الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
فقه الأولويات في الخطاب السلفي
(1)
ينطلق فقه الأولويات في الخطاب السلفي من قواعد السياسة الشرعية، ومن المقاصد الكلية للدعوة الإِسلامية، فهو إدراكٌ شرعيٌّ مقاصديٌّ واقعي لِرُتَبِ الأقوال والأعمال، وترتيبِهَا نظريًّا وعمليًّا، وذلك من حيث الأهميةُ والتقديمُ والأرجحية.
وهذا الفقه علَّمه الله تعالى لعباده ببيان التفاوت بين الأعمال ورُتَبِها، سواء أكانت صالحة، أم طالحة.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217] قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(1) يراجع كتاب: معالم في أصول الدعوة، فصل رعاية الأولويات، ط4، دار اليسر.
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [التوبة: 19، 20] كما عَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ رُتَبَ الأعمالِ الدعوية، وما حَقُّهُ التقديمُ منها؛ فحين أَرسل معاذًا داعيًا ومعلمًا قال له صلى الله عليه وسلم:"إنك تَقْدَمُ على قوم من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرْهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صَلَّوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم؛ تؤخذ من غنيهم، فتُرَدُّ على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك، فخذ منهم وتوقَّ كرائمَ أموال الناس"(1).
وعن نبينا صلى الله عليه وسلم أخذ عمرُ رضي الله عنه ما كتبه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه موجهًا ومفقِّهًا، فقال رضي الله عنه:"إن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، افهم إذا أُدلي إليك؛ فإنه لا ينفع كلمة حق لا نفاذَ له، آسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يطمعَ شريف في حيفك، ولا يخافَ ضعيف من جورك"(2).
وعن كتاب ربنا، وسنة نبينا وهدي سلفنا قَرَّر العلماء قواعدَ الأولويات بين الضروريَّات والحاجيَّات والتحسينيَّات، كما أَصَّلُوا للتفاوت بين الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات؛ في ذاتها تارةً، وعند التزاحم والتعارض أخرى.
(1) أخرجه البخاريُّ، (1458)، ومسلم، (19) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
السنن الكبرى، للبيهقي، (10/ 135).
وهذا الفقه الدعويُّ يقتضي موازنةً في الخطاب بين المصالح والمفاسد، ومقابلةً بين المنافع والمضارِّ عند التزاحم، كما يقتضي إدراكًا لمقاصد الشريعة ومعانيها الكليةِ التي لأجلها شُرِعَتِ الأحكامُ، والتي على أساسها تترتب مصالحُ الأنام.
وجهات الأولوية متعددة متنوعة، فالأعمال المطلوبة من حيث الزمان تتفاوت رتبها؛ بناءً على إدراك واجب الوقت، وفريضة العمر، وشرف الزمان والدهر.
كما تتفاوت من حيث المكان، وما يتعلق به من عمل، رعايةً لفضله، أو تقديرًا لعُرْفِ أهله، كما تتفاوت من حيث ما يطرأ من أَمْرٍ استثنائيٍّ، أو يعرض من حال خاصة، أو ما يقع مما يَعْسُرُ الاحترازُ عنه، أو تعمُّ البلوى به.
وكذلك فإن الأعمال والتصرفات - سواءً أكانت قلبية، أم قولية، أم فعلية - تتفاوت في ذاتها، كما تفاوتت باعتباراتٍ من خارجها.
فمعيار إدراك الأولويات - في الدرجة الأولى - شرعيٌّ، وميزان الترجيح بينها نقليٌّ؛ إذ هو المصدر المعصوم، والصدور عنه فرضٌ محتومٌ، ثم ما استند إليه من إجماع موثَّق، أو قياس محقق.
ثم تأتي - في الدرجة التالية - المقاصد الشرعية، والمصالح المرعية، ومصادر التشريع الثانوية؛ كسَدِّ الذرائع، أو فتحها
…
وغيرها.
وأخيرًا تأتي المشتركات العامة؛ مِن تجارب الدعاة من لدن أنبياء
الله تعالى وإلى اليوم.
ثم إن المقاصد الشرعية، والمصالح المرعية، والمشتركات الدعوية تتعلق جميعًا بالواقع، وترتبط بالحياة، وبقدر رعاية الخطاب السلفي لخصائص الواقع، ومجريات أحداثه ومؤثراته؛ تتعاظم فاعليته، وتتجلى ثمراته ونتائجه.
وفقه الأولويات في الخطاب الإِسلامي السلفي له ركائزُ يقوم عليها، تمثل معاقد الاتفاق، وأصول الوفاق، وهي كالأصول المحكمات، بين سائر الدعاة أفرادًا أو جماعات، وعند التفصيل في إعمال التأصيل قد تتفاوت الاجتهادات، وتتنوع التخصصات، ومثل هذا لا تتفرق به الكلمة، ولا تتأتى معه في الصف الإِسلامي - بحمد الله - ثُلمة.
وقبل الدخول إلى الحديث عن فقه الأولويات في الخطاب السلفي المعاصر، تتعين الإجابة عن سؤال مهم، وهو: لماذا الحديث عن هذا الأمر الآن؟ وما الداعي إلى الاشتغال به في هذا التوقيت الذي يُلْمَسُ فيه انتعاشٌ سلفيٌّ وحضورٌ سياسيٌّ؟! وفي الفصل الآتي بيانٌ موسَّعٌ يتضمن إجابة تطوف حول معالِمَ تاريخيَّةٍ أحيانًا، وواقعيةٍ ومنهجيةٍ أحيانًا أخرى.