الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأُولَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَتُقَامُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ، وَمَكَّنَّاهُمْ مِنْ نَقْلِ الْكَنِيسَةِ إِلَى مَكَانٍ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ، فَهَذَا ظَاهِرُ الْمَصْلَحَةِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَلَوِ انْتَقَلَ الْكُفَّارُ عَنْ مَحَلَّتِهِمْ وَأَخْلَوْهَا إِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى، فَأَرَادُوا نَقْلَ الْكَنِيسَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَإِعْطَاءَ الْقَدِيمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ.
[فَصْلٌ حُكْمُ أَبْنِيَةِ وَدُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]
218 -
فَصْلٌ
[حُكْمُ أَبْنِيَةِ وَدُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]
هَذَا حُكْمُ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَأَمَّا حُكْمُ أَبْنِيَتِهِمْ وَدُورِهِمْ فَإِنْ كَانُوا فِي مَحَلَّةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجَاوِرُهُمْ فِيهَا مُسْلِمٌ تُرِكُوا وَمَا يَبْنُونَهُ كَيْفَ أَرَادُوا، وَإِنْ جَاوَرُوا الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمَكَّنُوا مِنْ مُطَاوَلَتِهِمْ فِي الْبِنَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَارُ مُلَاصِقًا أَوْ غَيْرَ مُلَاصِقٍ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَارِ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا يُحْدِثُونَ بِنَاءً يَطُولُونَ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ ". وَهَذَا الْمَنْعُ لِحَقِّ الْإِسْلَامِ لَا لِحَقِّ الْجَارِ، حَتَّى لَوْ رَضِيَ الْجَارُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِرِضَاهُ أَثَرٌ فِي الْجَوَازِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَنْعُ مُعَلَّلًا بِإِشْرَافِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَى الْإِشْرَافِ جَازَ، بَلْ لَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى.
وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْمَذْهَبِ وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ الْعَالِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ تَمْلِيكٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنَّ
الْمَانِعِينَ مِنْ تَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ:" «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» ". وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِعْلَاءَ رُتْبَةٍ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ صُدُورِ الْمَجَالِسِ وَيُلْجَئُونَ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ، فَإِذَا مُنِعُوا مِنْ صُدُورِ الْمَجَالِسِ - وَالْجُلُوسُ فِيهَا عَارِضٌ - فَكَيْفَ يُمَكَّنُونَ مِنَ السُّكْنَى اللَّازِمَةِ فَوْقَ رُءُوسِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَإِذَا مُنِعُوا مِنْ وَسَطِ الطَّرِيقِ الْمُشْتَرَكِ - وَالْمُرُورُ فِيهِ عَارِضٌ - فَأُزِيلُوا مِنْهُ إِلَى أَضْيَقِهِ وَأَسْفَلِهِ كَمَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ اضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ» " فَكَيْفَ يُمَكَّنُونَ أَنْ يَعْلُوا فِي السُّكْنَى الدَّائِمَةِ رِقَابَ الْمُسْلِمِينَ؟ هَذَا مِمَّا تَدْفَعُهُ أُصُولُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ.
وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ: " إِنَّهُمْ إِذَا مَلَكُوا دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَجِبْ نَقْضُهَا ". إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مَنْ سُكْنَاهَا فَوْقَ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ فَمَرْدُودٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " وَصَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَلَكِنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " أَنَّهُ إِذَا مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ أُقِرَّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِجَوَازِ سُكْنَاهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَتَعْلِيلُهُمْ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ السُّكْنَى وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي الْعُلُوِّ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ الْبِنَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي السُّكْنَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا بَنَاهَا الْمُسْلِمُ وَبَاعَهُمْ إِيَّاهَا فَقَدْ أَرَاحَهُمْ مِنْ كُلْفَةِ الْبِنَاءِ وَمَشَقَّتِهِ وَغَرَامَتِهِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ سُكْنَاهَا وَعُلُوِّهِمْ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ هَنِيئًا مَرِيئًا، فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ! ! أَيُّ مَفْسَدَةٍ زَالَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِذَلِكَ؟ ! بِحَيْثُ إِنَّهُمْ إِذَا تَعِبُوا وَقَاسَوُا الْكُلْفَةَ وَالْمَشَقَّةَ فِي التَّعْلِيَةِ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَعِبَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَصَلِيَ بِحَرِّهِ جَازَتْ لَهُمُ السُّكْنَى وَزَالَتْ مَفْسَدَةُ التَّعْلِيَةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ الْمُنْصِفِ فَسَادُ ذَلِكَ.
ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى أُصُولِ مَنْ يُحَرِّمُ " الْحِيَلِ " فَيَمْنَعُهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ، فَإِذَا بَاعَ الدَّارَ لِمُسْلِمٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ جَازَ لَهُ سُكْنَاهَا وَزَالَتْ بِذَلِكَ مَفْسَدَةُ التَّعْلِيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَزِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكُنَاهُمْ، فَكَيْفَ يُمَكَّنُونَ مِنْ مُسَاوَاتِهِمْ بَلْ مِنَ الْعُلُوِّ عَلَيْهِمْ فِي دُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ؟
وَطَرْدُ قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ سُكْنَى الدَّارِ الْعَالِيَةِ إِذَا مَلَكُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَنْ يَجُوزَ لِبَاسُ الثِّيَابِ الَّتِي مُنِعُوا مِنْهَا إِذَا مَلَكُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِمَّا نَسَجُوهُ وَاسْتَنْسَجُوهُ وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَنْعِ الْمُسَاوَاةِ بِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ
مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، ثُمَّ يُجَوِّزُونَ عُلُوَّهُمْ فَوْقَ رُءُوسِ الْمُسْلِمِينَ بِشِرَاءِ الدُّورِ الْعَالِيَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَانِعُونَ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّعْلِيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ حُقُوقِ الدِّينِ لَا مِنْ حُقُوقِ الْجِيرَانِ، وَهَذَا فَرْعٌ تَلَقَّاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ نَصِّهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى مِلْكِ الدَّارِ الْعَالِيَةِ، وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ عَنْهُمْ، وَلَمْ أَجِدْ لِأَحْمَدَ بَعْدَ طُولِ التَّفْتِيشِ نَصًّا بِجَوَازِ تَمَلُّكِ الدَّارِ الْعَالِيَةِ فَضْلًا عَنْ سُكْنَاهَا، وَنُصُوصُهُ وَأُصُولُ مَذْهَبِهِ تَأْبَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ
أَحَدُهَا: لَوْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ دَارٌ فَجَاءَ مُسْلِمٌ إِلَى جَانِبِهِ فَبَنَى دَارًا أَنْزَلَ مِنْهَا لَمْ يُلْزَمِ الذِّمِّيُّ بِحَطِّ بِنَائِهِ وَلَا مُسَاوَاتِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الذِّمِّيِّ أَسْبَقُ.
وَثَانِيهَا: لَوْ جَاوَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِأَبْنِيَةٍ أَقْصَرُ مِنْ أَبْنِيَتِهِمْ، ثُمَّ انْهَدَمَتْ دُورَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يُعَلُّوهَا عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَلْ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الِانْهِدَامِ أَمْ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالْحَالِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الذِّمِّيِّ فِي الدَّارِ مَا دَامَتْ قَائِمَةً، فَإِذَا انْهَدَمَتْ فَإِعَادَتُهَا إِنْشَاءٌ جَدِيدٌ يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ التَّعْلِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَثَالِثُهَا: لَوْ مَلَكُوا دَارًا عَالِيَةً مِنْ مُسْلِمٍ، وَأَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى مِلْكِهَا فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِعَادَتُهَا كَمَا كَانَتْ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ وَجْهًا أَنَّ لَهُمْ إِعَادَتَهَا عَالِيَةً اعْتِبَارًا بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ