الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ زَوَالُ الْأَمَانِ عَنِ الْأَنْفُسِ زَوَالٌ عَنِ الْكَنَائِسِ]
214 -
فَصْلٌ
[زَوَالُ الْأَمَانِ عَنِ الْأَنْفُسِ زَوَالٌ عَنِ الْكَنَائِسِ]
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:" «قَالَ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ» " الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: " «وَلَا يُهْدَمُ لَهُمْ بِيعَةٌ، وَلَا يُخْرَجُ لَهُمْ قِسٌّ، وَلَا يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا» ". فَأَبْقَى كَنَائِسَهُمْ عَلَيْهِمْ لِمَا كَانَتِ الْبَلَدُ لَهُمْ، وَجَعَلَ الْأَمَانَ فِيهَا تَبَعًا لِأَمَانِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا زَالَ شَرْطُ الْأَمَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - بِإِحْدَاثِ الْحَدَثِ وَأَكْلِ الرِّبَا - زَالَ عَنْ رِقَابِ كَنَائِسِهِمْ كَمَا زَالَ عَنْ رِقَابِهِمْ.
[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا وَرَمِّ شَعَثِهِ وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهِ]
215 -
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا، وَرَمِّ شَعَثِهِ، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهِ
قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " فِيهِ: كُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: " يَجُوزُ إِقْرَارُهُ " لَمْ يَجُزْ هَدْمُهُ.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ كَنَائِسَ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْرَارُهَا لِلْمَصْلَحَةِ، وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ هَدْمُهَا لِلْمَصْلَحَةِ، وَبِهِ أَفْتَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُتَوَكِّلَ
فِي هَدْمِ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ حَتَّى صَالَحُوهُمْ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي زِيدَتْ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَتْ مُقَرَّةً بِأَيْدِيهِمْ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه إِلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ، وَلَوْ وَجَبَ إِبْقَاؤُهَا وَامْتَنَعَ هَدْمُهَا لَمَا أَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ الْوَلِيدَ، وَلَغَيَّرَهُ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ - لَمَّا وَلِيَ - عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ جَوَازِ الْإِبْقَاءِ وَتَحْرِيمِ الْهَدْمِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي بِنَاءِ الْمُسْتَهْدَمِ وَرَمِّ الشَّعَثِ فَعَنْهُ الْمَنْعُ فِيهِمَا، وَنَصَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْقَاضِي فِي " خِلَافِهِ "، وَعَنْهُ الْجَوَازُ فِيهِمَا، وَعَنْهُ يَجُوزُ رَمُّ شَعَثِهَا دُونَ بِنَائِهَا.
قَالَ الْخَلَّالُ فِي " الْجَامِعِ "(بَابُ الْبِيعَةِ تُهْدَمُ بِأَسْرِهَا أَوْ يُهْدَمُ بَعْضُهَا) :
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي هَلْ تَرَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحْدِثُوا الْكَنَائِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ؟ وَهَلْ تَرَى لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِي كَنَائِسِهِمُ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: " لَا يُحْدِثُوا فِي مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً، وَلَا يَضْرِبُوا فِيهَا بِنَاقُوسٍ، وَلَهُمْ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي عَهْدِهِمْ أَنْ
يَزِيدُوا فِي الْكَنَائِسِ فَلَهُمْ وَإِلَّا فَلَا، وَمَا انْهَدَمَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوهُ ".
أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ [الْهَيْثَمِ] أَنَّ [مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى] بْنِ مُشَيْشٍ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: " لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا إِلَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِمَّا كَانَ لَهُمْ قَدِيمًا ".
قَالَ الْخَلَّالُ: وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَاهُنَا أَنَّهُمْ يَبْنُونَ مَا انْهَدَمَ، يَعْنِي مَرَمَّةً يَرُمُّونَ، وَأَمَّا إِنِ انْهَدَمَتْ كُلُّهَا بِأَسْرِهَا فَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِعَادَتُهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا ذَلِكَ حَنْبَلٌ عَنْهُ:
أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كُلُّ مَا كَانَ مِمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلَيْسَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهِ كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ لَهُمْ شَيْءٌ فَأَرَادُوا أَنْ يَرُمُّوهُ فَلَا يُحْدِثُوا
فِيهِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا، فَإِنِ انْهَدَمَتِ الْكَنِيسَةُ أَوِ الْبِيعَةُ بِأَسْرِهَا لَمْ يُبْدِلُوا غَيْرَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ صُلْحٍ كَانَ لَهُمْ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، وَشَرَطَ لَهُمْ لَا يُغَيَّرُ لَهُمْ شَرْطٌ شُرِطَ لَهُمْ.
قَالَ الْخَلَّالُ: وَهَكَذَا هُوَ فِي شَرْطِهِمْ أَنَّهُ إِنِ انْهَدَمَ شَيْءٌ رَمُّوهُ وَإِنِ انْهَدَمَتْ بِأَسْرِهَا لَمْ يُعِيدُوهَا.
قَالَ الْقَاضِي فِي " تَعْلِيقَتِهِ ": (مَسْأَلَةٌ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي يَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ) : إِذَا انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ تَشَعَّثَ فَأَرَادُوا عِمَارَتَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ - نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: وَرَأَيْتُ بِخَطِّ أَبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ فِي رِسَالَةِ أَحْمَدَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فِي هَدْمِ الْبِيَعِ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ - وَذَكَرَ فِيهَا كَلَامًا طَوِيلًا - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَا انْهَدَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهُ.
قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ اللَّفْظِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَيَغْلِبُ فِي ظَنِّي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَضْبُطُ (يَعْنِي الْخَلَّالَ) فَإِنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبِي:
وَمَا انْهَدَمَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوهُ، ثُمَّ ذَكَرَ النُّصُوصَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَابْنِ مُشَيْشٍ، وَاخْتَارَ الْخَلَّالُ مَنْعَ الْبِنَاءِ وَجَوَازَ رَمِّ الشَّعَثِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: حَتَّى إِنِ انْهَدَمَ حَائِطُ الْبِيعَةِ مُنِعُوا مِنْ إِعَادَتِهِ وَرَدِّهِ، وَإِنِ انْثَلَمَ مُنِعُوا مِنْ سَدِّهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يُطَيِّنُوا وَجْهَ الْحَائِطِ الَّذِي يَلِينَا مُنِعُوا مِنْهُ، وَإِنْ طَيَّنُوا الْحَائِطَ الَّذِي يَلِي الْبِيعَةَ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَنَوْا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ الَّذِي يَلِي الْبِيعَةَ حَتَّى يُهْدَمَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْإِحْدَاثِ وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ إِحْدَاثٌ، وَأَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالُوا: نَحْنُ قَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى الْبِيَعِ فَلَوْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ رُقْعِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ وَإِعَادَةِ مَا انْهَدَمَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْعِ وَالْإِزَالَةِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُزِيلَهَا وَبَيْنَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَمْنَعَهُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَاخْتَلَفَتِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا؛ فَقَالَ ابْنُ الْمَاجَشُونِ: يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ كَنَائِسِهِمُ الْقَدِيمَةِ إِذَا رَثَّتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَرْطِ عَقْدِهِمْ، وَنَقَلَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِصْلَاحِ مَا وَهَى مِنْهَا.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى الْمَنْعِ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنِ الْخَطِيبِ عَنِ ابْنِ
رِزْقُوَيْهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ [أَبُو] الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خُرِّبَ مِنْهَا» ".
وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ كَالنَّصِّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْإِسْنَادُ، وَلَكِنْ فِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ:" وَلَا يُجَدَّدُ مَا خُرِّبَ مِنْ كَنَائِسِنَا ".
قَالُوا: وَلِأَنَّ تَجْدِيدَهَا بِمَنْزِلَةِ إِحْدَاثِهَا وَإِنْشَائِهَا فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ بِنَاءٌ لَا يُمْلَكُ إِحْدَاثُهُ، فَلَا يُمْلَكُ تَجْدِيدُهُ كَالْبِنَاءِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبَانِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ التَّجْدِيدَ، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الِاسْتِدَامَةَ فَمَلَكُوا التَّجْدِيدَ، قِيلَ: لَا يَلْزَمُ هَذَا فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ حَائِطًا لِوَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَيْهِ جَازَ لَهُ اسْتِدَامَةُ ذَلِكَ، فَلَوِ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَبَنَاهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَمْلِكِ الْمُسْتَعِيرُ تَجْدِيدَ الْمَنْفَعَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ دَارًا عَالِيَةَ الْبُنْيَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ ذَلِكَ، فَلَوِ انْهَدَمَتْ فَأَرَادَ بِنَاءَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، بَلْ يُسَاوِي بِهَا بُنْيَانَ جِيرَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَحُطُّهَا عَنْهُ.
وَأَيْضًا لَوْ فَتَحَ الْإِمَامُ بَلَدًا فِي بِيعَةٍ خَرَابٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ بِنَاؤُهَا بَعْدَ الْفَتْحِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا انْهَدَمَ جَمِيعُهَا زَالَ الِاسْمُ عَنْهَا، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ: لَا دَخَلْتُ دَارًا، فَانْهَدَمَتْ جَمِيعُهَا وَدَخَلَ بَرَاحَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ الِاسْمِ.
فَلَوْ قُلْنَا: يَجُوزُ بِنَاؤُهَا إِذَا انْهَدَمَتْ كَانَ فِيهِ إِحْدَاثُ بِيعَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بِيعَةٌ أَصْلًا.
قَالَ الْمُجَوِّزُونَ، وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: لَمَّا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهَا تَضَمَّنَ إِقْرَارُنَا لَهُمْ جَوَازَ
رَمِّهَا وَإِصْلَاحِهَا وَتَجْدِيدِ مَا خُرِّبَ مِنْهَا، وَإِلَّا بَطَلَتْ رَأْسًا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَبْقَى أَبَدًا، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا.
قَالَ الْمَانِعُونَ: نَحْنُ نُقِرُّهُمْ فِيهَا مُدَّةَ بَقَائِهَا كَمَا نُقِرُّ الْمُسْتَأْمَنَ مُدَّةَ أَمَانِهِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا أَقْرَرْنَاهُمُ اتِّبَاعًا لَا تَمْلِيكًا، فَإِنَّا مَلَكْنَا رَقَبَتَهَا بِالْفَتْحِ وَلَيْسَتْ مِلْكًا لَهُمْ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " جَوَازَ رَمِّ الشَّعَثِ وَمَنْعِ بِنَائِهَا إِذَا اسْتُهْدِمَتْ قَالَ: لِأَنَّ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لِعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ: " وَلَا نُجَدِّدُ مَا خُرِّبَ مِنْ كَنَائِسِنَا ". وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خُرِّبَ مِنْهَا» ".
قَالَ: وَلِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ كَنِيسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ ابْتُدِئَ بِنَاؤُهَا، وَفَارَقَ رَمَّ مَا شَعِثَ مِنْهَا فَإِنَّهُ إِبْقَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ وَهَذَا إِحْدَاثٌ.
قَالَ: وَقَدْ حَمَلَ الْخَلَّالُ قَوْلَ أَحْمَدَ: " لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا " أَيْ: إِذَا انْهَدَمَ بَعْضُهَا، " وَمَنَعَهُ مِنْ بِنَاءِ مَا انْهَدَمَ " عَلَى مَا إِذَا انْهَدَمَتْ كُلُّهَا، فَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.