الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني عشر أولوية خطاب النهضة الشاملة
تشتد الحاجة إلى الحديث عن النهضة، ولا سيما في أعقاب الثورات وبدايات الانطلاقات.
ولقد شهد العالم الإِسلامي ثورة إصلاحية قادها مَنْ عُرفوا برواد المدرسة الإصلاحية في العصر الحديث، حيث عُنِيَتْ هذه المدرسةُ بطرح سؤالات النهضة، بعد البحث عن أسباب التخلف والضعف في مسيرة المجتمع الإسلامي.
كما عُنِيَ أصحابُ تلك المدرسةِ الإصلاحيةِ بعمل تجديدي، وإصلاحٍ فكريٍّ، وترسيمٍ نوعيٍّ للعلاقة بمشاريعِ النهضة في العالم الغربي الأوروبي، وبغضِّ النظرِ عن تقويمِ ذلك العملِ التجديديِّ، ورصدِ النقد المنهجيِّ الموجِّهِ له، فإن هذا النوع من الخطاب الذي يستلهم روحَ الإسلام؛ لِيُنْهِضَ الأمةَ لتستعيد عِزَّتَها وريادتَها من خلال تمكينٍ وترسيخٍ لأدوات التغيير والإصلاح -يعتبر رُكنًا ركينًا في بناء الحضارة، وتحصيل الصدارة، وإقامة الأمة المسلمة في مقام التمكين عن جدارة.
وإذا كان الشيخ محمد عبده، ومِنْ بعدِهِ الشيخ محمد رشيد رضا، ثم الأمير شكيب أرسلان رحمهم الله يمثلون سلسلةً متصلةَ الحلقات في مسيرة إصلاحية نهضوية ذات توجهاتٍ سلفيةٍ عامةٍ؛
فإن هذا الخطاب قد ضعف كثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك باستثناء مبادراتٍ فرديةٍ، كمثل مالك بن بني، حيث غلبَ على الخطابِ الإِسلاميِّ عمومًا الاهتمامُ بالهوية والمرجعية، وإدارة السجالات حولها، ومحاولات إقامة الدولة الإسلامية، ومن ثم الثبات في وجه الصدامات السياسية، أو التعقيدات الأمنية، أو الحملات الإعلامية، أو مقاومة التغريب والتشكيك.
ومع التسليم الكامل بأهمية هذه الخطابات، إلَاّ أنه يجب أن نُسَلِّمَ -أيضًا- باستنزافها لكثير من الطاقات، وتضخم تلك الاهتمامات على حساب المهمات الاجتماعية الضارية، ذات الصلة بنهضة تلك المجتمعات، وهي قضايا لا يصلح، ولا يكفي فيها إجابةٌ مبشرة عن أسئلة النهضة من غير تفصيل، ولا تدليل، ولا تعليل؛ استغناءً بالجوابِ المُجْمَلِ:(الإسلام هو الحل!) أو: (الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة!).
ومن نافلة القول: أن الدعوات السلفية -وهي تلج في عالم اليوم إلى آفاق رحبة، وتدخل في مشاركات مجتمعية واسعة- مطالَبَةٌ بأن تتجاوز مرحلةَ الشعاراتِ البرَّاقَةِ، والمطالبات التي تشبه مطالب المعارضة؛ لتنتقل بالأمة إلى برامجَ عمليةٍ تبني من خلالها نهضةَ الأمةِ، وذلك عملٌ يحدوه أملٌ في التغيير الإيجابي، والتحول العملي جهةَ صناعة الحياة في تحديات كثيرة، وهنا يجب التنبه إلى أن التيارات السلفية خاصَّةً عليها أن تنحى منحًى
عمليًّا؛ لتواجه الجهل، والفقر، والتخلف، والمرض، والاستبداد، واستلاب المقدرات، والعجز التقني، وقلة الموارد البشرية المؤهَّلَةِ والمدرَّبةِ عمليًّا، وهذه عوائقُ حقيقيةٌ مهمٌ اجتيازُهَا؛ لنعبر بالأمة إلى ميدان الثقة بالأطروحات النظرية، والشعارات الدعوية، والتوجهات السلفية ذاتها.
وفي هذا السبيل: لا بد من
تخفيف غلواءِ المواجهات النظرية، والمعارك الجانبية، سواءٌ في ذلك الآخَرُ غيرُ الإِسلامي، أو الإِسلامي، ومحاولة حشد الجميع في إطار من العمل الإيجابي المشترك.
مع ملاحظة: أن المواجهة مع العدو العلماني، أو العقلاني، أو الليبرالي، لا تنبغي أن تكون نظريةً، أو انعزالية، بل لا بد أن تكون عملية؛ ليحقق الإسلاميون أنموذجًا عمليًّا، يمثل بديلًا تطبيقيًّا مقبولًا، يمكن اعتماده، ويسهل على الناس الانحياز إليه، عوضًا عن النماذجِ والتطبيقاتِ المرفوضةِ دينيًّا، أو المشوَّهَةِ حضاريًّا!
فلا يصلح لنا بحال أن يبقى أملُ النهضة حلمًا تاريخيًّا، نستدعيه من الذاكرة لنستروحَ به، أو لندغدغ المشاعرَ فحسب!
وإنما علينا أن نتحول مِنْ ذَرْفِ الدموع إلى إيقادِ الشموعِ، وهذا لا يتأتَّى إلا بترجمة أهدافِ النهضةِ المرجوَّةِ إلى مشاريعَ
عمليةٍ، وبرامجَ تنفيذيةٍ، يرابط من خلالها صُنَّاعُ الحياة على ثغورِ الأمة، وجبهاتها المتنوعة، وهنا تأتي مصطلحات مهمة؛ كالإصلاح السياسي، وتحقيق التنمية المستدامة، وبسط العدالة الاجتماعية، والقضاء على البطالة، ومعالجة البيئة من التلوث، وإصحاح الأبدان، واللحاق بركب التقدم التقني والفني، ومحاربة الفساد، وتجفيف منابعه، وأسلمة الحياة بشكل عام، وكل ذلك من خلال برامجَ عمليةٍ، وتفاصيلَ تنفيذيةٍ، وحلولٍ ناجعةٍ، وبدائلَ ناجحةٍ، ومعالجاتٍ واقعية للمشكلات المجتمعية المعاصرة!