياسيِّ.
ومن عالمية الخطاب السلفي: تجاوزُ حدودِ المكانِ؛ فإن الدعوة العالمية هي التي تتجاوز حدودَ المكان، فلا تستغرق داخلَ مكانٍ، لا تخرج عنه، ولا تغفل عن الإفادة من أماكنَ أخرى، ولا تتقاعدُ عن نصرة قضايا المسلمين في مواطنها المختلفة؛ ذلك أن أهدافها عالميةٌ، وهي متوزِّعَةٌ على العالم بحسب أوضاعه المختلفة، وهذا -بطبيعة الحال- لا يمنع من أن يكون لكل بيئة خصوصياتُهَا، ومتعلقاتُهَا الظرفيةُ، فلا بد من موازنة بين الخصوصية، والكونية العالمية في خطاب الدعوات السلفية.
ومن عالمية الخطاب السلفي: رعايةُ الثوابتِ، والسَّعَةُ في موارد الاجتهاد؛ فالدعوة العالمية هي التي ترعى الثوابتَ والمحكماتِ في كل ميدان، وتتعامل مع قضايا ومسائل الاجتهاد بحسب معطياتها ومقدماتها، فلا تَقِفُ على رأي لا يتغير في هذا الباب، أو ذاك، ولا تجمد على أسلوب، أو وسيلة لا ترى سواها، كما لا تتبنى مذهبًا فقهيًّا ناسب مكان نشأة الدعوة، ثم ترفعه إلى منزلة المحكماتِ والقطعياتِ في كل مسائله وفروعه، فتخلط بين الموروث الفقهيِّ والأصولِ العقديةِ، أو
بين الثابتِ والمتغيرِ في الشريعة الإسلامية، ولا شَكَّ أن الرُّشْدَ -في ممارسة هذه الاختياراتِ، أو الدعوةِ إليها- يبدأ من الاعتراف بما انتهى إليه أهلُ كُلِّ بلدٍ ومَحِلَّةٍ، وما أحسنَ فقهَ الإمامِ مالكٍ حين نهى عن أن يُحْمَلَ الناسُ على فقهِ موطَّئِهِ.
ومن عالمية الخطاب السلفي: عالميةُ الوسائلِ، فتستفيد الدعوة من الوسائل والإمكانات المتاحة في كل مكان، بما يحقق الأهدافَ، ويُكَثِّرُ المنجزاتِ، فمكانٌ للجهود العلمية، وآخَرُ للإعلامية، وثالثٌ للسياسية، ورابعٌ للاقتصادية
…
وهكذا ينتفعُ أربابُ الدعوة العالمية بالتكامل التخصصيِّ بعد الاتفاقِ المنهجيِّ.
ومن عالمية الخطاب السلفي: عالميةُ الروابط والمؤسسات؛ فينبغي السعيُ في إيجاد هيئاتٍ ومؤسساتٍ مرجعيةٍ عالميةٍ متخصصةٍ في أدائها علميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا، تخدم قضايا التيارِ السلفيِّ، كما تعملُ على توحيد كيانات أهل السنة والجماعة، والتقريب بينها، والتنسيق بين مواقفها، ونصرة قضاياها المشتركة، مع التأكيد على أنه لا يمكن في الواقع أن تستقلَّ طائفةٌ -مهما عَظُمَتْ إمكاناتُها- بالتغيير الشامل، أو تنفردَ بالإصلاح الكامل.
ومن عالمية الخطاب السلفي: عالميةُ منافحَتِهِ عن القضايا الإسلامية، وما يُطْرَحُ في الساحة العالمية من توجُّهاتٍ ورؤًى حولَ ما يُسَمَّى بـ:(صراع الحضارات)، أو (الأديان)، وما يسوَّق له عالميًّا من:(تقارب الأديان)، و (وحدة الأديان)، و (العولمة الغربية).
ومن عالمية الخطاب السلفي: العنايةُ بدعوة أُمَّةِ الدعوة، وأُمَّةِ الإجابة معًا، وينبغي أن يكون لكلٍّ مستوًى ومضمونٌ يخصُّهُ في الخطاب السلفي.