الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر أولوية ضبط الخطاب السلفي الموجه للحضارة الغربية
تراوح الموقف الإسلامي من الحضارة الغربية بين انبهارٍ، وانخداعٍ، واستخذاءٍ، وشعورٍ بالدونية، ووقوعٍ في أَسْرِ الهزيمة النفسية والفكرية، أمام إنجازات الحضارة الغربية، وجوانبها المادية من جهة، وبين رفضٍ مطلقٍ وانكفاءٍ على الذات ومعاداةٍ مع انعزالٍ وارتحالٍ إلى الماضي والتراثِ، وانسحابٍ من المواجهة الفكرية، أو الحضارية، وهذا من جهة أخرى.
ويبدو أن كِلا الموقفين غيرُ حميدٍ، فأصحابُ الموقفِ الأول واقعون بالكامل في أَسْرِ الحضارة الغربية مولعونَ بتقليد أصحابها في الصالح والطالح، وأصحابُ الموقفِ الثاني لا يرون من علاقةٍ إلَّا المواجهة الحاسمة، أو الانعزال حتى تتهيأ المنازلة الفاصلة!
ومن أسفٍ أن كثيرًا من السلفيين يلحقون بأرباب الموقف الثاني! ويبدو أن هذا غيرُ سديد؛ فعامة السلفيين اليومَ يرون التعامل الانتخابي مع هذه الحضارة التي تموج بما يُقبل وما يُرَدُّ، وما يصلح وما لا يصلح، وعليه؛ فإن المعطيات النافعة لهذه الحضارة لا بد من رعايتها، وسلبياتها لا مناصَ من اجتنابها، وهذه الطريقة الوسطية لا تُغْفِلُ قول الله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وقوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
كما أنها تتفهمُ النظرةَ السلبية عن الإسلام والدين بشكل عامٍّ لدى الغربيين، وتقف على أسبابها، وعلى محاولات الإبادة والتهميش والإقصاء التي تُمَارَسُ ضد المسلمين في بقاع كثيرة، وفي قضايا المسلمين الكبرى بشكل عام.
والخطاب السلفي المعاصر حين يتوجه إلى الغرب ينطلق من مبادئ حاكمةٍ، ويتوخى الانضباطَ بقواعدَ أصيلةٍ في الخطاب والعلاقة بالغرب، فلا بد من التأكيد على عالمية الخطاب الإسلامي، فلا يتقيد هنا الخطاب بجنس، ولا لون، ولا لغة، ولا ينكفى على صفوة من الناس، بل هو خطاب لأمة الدعوة، كما هو خطاب لأمة الإجابة.
وهو خطاب إنسانيُّ المنطلق، يبحث عن التعارف والتآلف، ويتجه إلى الناس جميعًا، وبني آدم بأَسْرِهِمْ، ويتعاون معهم على البِرِّ والتقوى، ويُنْشِئُ علاقاتٍ من الأخذ والإعطاء، والاتصال الحضاري، والعطاء الإنساني.
وهو خطاب علميٌّ مستقلٌّ مبدعٌ، يُرَاعِي اختلافَ الظرف الزماني والمكاني، ويُفَرِّقُ بين الثابتِ والمتغيرِ، والمبدئيِّ والمرحليِّ، لا يقنعُ بالدونيَّةِ، ولا يرضى بالتبعيَّةِ للحضارة الغربية، وإنما ينفتح عليها بشكل نقديٍّ واعٍ، ولا يقبل باستيرادِ الإجابات
الغربية على الأسئلة الحضارية، وإنما يناقشها في ضوء: أن الإسلام منهج حياة، فلا هو ينفتحُ انفتاحًا سلبيًّا، ولا يرفضها رفضًا كليًّا!
ومن خلال هذه الرؤية يتعين على الخطاب السلفيِّ أن يُحَرِّرَ اليوم -قبل الغد- الأسسَ الشرعيَّةَ للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، خارج ديار الإسلام، بصورة تركز على البعد الإنسانيِّ والدعويِّ، مع مراعاة جانب المصالحِ المشتركَةِ، وتقوية جانب الإعلام الإِسلاميِّ؛ ليقوم بدور السفارة لدى الغرب بمختلف أطيافه ومؤسساته، وإبراز العطاء الحاضريِّ العالميِّ للمسلمين عبر تاريخهم المجيد.
ولا بد في هذا السياق من تعريجٍ على خصوصيةِ علاقةِ المسلمين بغيرهم، داخلَ بلادِ الإسلامِ، والتي تقوم على التسامحِ والإحسانِ والبِرِّ، وحُسْنِ المعاشرة، وتحقيقِ العدلِ وإقامة القسط، قال الله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فلا يكون اختلافُ الدين مبررًا لظلمٍ، أو دافعًا لبغيٍ، كما أن الإقرار بوجود الأديان لا يعني إقرارًا بصحتها جميعًا.
والاشتراك في الوطن يُنْشِئُ اشتراكًا في تحقيقِ مصالِحِهِ من قِبَل أبنائه جميعًا، مهما اختلفت عقائدهم، والانتماءُ الوطنيُّ عاطفة جِبِلِّيَّةٌ، لا اعتراض عليها، ما لم تتحوَّلْ إلى عصبيَّةٍ وحميَّةٍ جاهليَّةٍ.
والتقريبُ بين الأديان مصطلحٌ مُجْمَلٌ، فإن قُصِدَ به الدعوةُ إلى الله تعالى، وإقامةُ الحُجَّةِ على عباده، أو قُصِدَ به التعايشُ الآمِنُ بين أصحاب الأديان المشتركة في الوطن، بما يَحْقِنُ الدماءَ ويُسَكِّنُ الثائرة؛ فلا إشكال فيه، وإن قُصد به خَلْطُ الأديانِ ودَمْجُ المللِ والنِّحَلِ بالإِسلام؛ فذلك عمل محظورٌ، وسعيٌ غيرُ مشكورٍ، والمشارِكُ فيه مأزورٌ غيرُ مأجورٍ، بإجماع المسلمين، ولا كرامة له، ولا لصاحبه!