الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع عشر أولوية المشاركة المجتمعية والسياسية الواسعة
يفهم السلفيون السياسة على أنها: ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نزل بها وحي خاصٌّ (1)، وأن الإمامة رتبة دينية موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا (2).
كما أنهم جميعًا يعتقدون الإسلامَ دينًا ودولة، فإذا أقيم الدين استقامت الدولة، وبإقامة الدين واستقامة الدولة تنطلق الأمة في مجالات رحبة من الدعوة والتعليم والحسبة، وباختلال الدولة تختل واجبات دينية جماعية، كالجهاد والقضاء وجمع الزكاة، وغيرها.
فكلمة أهل العلم متفقة على أن "ولاية أمرِ الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها"(3).
كما أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجرًا، وأجل قدرًا من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق، ودرء الباطل
…
وعلى الجملة
(1) يراجع: إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 372).
(2)
يراجع: الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 5).
(3)
السياسة الشرعية، لابن تيمية، (ص 217).
فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرًا من جميع الأنام، بإجماع أهل الإسلام (1).
وأهداف العمل السياسي المعاصر لا تخرج عن الحكم والتحاكم إلى الشرع المطهر، وامتداد الإصلاح ليشمل الشأن السياسي، فتعدل دساتير البلاد الإسلامية بما يوافق الشريعة الإلهية، وتُحرَّرُ الدعوة من قيود الممارسة، وتوسَّع رقعة الحرية في المشاركة المجتمعية، ويؤكَّد استقلال المؤسسة الدينية الرسمية، والقضاء والإفتاء عن التسلط والتوظيف لتحقيق مصالحَ فئوية، أو شخصية.
والتيار السلفي يتقدم اليوم إلى معترك الحياة السياسية؛ ليقدم ممارسة شرعية منضبطة، أو أنموذجًا حضاريًّا رائدًا، ينبغي أن يُذَكِّرَ بسالف العهود الزاهرة، يوم كانت الأمة تأخذ بسلطانها، فتراجع ولاتها، وتحاسب حكامها، في ممارسة راقية لواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وهذه الممارسة السياسية المعاصرة مع كونها أولوية، إلا أنها تكتنفها تحديات، وتواجهها صعوبات واقعية، منها: أن الممارسة السياسية المعاصرة تقوم على الديمقراطية فلسفةً وآليةً، والمقبول
(1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 120 - 121).
سلفيًّا من ذلك إنما هو الآلية، والأمور الإجرائية، كما أن الممارسة السياسية تقوم على التعددية، وربما المخالفة في الرؤى السياسية، كما تكثر التحالفات والتوافقات السياسية بين الفرقاء أحيانًا، والمختلفين منهجيًّا أحيانًا أخرى.
وهذا أمرٌ يجعل الممارسةَ السياسية المعاصرة طريقًا محفوفًا بمخاطرَ كثيرةٍ، وفي هذا الصدد يتعين على التيار السلفيِّ المعاصرِ أن يبني خبرة سياسية تَستند إلى فقه التعارض بين المصالح والمفاسد والترجيح المنضبط، ومحاولة تقديم خطابٍ سياسيٍّ يعبر عن آمال الشعوب الإسلامية، ويُرَقِّيها في مدارج الكرامة الإنسانية، ويُنهِضُها في مواجهة التحديات الحضارية المختلفة.
وهنا تبدو ضرورة التنبه للعوامل الخارجية، وتأثيراتها على الساحة الداخلية، وأهمية التحول من الرؤى البسيطة إلى رؤًى مركَّبَةٍ عميقة، عبرَ ما تنتجه مراكزُ البحوث والدراسات الاستراتيجية، ولا شكَّ أن سياسة الدول تختلف عن سياسة الجماعات، وأن هناك مسافة بين فقه الدعوة وفقه الأحزاب، كل هذا مع التأكيد على أن بناء الأحزاب السياسية ليس غايةً في ذاته، وأن معاقِدَ الولاء والبراء إنما تكون على المبادئ الشرعية، لا على الرايات الحزبية الدعوية، فضلًا عن الحزبية السياسية!
وكما تمتلك التوجهات السياسية السلفية من عوامل النجاح ما يغري بالمواصلة والمتابعة؛ فإنه لا بد من لفت النظر إلى عواملِ إخفاقٍ ظاهرةٍ وواضحةٍ؛ منها -على سبيل المثال-: ضعفُ
الخبرة، وقلَّةُ الكوادر المدربة على المشاركة السياسية، وغيابُ الرؤية المتكاملة للتغيير السياسي، في المرحلة الراهنة والمراحل المستقبلية، وغلبة العواطف على المواقف، والسياسة إنما تقوم على الدراساتِ، والصرامةِ في اختيار الكفاءات، وضبطِ التصرفات، وتوقُّعِ النتائج، والنظرِ في المآلاتِ، ومراعاةِ التدرج، وفقهِ الضرورات.
كما تجدر التفاتة إلى الإعلام السياسي المعبِّرِ عن هذه التيارات، وأهمية إنشاء وسائل تأثير إسلامية على الرأي العام، في مقابل الوسائل التغريبية والعلمانية.
وأخيرًا فلا بد من بناء المؤسسات الاقتصادية، والمشاريع الإنتاجية التي تحقِّقُ مصلحةً مزدوجةً للمجتمع، ولهذه الأحزاب في نفس الوقت، دعمًا لها، وتحريرًا من كل تبعية تقيد مسيرتها، أو تؤثر في فعاليتها، وإقامةً لبرهان ساطع، ودليل ناصع على انتماء هذه الأحزاب لمجتمعاتها، وحرصها على نهضة بلادها، وتحقيق الكفاية والرفاهية لمواطنيها.