الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس عشر
الغفلة عن فقه المقاصد
يتُهم بعض السلفيين بالحرفية الظاهرية تارةً، وبالانحراف عن النظرة المقاصدية تارةً أخرى، ولا شكَّ أن الأصل هو الجمع بين النصوص الجزئيَّةِ، والمقاصد الكلية عند استنباطِ حكمٍ، أو تحريرِ معنًى شرعيٍّ، فلا بد من إدراكٍ لمقصد النصِّ، مع فهمٍ له في سياقه وسباقة ولحاقه.
والأصل في الشرعيات التوقيفُ والاتباع، وفي الدنيويات الاجتهادُ والإبداع! فالأصل في العبادات النصُّ دون العلةِ والمعنَى، والأصل في العادات العلَّةُ والمقصِدُ، ومن لم يُحَكِّمِ الأصولَ والكليات يَضطرب، ولا يُحْسِنُ علاج الجزئيات، والنصوص محدودة ومعدودة، والوقائع متجددة وممدودة، وما أحسنَ كلمةَ ابن تيمية رحمهم الله:"لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يَرُدُّ إليها الجزئيات، ليتكلم بعلمٍ وعدلٍ، ثم يعرف الجزئياتِ كيف وقعتْ، وإلا فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيات، وجهلٍ وظلمٍ في الكليات فيتولَّدُ فسادٌ عظيم"(1).
وما أحسنَ قولَ ابن القيم رحمه الله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالحِ العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها،
(1) منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، (3/ 19).
ورحمة كلها، ومصالحُ كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإنْ أُدخلتْ فيها بالتأويل" (1).
فلا يصلح بحال عند استنباط الأحكام أن تنفصل عن غاياتها، وأن تنفكَّ عن مقاصدها، أو منافعها، أو مصالحها، وكلُّ أَمْرٍ تقاعدَ عن تحصيل مقصوده فهو رَدٌّ، وتكاليف الشريعة راجعة إلى تحقيق مقاصدها في الخلق ولا بُدَّ.
وإنما يضيع الدين بين جامدٍ وجاحدٍ؛ ذاك يُنَفِّرُ الناسَ بجموده، والآخَرُ يُضِلُّهم بجحوده!
ومرةً أخرى لا بُدَّ من تفريقٍ بين الأصلي والفرعي، والقطعي والظني، والمحكم والمتشابه، في محاولة جادة لمنع غلوٍّ في متشابهٍ ظنيٍّ، أو تفريط في محكم قطعيٍّ، أو ممارسة للاجتهاد من غير أهله أو في غير محلِّهِ!
(1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).