الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع المطالبة الخارجية بالتجديد والتبديد في الخطاب السلفي
إذا كان لدى كثير من الإِسلاميين ما يدعوهم لمراجعة الخطاب الإِسلامي والسلفي منه على وجه الخصوص -وقد بدأوا في إجراء تلك المراجعات والتأملات في مسيرة العمل الإِسلامي وأدائه العام والخاص- فإن القضية قد أخذت بعدًا آخر منذ إعلان الإدارة الأمريكية (الممثلة للمحافظين الجدد) المتحالفين مع (المسيحية الصهيونية) و (اللوبي الصهيوني) منذ إعلانها الحرب على الإِسلام -الذي سمته (إرهابًا) - عقب قارعة 11 سبتمبر سنة 2001 م
…
ولقد كانت جبهة (الخطاب الديني الإِسلامي) في المساجد، والمدارس، والفكر، والثقافة، والإعلام، واحدةً من الجبهات الرئيسة لهذه الحرب المعلنة على الإِسلام.
وغَيْرُ ما كتبه الأمريكيون عن ضرورة (تغيير) الخطاب الديني الإِسلامي، وغَيْرُ (الضغوط) و (الطلبات) و (الأوامر) التي مارستها الإدارة الأمريكية على الحكومات الإِسلامية، و (الاعتمادات الدولارية) التي رُصِدَتْ لهذا (التغيير) للخطاب الديني الإِسلامي -والتي استجابت وخضعت لها الكثيرُ من الحكومات- غَيْرُ هذا (الفعل الأمريكي المباشر)، وجدنا العديدَ
مما يسمى بـ: (منظمات المجتمع المدني) في بلادنا، التي يُمَوِّلُها الغربُ، والتي تقوم أساسًا على جهود عشرات من المثقفين الماركسيين، والمتمركسين، والحداثيين المتغربين -وجدنا هذه المنظمات قد انخرطت في معركة كبرى تحت شعار: تجديد الخطاب الديني، والإِسلامي منه فقط، دون سواه! (1).
وتحت مسمى: (التجديد في الخطاب الإِسلامي) عُقِدَتْ مؤتمراتٌ رسمية تبنتها وزارات الأوقاف والشئون الإِسلامية بدول الخليج ومصر، كما تبنت ذلك جمعياتٌ ومؤسسات إسلامية محلية ودولية، وتبنت بعضُ الدول مبادراتٍ حول الحوار، وعَقَدَتْ من أجله مؤتمراتٍ دوليةً، وسرَتْ هذه الدعوة كالنار في الهشيم بهديرٍ يُصِمُّ الآذانَ، ويمنع من الفكر، ويُغلق على العقل منافذَ التروي والتَّبَصُّرِ!
وما تزال عجلةُ التنادي إلى تجديد الخطاب الإِسلامي -والسلفي منه على وجه الخصوص- دائرةً إلى يوم الناس هذا، يختلط فيها الحق بالباطل، كما يختلط الحابل بالنابل!!
(1) الخطاب الديني بين التجديد الإِسلامي، والتبديد الأمريكاني، د. محمَّد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، ط: 2، (1428 هـ -2007 م)، (ص 5).
ومن آخر تلك الفعاليات: مؤتمر سمات الخطاب الإِسلامي، والذي عقده (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) بالقاهرة في الفترة من (27 - 28 شعبان 1432 هـ، الموافق 28 - 29 يوليو 2011 م).
ومن آخر تلك الكتابات: بحث تجديد الخطاب السلفي، للدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي، والمنشور بمجلة البيان، عدد 287 (رجب 1432 هـ، يونيو 2011 م).
وتجديد الدين، وتجديد الخطاب الديني، منه: ما هو مقبول ومشروع ومحمود بحمد الله، وهذا يتوقف على مفهوم التجديد عند من يقول به، وتجديد مجالاته، بعد إدراك مسيس الحاجة إليه.
ومن غير شكٍّ؛ فإنه ليس أمرًا سهلًا أن يُحَدَّدَ مصطلحُ التجديد تحديدًا أمينًا دقيقًا، في زمنٍ أصبحتِ المصطلحاتُ مستهدَفَةً من قبل مختلف التوجهات والأيديولوجيات المتعارضة حينًا، والمتناحرة أحيانًا أخرى!!
"ولا شكَّ أن مصطلح التجديد يُستعمل اليوم للتوصل به إلى نقضِ بعضِ عرى الإِسلام تارةً، وإلى توهينِ بعضِ عراه الأخرى، وإن كان الأصل أن يُرْفَعَ شعارًا للمصلحين الصادقين المجدِّدِين لما انْدَرَسَ من معالم الدين"(1).
(1) التجديد في عرض السيرة النبوية، د. محمَّد يسري، ط: 1، دار اليسر، (ص 9).
وأمام هذه الإشكالية فلا بد من وقفة متأنية مع الدَّلَالتين؛ اللغوية، والاصطلاحية الشرعية، بحيثُ يزولُ الإيهامُ، ويرتفعُ اللبسُ، ويعبَّدُ الطريقُ، ليكشف عن فهم أمين ودقيق لمصطلح التجديد؛ ليكون بمثابة الفرقان ما بين التجديد الشرعي، والتبديد الغربي العبثي.
أولًا: المعنى اللغوي للتجديد:
التجديد: تصيير الشيء جديدًا، وَجَدَّ الشيء، أي: صار جديدًا (1).
وكل ما لم تأتِ عليه الأيامُ يسمى جديدًا؛ ولذا يسمى الليلُ والنهارُ الجديدين والأَجَدَّينِ؛ لأن كلَّ واحد منهما إذا جاء فهو جديد (2)، والجديد نقيض الخَلَق (3)، والجِدَّة نقيضُ البِلَى (4).
قال ابن الرومي:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَجْدِيدِ وُدِّكُمُ
…
وَهَلْ يُجَدَّدُ شَيءٌ بَعْدَ إِخْلَاقِ (5)
وعليه؛ فإن التجديد لغةً يدور حول العودة بالشيء إلى حالته الأولى قبل أن يصيبه البِلَى، وهذا المعنى اللغوي هو المعتمد في بيان القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
(1) لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط: 1، (3/ 107).
(2)
معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، ت: عبد السلام هارون، دار الفكر، ط: 1، (1399هـ -1979 م)، (1/ 409).
(3)
تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري، ت: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، ط:4، 1990م (2/ 445).
(4)
لسان العرب، لابن منظور، (3/ 107).
(5)
ديوان ابن الرومي، ت: حسين نصار، ط: دار الكتب المصرية (1397 هـ)، القاهرة، (4/ 1647).
جَدِيدًا} [الإسراء:49]. والمقصود: إعادة خلقهم، كما كان أول مرة، وليس ابتداء خلقهم على غير مثال سابق.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي للتجديد:
لا امتراء في أن مصطلح التجديد قد وَرَدَ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم واسْتُعْمِلَتْ مادته في السنة النبوية، ومن أشهر ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "إن الله يَبْعَثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كُلِّ مائةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِينَهَا"(1).
ولذا نجد أهلَ السنة -في كتب شروح الحديث- لا يعرفون من معنى التجديد سوى أنه: "إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات"(2).
ودور المجدد لا يخرج عن أنه "يحيي ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وخَفِيَ من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة"(3).
وتجديد الدين يستلزم -بالضرورة- إظهار هدايته، وبيان حقيقته وأحقيته، ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلوِّ فيه، أو التفريط في
(1) أخرجه أبو داود، (4291) والحاكم في المستدرك، (4/ 567) من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم، (599).
(2)
عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمَّد شمس الحق العظيم آبادي، دار الفكر، (1399هـ)، (11/ 391).
(3)
فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الكتب العلمية، ط: 1، (1415هـ - 1994م)، (1/ 14).
إقامته، ومراعاة مصالح الخلق، وسنن الاجتماع والعمران.
والمعاصرون من علماء الإِسلام ودعاته يقررون ذلك المعنى ويُجِلُّونه، فهو عند المودودي:"تنقية الإِسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصًا محضًا على قدر الإمكان"(1).
وهو عند القرضاوي: "يقتضي جملة أمور:
1 -
الاحتفاظ بجوهر القديم، وإبراز طابعه وخصائصه.
2 -
ترميم ما بَلِي منه، وتقوية ما ضعف من أركانه.
3 -
إدخال تحسينات عليه، لا تُغَيِّرُ من صفته، ولا تُبَدِّلُ من طبيعته" (2).
ويزيد البيانَ وضوحًا، فيقول:"ولا يعني تجديده: إظهارَ طبعةٍ جديدة منه، بل يعني: العودةَ به إلى حيث كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن تبعهم بإحسان"(3).
ومن هذا البيان الوافي لعلماء الإِسلام -قديمًا وحديثًا- نرى أن
(1) موجز تجديد الدين واحيائه، لأبي الأعلى المودودي، ط:3، دار الفكر بيروت، (1968)، (ص 25).
(2)
الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، للدكتور يوسف القرضاوي، ط: 2، مكتبة وهبة، القاهرة (1424هـ)، (ص 29 - 30).
(3)
من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، للدكتور يوسف القرضاوي، المكتب الإِسلامي، بيروت، ط: 1، 1998 م، (ص 28).
التجديد يتضمن نفيًا وإضافةً؛ فالتجديد يحرس الدين بنفي كلِّ دخيل يمسُّ أصوله أو فروعه بالتبديد، أو التأويل الفاسد، والانتحال الباطل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العلمَ من كل خلف عدولُهُ، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"(1).
والتجديد يحرس الدين بإضافةٍ تقتضي تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجدُّ من وقائع وأحداث، وهذا هو الاجتهاد الذي به تستنبط أحكام ما استجدَّ من الحوادث والواقعات.
ثالثًا: التجديد عند الفقهاء:
التجديد عند الفقهاء قريب من الاجتهاد، أو موازٍ له، وهو إضافة أحكام مستنبطة لنوازل مستجدة.
يقول السيوطي: "المجدِّد: هو المجتهد، وإذا حُمل تأويلُ الحديث على هذا الوجه كان أولى وأشبه بالحكمة"(2).
ومقصد الإضافة هنا: إمداد التجربة الإنسانية النامية بما تحتاج
(1) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، (1/ 344) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والبيهقي في السنن الكبرى، (10/ 209) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وصححه الألباني من حديثه في المشكاة، برقم، (248).
(2)
تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد، للسيوطي، ت: د. فؤاد عبد المنعم، ط: دار الدعوة، الإسكندرية (1403 هـ)، (1/ 59).
إليه من أحكام تتلاءم مع ما يستجد من أوضاعٍ، وفي هذا حفظٌ للدين من الجرأة عليه، بحجة توقُّفِ عطائه الحضاري، أو قصورِ أحكامه عن ملاحقة كلِّ جديد، وضبط الاستفادة من كل مفيد.
ومن هنا يُتَبيَّنُ -مثلًا- مأخذُ أبي بكر رضي الله عنه في جمع القرآن، ويتجلَّى فقهُ عمر رضي الله عنه في جمع الناس على إمام واحد في قيام رمضان، ويَظْهَرُ -أيضًا- منزعُ عثمان رضي الله عنه في نسخ المصاحف، واعتماد ما أرسله إلى الأمصار.
ولا حرج أن يدخل في الإضافة كُلُّ جديد من الوسائل والآليات التي تقدم المضمون بلا تحريف أو تبديل أو تأويل فاسد، والتي لا تصادم نصًّا شرعيًّا، وتحقق المقصود من أقرب سبيل، وأيسر طريق.
وهذه الإضافة لا حرج فيها ما دامت متجهة نحو الشكل، لا المضمون، وصَوْبَ الوسائل، لا المقاصد.
رابعًا: التجديد عند المتغربين، وأرباب العلمنة:
أما عن التجديد عند المتغرِّبين، وأرباب العلمنة والحداثة، وربائب الاستعمار، وصنائع الليبرالية فهو يتضمن زحزحةَ الإِسلامِ عن ضبطِ الحياةِ، وفَصْلَ الدين عن الدنيا؛ باسم المدنية تارةً، وباسم الحرية تارةً أخرى، وهذا عين الطمس والتحريف والتدمير والتبديد!
وهو في حقيقته: "نَبْذُ الشريعة والقيم والمعتقدات، والقضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجديد، وتَجاوُزُ جميعِ ما هو قديم،
وقَطْعُ صلةِ الأمة به" (1).
وعلى ما سبق؛ فإن تجديد الدين يدور في فلكي النفي والإضافة، حتى يعودَ الدين -كما كان في الصدر الأول- التزامًا بالدين على أكمل ما يكون الالتزام، وتصدِّيًا لكل جديد بالاجتهاد الدائم الدؤوب الذي يضبط كلَّ جديد بضابط الإِسلام (2).
وهذا النفي وتلك الإضافة ليست في الدين ونصوصه، ولا في أصوله أو معاقده، وإنما هي في علاقة الأمة بدينها، وفي سلوكها، وفكرها المتفاعل مع نصوصه وثوابته؛ إذ هذا الجانب هو ما تعتريه القوة والضعف، ويتنزل عليه التجديد، ويقبل الإصلاح، وفيه يقع التغير (3).
قال ابن حزم رحمه الله: "واتفقوا أنه مذ مات النبي صلى الله عليه وسلم فقد انقطع الوحي، وكمل الدين، واستقر، وأنه لا يحل لأحد أن يزيد شيئًا من رأيه بغير استدلال منه، ولا أن ينقص منه شيئًا، ولا أن يبدل شيئًا مكان شيء، ولا أن يُحْدِثَ شريعة"(4).
(1) تقريظ كتاب الحداثة في ميزان الإِسلام، للعلامة ابن باز رحمه الله، والكتاب من تأليف د. عوض القرني، ط: دار الأندلس الخضراء، جدة، (ص 7).
(2)
تجديد الدين، مفهومه، وضوابطه، وآثاره، للدكتور محمَّد حسانين، نشر جائزة نايف بن عبد العزيز، ط: 1، (1428 هـ)، (ص 35).
(3)
التجديد في الفكر الإِسلامي، د. عدنان محمَّد أمامة، دار ابن الجوزي، ط: 1، (1424هـ)، (ص 20).
(4)
مراتب الإجماع، لابن حزم، ت: حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم، ط: 1، (1419هـ، 1998 م)، (ص 270).
"فالتجديد -عند الشرعيين- هو عملٌ لإحياء منارات الدين، ومواجهةٌ لتحريف المحرفين، وسعيٌ للتمكين، وحفظٌ لصلاحية الشريعة بالاجتهاد المحكم الرصين"(1).
"والتجديد مطلوب شرعًا وواقع قدرًا، أما وقوعه القدري ففيما أخبر عنه الله سبحانه وتعالى من حفظه الدين من التغيير إلى قيام الساعة، فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وفي هذه الآية -إضافة إلى ذلك- البشرى العظيمة ببقاء هذه الأمة ظاهرةً على الحق وعدم هلاكها، حتى مع تغلُّبِ أعدائها عليها؛ إذ لا بد من بقاء طائفة حتى يظل القرآن -عن طريقها- محفوظًا، وهو ما دَلَّ عليه حديثُ الرسول صلى الله عليه وسلم "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقِّ، لا يَضرُّهم مَنْ خَذَلَهُمْ حتى يأتيَ أمرُ الله وهُم كذلك" (2)، وأما طلبُهُ الشرعي ففيما جاء من التكليف بالعمل بما فيه، وتبليغه للناس، ونشره بينهم، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة آمرةً بالتمسك بالدين، والعمل به، قال الله تعالى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(1) التجديد في عرض السيرة النبوية، د. محمَّد يسري، ط: 2، دار اليسر، (ص 13).
(2)
رواه مسلم، (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[الزخرف:43]، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]، فكان الأمر بذلك متضمنًا للأمر بحفظه؛ إذ لا يتمكن المسلم من اتباع ما أَنزل الله والاستمساك بوحي الله تعالى إلا مع المحافظة عليه وحفظه.
خامسًا: الأدلة على الحاجة إلى التجديد:
قد دَلَّ على الحاجة إلى التجديد أدلةٌ كثيرة، منها:
1 -
حديث التجديد السابق: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(1)؛ فهذا وإن كان فيه البشرى بعدم خلو أمة المسلمين من المجددين إلا أنه تَضَمَّنَ في ثناياه الإشارةَ إلى ما يطرأ على حياة الناس بمرور الزمن في العصور المتعاقبة؛ مما يستدعي الحاجة إلى التجديد، فمن ذلك مثلًا:
أ- جهلُ أكثرِ الناس بلغة العرب الفصيحة وبأساليبها في البيان.
ب- ظهورُ كثير من المعاملات والتصرفات المحدثة، والتي تحتاج إلى بيان الوجه الشرعي الصحيح بإزائها.
ج- التقدمُ التقني الهائل الذي قَرَّبَ البعيدَ مما أوجد احتكاكاتٍ وتعاملاتٍ مع العالم بأسره لم تكن موجودة من قبل، فيحتاج الناس فيها إلى معرفة حدود تلك التعاملات، وتمييز ما يدخل من ذلك ضمن الولاء أو البراء وضبطه، حتى لا يَحْدُثَ
(1) أخرجه أبو داود، (4291)، والحاكم في المستدرك، (4/ 567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم، (599).
غلوٌّ أو جفاءٌ.
د- ظهورُ المنظمات والتنظيمات الإقليمية والدولية، والتي يحكمها قانون أو دستور مِنْ وَضْعِ تلك الدول نفسِهَا، فيحتاج الناس إلى معرفة حقيقة العلاقات الدولية وضوابط ذلك من الناحية الشرعية.
2 -
حديث قبض العلماء: إن نقصان العلم يتسبب في اندراس كثير من معالم الدين، ويؤدي إلى اختلاط غيره به، والعلم إنما ينقص بموت العلماء، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العلمَ انتزاعًا ينتزِعُهُ مِنَ العبادِ، ولكنْ يَقبِضُ العلمَ بَقَبْضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخَذَ الناسُ رؤوسًا جُهَّالًا؛ فَسُئِلُوا فأفتوا بغيرِ علمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا"(1)، فكلما مات عالم قُبِضَ جزءٌ من العلم، حتى إن المرءَ لَيقطعُ المفاوزَ فلا يكاد يجد إلا أشباهَ العلماء، ولا يشكُّ أحدٌ أن نقص العلم مُوقِعٌ في الضلالات والجهالات، ومؤدٍّ إلى الهلكات، مما يستوجب التجديدَ الذي يحافظ على العلم في الأمة، وقد بيَّن ذلك عبدُ الله بنُ مسعود رضي الله عنه؛ حيث يقول:"لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شرٌّ من الذي كان قبله، أما إني لست أعني عامًا أخصبَ من عام، ولا أميرًا خيرًا من أمير، ولكنَّ علماءَكم وخيارَكم وفقهاءَكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خَلَفًا، ويجيئ قوم يقيسون الأمر برأيهم"(2).
3 -
حديثُ افتراقِ الأمةِ: وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقتِ
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم، (98) ومسلم، كتاب العلم، رقم، (4828).
(2)
أخرجه الدارمي، (1/ 76).
اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرقةً؛ فواحدةٌ في الجنةِ، وسبعونَ في النارِ، وافترقتِ النصارَى على ثنتينِ وسبعينَ فِرقةً؛ فإحدى وسبعونَ في النارِ، وواحدةٌ في الجنةِ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً؛ واحدةٌ في الجنةِ، وثنتانِ وسبعونَ في النارِ، قيل: يا رسول الله، مَنْ هُمْ؟ قال: الجماعةُ" (1)؛ فوجود هذه الفِرَقِ المتعددة يدل على التباين الكبير في الفهم الصحيح؛ مما أخرج هذه الفِرَقَ المتعددةَ من نطاق الفِرقة الناجية، وهذا يدل على الحاجة للتجديد من ناحيتين؛ من ناحية الفِرقة الناجية حتى تظل على التمسك والمحافظة على الحق، ومن ناحية الفرق الضالة بقصد هدايتهم"(2).
"وأخيرًا؛ فإنه قد يجد بعض الناس تناقضًا بين مدلولَي (التجديد) و (السلفية)؛ باعتبار أن الثانى يدل على القِدَمِ المنافي للجديد! والأمر ليس كذلك؛ فالتجديد الذي ننشده ليس انقلابًا، أو تغييرًا للثوابت، بل هو نوع من إعادة تفعيلها؛ لتؤدي دورَهَا، وتقتضي آثارها في الواقع؛ ذلك أن (الجمود) والتشبث برسوم محلية -اقتضتها مرحلة زمنية معينة- يعطل أداء النص، ويحجر على العقل أن يُعمله في النوازل والمستجدات؛ ولهذا صار يعْتَوِرُ الأمرَ محذوران:
(1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، رقم، (3982) وصححه الألباني، وللحديث روايات أخرى، انظر: السلسلة الصحيحة، (ص 203).
(2)
تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف، محمَّد شاكر الشريف، كتاب البيان، رقم، (60)، (ص 14 - 17)، باختصار وتصرف.
أحدهما: الوقوع في أَسْرِ الجمود بدعوى المحافظة، والتمسك بالسنة واتباع السلف.
والثاني: الانفلات، والتمرد على النقل، وتسييد العقل، بدعوى التجديد، فلا بد من ضبط المعادلة، بما يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد.
وحين نتقدم إلى المسلمين -خاصَّةً- وإلى الناس -كافَّةً- بدعوتنا، لا بد أن نصوغ خطابًا يجمع عناصر القبول المختلفة، التي حواها الخطاب القرآني والنبوي، واستعمله المجدِّدون الموفَّقون من سلف هذه الأمة، وإن من شأن هذا الخطاب -إذا اتضحت معالمه، واستبانت مقاصده- أن يُثْمِرَ ثمراتٍ عظيمةً، من أهمها:
1 -
وحدة المسلمين؛ لاجتماع دعاتهم على كلمة سواء.
2 -
انتشار الإِسلام؛ لكونه يَرُدُّ الروحَ إلى الدعوة، ويُخَلِّصُها من آفاتها المتراكمة، فتعود غضةً طريةً، ذاتَ أَلقٍ، ووهجٍ، وجاذبيةٍ، كما كانت أوَّلَ مرةً" (1).
كان ما سبق حديثًا عن التجديد المقبول المشروع، أما التبديد المرفوض الممنوع؛ فإن له أغراضًا خبيثةً ومآربَ دنيئةً، تراوحت بين نَسْخِ الإِسلام كدين بدعوى تاريخيَّةِ النصوصِ المقدسة، أو تأويلها
(1) تجديد الخطاب السلفي، د. أحمد عبد الرحمن القاضي، مجلة البيان، عدد (287)، رجب (1432هـ)، يونيو (2011 م)، (ص 39).
تأويلًا عبثيًّا يُفَرِّغُهَا من خصائص الدين! وبين القبول بشعائر الإسلام في المسجد وإقصائه -بعد ذلك- برُمَّته عن الحياة بِرُمَّتِهَا!!
وإذا كان علماء الإسلام ودعاته قد تصدوا -بشراسة- لمن كشفوا عن عورة الإلحاد العلماني القائل (بتاريخية النص الإلهي) أو دعاوَى (أنسنة النص الإلهي)، وغيرها من الخبل الفكري الذي مَثَّلَهُ طائفة ممن يُنسبون إلى الفكر التقدُّمي والتنويري والعقلاني، ممن يحملون شهادات الدكتوراه في الآداب والفلسفة أحيانًا، وفي الدراسات الإسلامية أحيانًا أخرى! وشغلوا مناصب مهمة في كلياتٍ وجامعاتٍ وأكاديمياتٍ ممن نالوا شهرة واسعة بسبب كتاباتهم المغْرِقةِ في الضلال، والتي أدَّتْ ببعضهم إلى الزندقة والرِّدَّةِ (1)؛ فإنهم -أيضًا- لم يهادنوا أصحابَ فكرة علمنة الإسلام، وتحويله إلى دين مستأنس لا شوكةَ فيه!!
لقد استوعب علماء الإسلام المعاصرون هذه الخطة الماكرة، ووقفوا على دعاوَى أصحابها الفاجرةِ، وعلى مقولاتهم التي
(1) يراجع: ما كتبه د. نصر حامد أبو زيد، في مجلة: وجهات نظر (2002 م) بعنوان: الإسلام والغرب حرب الكراهة، وما كتبه في كتابه:"نقد الخطاب الديني" وكتابه: "مفهوم النص" وغيرها من كتبه التي كفَّرَهُ العلماءُ بسببها، وحكمت المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته.
أعلنوا فيها الحربَ بطريقة سافرة.
ولقد اتفقت كلمتهم على وَضْعِ تعريفٍ للإسلام المستهدَف بالحرب؛ فجاء في تقرير موسسة (راند) البحثية الاستخباراتية الأمريكية في تقريرها عام (2007 م) ما يلي:
"إن تعريفًا أضيق وأكثر فائدة لمن هو الإسلامي، وهو: كلُّ مَنْ يرفض الفصلَ بين السلطة الدينية، وسلطة الدولة، ويسعى الإسلامي إلى إقامة شكل من أشكال الدولة الإسلامية، أو على الأقل يدعو إلى الاعتراف بالشريعة كأساس للتشريع"(1).
وقد اعتبروا أن السبب في هذه العقلية، وتلك الشخصية هو: ما تلقته هذه الشخصيات من ثقافة تعليمية، وهذا يعني: أن المشكلة في المناهج التي يتلقاها هؤلاء الدارسون، وعليه؛ فيجب أن تُجْرَى عمليةُ تطويرٍ شاملة للمناهج!! ولا سيما الشرعية منها!!
وعليه؛ فإن يد التطوير يجب أن تطال التعليم في كل من: باكستان، والسعودية، ومصر، وقد كان! فصدرت الأوامر بتغييرات جذرية تناولت التعليم الديني؛ ليقف عند حدود الشعائر والنسك، وإلغاء ما يتناول الجوانبَ السياسيةَ، أو الجهاديةَ، أو السِّيَرَ والمغازيَ، مع اختصار حصص هذا التعليم الديني إلى أربع ساعات فقط، بدلًا من أربع وعشرين ساعة في
(1) تقرير: (راند)، (ص 75)، عام (2007 م).
بعض الدول (1)؛ ذلك أن الحرب الحقيقية هي في المدارس!!
يقول توماس فريدمان: "إن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس؛ ولذلك يجب أن نفرغ بسرعة من الحملات العسكرية، لنعود مسلحين بالكتب لا بالدبابات؛ لتكوين جيل إسلامي جديد، يقبل سياساتنا، كما يحب شطائرنا"!! (2).
ولأجل هذه الحرب رُصدت الميزانيات الطائلة ترغيبًا، "فخصصت أمريكا لباكستان مائةَ مليونِ دولارٍ؛ لكي تُراجَعَ كتبُ الثقافة الإسلامية! "(3).
وأما من لم يستجب فلا مانع من الترهيب! حيث أعلن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح -في تصريح صحافي-: "أن بلاده هُدِّدت بالقصف الأمريكي، ما لم يَتمَّ إلحاقُ المعاهد الدينية بوزارة التعليم، وفَرْضُ الإشرافِ الحكوميِّ عليها"(4).
(1) التطاول الغربي على الثوابت الإسلامية، د. محمَّد يسري، (ص 54).
(2)
النيويورك تايمز الأمريكية، والنقل عن صحيفة: وطني القاهرية، في (25/ 1/ 2005 م).
(3)
انظر: مقال الدكتور محمَّد عمارة: "تتريك الدول الإِسلامية"، موقع: إسلام ويب، بتاريخ (27/ 7/ 2007 م).
(4)
"هل يستهدف الغرب الإِسلام" مقال لفهمي هويدي، بموقع: الإِسلام اليوم، وأصله: ورقة قدمها في مؤتمر: "الإسلام والغرب في عالم متغير" والذي عُقد في السودان في الفترة من (19 - 21 شوال عام 1424 هـ).
إن السبب الرئيس لتجديد هذه الحرب يعود إلى هذا الدين في الحقيقة؛ ولذا تواتر عنهم قولهم:
"إن الدين الإِسلامي دينُ عنفٍ"، "والنظام الأخلاقي الذي يستند إليه الإِسلام مختلف عما هو في الحضارة اليهودية المسيحية (الغربية) "، "وآيات القرآن تصدق على ممارسة العنف ضد غير المسلمين"، "وإن هذه الحرب العالمية الجديدة هي حرب المدنية والحضارة (في الغرب) ضد البربرية (في الشرق) "، "وإن الغرب سيواصل تعميم حضارته، وفرض نفسه على الشعوب"، "وإنه لا حل مع الدول العربية والإِسلامية إلا أن تَفْرِضَ عليها أمريكا القيمَ والنظمَ والسياسات التي تراها ضرورية؛ فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية، بل تتعداها إلى الدول الأخرى".
وفي تحديد واضح لمن هم في بؤرة الصراع مع الغرب يقول الغربيون: "وإن المعركة -في حقيقتها- ليست ضد حفنة من الإرهابيين، ولا هي حتى ضد المسلمين الذين يتململون من السياسة الأمريكية والانحياز الأمريكي لإسرائيل، وإنما المعركة الحقيقية هي ضد الأصوليين الإِسلاميين، الذين يرفضون القيم الغربية، والحداثة الغربية،
والعلمانية الغربية، والمبدأ المسيحي (فصل الدين عن الدولة) وهذا هو التحدي الأيديولوجي الذي هو -في بعض جوانبه- أكثرُ أساسيةً من الخطر الذي شكلته الشيوعيةُ! ".
وإذا كانت الحروب والمواجهات العسكرية قد باءت بالفشل، ورجع أصحابها بِخفَّيْ حنينٍ؛ فإن ميدان الحرب على الإِسلام قد تَغَيَّرَ عند القومِ حين قالوا:"وإذا كانت الحرب على الإِسلام غيرَ ضرورية؛ فإن حربًا داخل الإِسلام هي ضرورية لتحويله إلى إسلام حداثي، ليبرالي، علماني، وإن الهدف من هذه الحرب داخل الإِسلام، هو تحويل التعليم الإِسلامي والخطاب الديني الإِسلامي إلى طريق (أتاتورك) (1881 - 1938 م) الذي أجبر تركيا بإصرار شديد على أن تهجر ماضيَهَا! ". "فالمطلوب هو إحكام السيطرة على المدارس الدينية، وإعداد أئمة مستنيرين للمساجد؛ لترويج أفكار الغرب، وتشكيل الذهنية العربية لدى الجيل الجديد، وإعادة صياغته تجاه الصراع العربي الإسرائيلي! "(1).
"وبعد هذا (الإعلان) وعقب صدور هذه (الطلبات) و (الضغوط) و (الأوامر) الأمريكية، جاء دور العلماء الحضاريين من أبنائنا، الذين يَتَسَمَّوْن بأسمائنا، ويتكلمون لغتنا، والذين يمول الغرب
(1)"التطاول الغربي على الثوابت الإِسلامية"، د. محمَّد يسري، (ص 59، 61)، "الخطاب الديني بين التجديد الإِسلامي والتبديد الأمريكاني"، د. محمَّد عمارة، (ص 24)، وصحيفة الحياة (17/ 10/ 2003 م)، والأهرام القاهرية في (18/ 10/ 2003 م).
-علنًا- (دكاكينهم) التي يسمونها (منظمات المجتمع المدني)؛ ليصبحوا (صوت سيدهم)، وليتحولوا -بقدرة الدولارات الأمريكية- إلى خبراء في تجديد الخطاب الديني، وهم الذين لم يُعرف عن واحد منهم التخصص في العلوم الإِسلامية، ومن قرأ منهم شيئًا في هذه العلوم؛ فإنما قرأه ليفسر الإِسلام تفسيرًا ماركسيًّا، بمنهاج المادية الجدلية والمادية التاريخية؛ كي يصبح الإِسلام (بناء فوقيًّا) أفرزه صراع الطبقات.
لقد تجاهل هؤلاء المتمركسون والعلمانيون والحداثيون قضايا الأمة الرئيسة في تحرير الأرض، وإنقاذ المقدسات، ومقاومة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، والفريضة الغائبة في العدل الاجتماعي، والتشرذم القُطري لعالم الإِسلام،
…
إلخ، تجاهل هؤلاء المتغربون من أحفاد (بونابارت) قضايا الأمة، وشرعوا في التركيز على (الإفتاء العلماني) في مفهومهم الأمريكيِّ لتجديد الخطاب الدينيِّ للإسلام والمسلمين! " (1).
ويكفي أن نقدم لدعاة علمنة الإِسلام وخطابه الديني في الشرق شهادةَ شاهدٍ من أهلها (من الغرب) شهادة القس الألماني وعالم الاجتماع (جوتفرايد كونزلن) التي يقول فيها: "لقد نبعت العلمانية من التنوير الغربي، وجاءت ثمرة لصراع العقل مع الدين، وانتصاره عليه، باعتباره مجردَ أثرٍ من حقب التاريخ
(1) الخطاب الديني، د. محمَّد عمارة، (ص 27 - 28).
البشري، يتلاشى باطراد في مسار التطور الإنساني، ولقد مثلت العلمنة: تراجع المسيحية، وضياع أهميتها الدينية، وتحول معتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، والفصل النهائي بين المعتقدات الدينية، والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ:(دين بلا سياسة وسياسة بلا دين).
ومن نتائج العلمانية: فقدان المسيحية لأهميتها فقدانًا كاملًا، وزوال أهمية الدين كسلطة عامة؛ لإضفاء الشرعية على القانون والنظام والسياسة والتربية والتعليم، بل وزوال أهميته -أيضًا- كقوةٍ موجِّهَةٍ، فيما يتعلق بأسلوب الحياة الخاص للسواد الأعظم من الناس، وللحياة بشكل عام، فسلطة الدولة -وليس الحقيقة- هي التي تصنع القانون، وهي التي تمنح الحرية الدينية.
ولقد قدَّمت العلمانيةُ الحداثةَ باعتبارها دينًا حَلَّ محل الدين المسيحي، يفهم الوجود بقوانين دنيوية، هي العقل والعلم.
لكن -وبعد تلاشي المسيحية- سرعان ما عجزت العلمانية عن الإجابة على أسئلة الإنسانية التي كان الدين يقدِّم لها الإجابات، فالقناعات العقلية أصبحت مفتقرة إلى اليقين، وغَدَتِ الحداثةُ العلمانيةُ غيرَ واثقة من نفسها، بل وتُفَكِّكُ أنسَاقَهَا -العقلية والعلمية- عدميةُ ما بعد الحداثة، فدخلت الثقافة العلمانية في أزمة، بعد أن أدخلت الدينَ المسيحي في أزمة، فالإنهاك الذي أصاب المسيحية أعقبه إعياءٌ أصاب كلَّ العصر العلماني الحديث، وتحققت نبوءة (نيتشه)(1844 - 1900 م) عن
إفراز التطور الثقافي الغربي لأناس يفقدون (نجمهم) الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة، ذات بعد واحد، لا يعرف الواحد منهم شيئًا خارج نطاقه، وبعبارة (ماكس قيبر) (1920 - 1964 م):(لقد أصبح هناك أخصائيون لا روح لهم، وعلماء لا قلوب لهم).
ولأن الاهتمام الإنساني بالدين لم يتلاشَ، بل تزايد
…
وفي ظل انحسار المسيحية، انفتح باب أوروبا لضروب من الروحانيات، وخليط من العقائد الدينية التي لا علاقة لها بالمسيحية -ولا بالكنيسة- من التنجيم، إلى عبادة القوى الخفية والخارقة، والاعتقاد بالأشباح، وطقوس الهنود الحمر، وروحانيات الديانات الآسيوية، والإِسلام، الذي أخذ يحقق نجاحًا متزايدًا في المجتمعات الغربية.
لقد أزالت العلمانيةُ السيادةَ الثقافية للمسيحية عن أوروبا
…
ثم عجزت عن تحقيق سيادة دينها العلماني على الإنسان الأوروبي، عندما أصبح مَعْبدها العلمي عتيقًا!
…
ففقد الناس (النجم) الذي كانوا به يهتدون: (وعد الخلاص المسيحي)
…
ثم (وعد الخلاص العلماني)! " (1).
وعلى صعيدٍ آخَرَ؛ فقد سعت الإدارة الأمريكية إلى التنسيق مع طوائفَ من غلاة الطرق والفرق لمواجهة الخطاب السلفي
(1) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا، شهادة ألمانية، جوتفرايد كونزلن، (ص 25 - 26)، ط: القاهرة (1999 م).
بخطاب طرقي فلسفي!! يمد أواصر التواصل مع أمريكا والغرب والعلمانية علانيةً ودونَ مواربةٍ!! ويقطع ما بينه وبين أهل الإِسلام والسنة!!
"ففي يونيو (2009 م) عُقد مؤتمر للصوفية بالقاهرة انتهى بإصدار بيان للطرق الصوفية المشاركة دعت فيه إلى: تشكيل لجان من علماء المسلمين؛ لبحث كيفية التقارب بين العالم الإِسلامي والولايات المتحدة!! ودراسة القيم المشتركة التي يمكن التعاون فيها!
"وفي آخر يونيو (2009 م) وجهت السفيرة الأمريكية بالقاهرة (مارجريت سكوبي) دعوةً إلى تسع طرق صوفية؛ لحضور حفل السفارة بعيد الاستقلال الأمريكي أول يوليو.
"وفي (3/ 8/ 2010 م) نُشر في صحيفة الدستور المصرية خبرُ اجتماع شيوخ الطرق الصوفية مع ممثل الإدارة الأمريكية بحضور مندوبٍ من مباحث أمن الدولة!! وذلك بمقر الطرق العزمية بالسيدة زينب، ولمدة ساعتين؛ وذلك للتنسيق بين شيوخ الصوفية في مصر، وبين الإدارة الأمريكية؛ لنشر الإسلام الصوفي المعتدل بين المسلمين الأمريكيين، وتم الاتفاق على اختيار الشيخ
علاء الدين أبي العزايم (شيخ الطريقة العزمية)(1) -كمنسق بين الصوفية في مصر، والإدارة الأمريكية (2).
"وعلى التزامن وفي نفس التوقيت أبرم شيخ مشايخ الطرق الصوفية عبد الهادي القصبي اتفاقًا مع مؤسسة الأهرام على تنظيم مؤتمر سنوي، يحضره أعضاء الطرق الصوفية من مصر والبلاد العربية والإِسلامية، بدعم من مؤسسة الأهرام الصحفية؛ لمواجهة المد السلفي والفكر الإخواني، كما تتولى المؤسسة أيضًا تنظيم مؤتمر مشابه لنقابة الأشراف بحضور جميع المنتسبين لآل البيت في مصر والعالم.
كما اتُّفِقَ على نشر سلسلة من الكتب والبحوث التي تتناول الفكر الصوفي المعتدل، وطرحها بأسعار تكون في متناول العامة (3).
وبعد الثورة المصرية، دعا التيار الإِسلامي إلى مليونية الإرادة الشعبية في (19/ 7/ 2011 م)، والتي طالبت فيها الجموع المصرية بتطبيق الشريعة الإِسلامية -أوعز الغرب إلى أبي العزايم للرد على هذه المليونية بمليونية يجتمع فيها بالنصارى واليساريين والعلمانيين وفلول الحزب الوطني المنحل، فكان معه نحو من ثلاثة أو أربعة آلاف في مقابل أربعة ملايين لمليونية التيار الإِسلامي!
(1) وللشيخ أحمد الصديق الغماري -كان أحد كبار الصوفية المعاصرين- كلام قادح فاضح في تلك الطريقة ومؤسسها؛ فراجعه في كتاب: جؤنة العطار، (1/ 152).
(2)
موقع: جريدة الدستور الإلكتروني، بتاريخ:(3/ 8/ 2010 م).
(3)
موقع: جريدة الدستور الإلكتروني، بتاريخ:(2/ 8/ 2010 م).
وفي (24/ 9/ 2011 م) وبالقاهرة أقيم المؤتمر الدولي للصوفية برعاية شيخ الأزهر ووزير الأوقاف المصري ومفتي الديار وبحضورٍ صوفيٍّ دوليٍّ مكثف؛ وذلك للتسويق للخطاب الصوفي، والذي شهد انحسارًا ملحوظًا بعد الثورة المصرية، حيث شدَّدَ وزيرُ الأوقاف المصري د. محمَّد عبد الفضيل القوصي على تجديد الخطاب الصوفي، والمصطلح الصوفي، وفي لقاء مغلق عقده شيخ الأزهر مع ممثلي الصوفية في المؤتمر أشار د. أحمد الطيب إلى أهمية استعادة دور الصوفية في مصر والعالم بأسره، وذلك في مقابل المدِّ السلفيِّ!!
وفي تفسير لهذه الظاهرة المتنامية في الشرق الأوسط، يقول د. عمار علي حسن:"وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جليًّا تَقَرُّبُ الحكومة من المتصوفة، وتَقَرُّبُ المتصوفة من الحكومة، بل والسعي من الطرفين للتقارب، فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإِسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحًا دينيًّا له مكانته عند المصريين، بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية، التي ترى تحريم رفع القباب على القبور، وتحريم الطواف بها وعبادتها، والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بَثِّهَا بين الناس، والتي لولاها لتقوَّضَ ركنٌ ركينٌ من أركان التصوف!! "(1).
ويقول الفرنسي المسلم (إريك جيوفري) -المختص في الصوفية
(1) الصوفية والسياسة في مصر، د. عمار علي حسن، (ص 104).
بجامعة لوكسمبورج بشمال فرنسا في حوار صحفي عن هذا الشأن-: "وفي علاقتها بالحركات الإِسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم؛ بهدف محاربة الظاهرة الإِسلامية، فوزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق صوفيٌّ، كما أن الشيخ أحمد الطيب في مصر -وهو خلوتي- أصبح رئيسَ جامعةِ الأزهر بعد أن كان مفتيًا للديار المصرية، وفي الجزائر نجد أن بوتفليقة قريبٌ جدًّا من الصوفية، وهو ما برز في حملته الأخيرة"(1).
وقد قام الرئيس الجزائري بوتفليقة بزيارة عدد من زوايا وأضرحة الأولياء؛ لزيادة شعبيته، ولنفي اتهاماتٍ وُجهت له بالتواطؤ مع التيار الإِسلامي السلفي، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل عام (2004 م)(2).
وهذا المنحى الغربي ليس بجديد، فقد صنع اللورد كرومر نفس الصنيع؛ فقد كان أوَّلَ مَنْ أسس مجلسًا أعلى للطرق الصوفية، واختار لرئاسته من سماه شيخَ مشايخ الطرقِ!! (3)
(1) حاوره هادي محمَّد، موقع: إسلام أون لاين، في (20/ 6/ 2004 م)، وانظر -أيضًا-: صحيفة الراية القطرية، الأحد (30/ 1/ 2005 م).
(2)
صحيفة الشرق الأوسط (16/ 2/ 2004 م).
(3)
من مقال: "تنسيق روحي مع أمريكا"، للأستاذ فهمي هويدي، جريدة الشروق، بتاريخ:(الأحد 15 ذو الحجة 1431 هـ، الموافق 21 نوفمبر 2010 م).