الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِهَذَا لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَقَرَّ أَهْلَهَا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَسَاكِنِهِمْ، وَكَانَتِ الْمَزَارِعُ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرْطِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ، وَاسْتَرْجَعَ الْمُسْلِمُونَ مَا كَانُوا أَقَرُّوهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْمَعَابِدِ.
[فَصْلٌ مَآلُ مَعَابِدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]
208 -
فَصْلٌ
[مَآلُ مَعَابِدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ]
وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ إِبْقَاءِ الْمَعَابِدِ بِأَيْدِيهِمْ؟ فَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاجُ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا وَإِقْرَارُ الْكُفْرِ بِلَا عَهْدٍ قَدِيمٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِجَوَازِ إِقْرَارِهِمْ فِيهَا إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ فِيهَا، وَكَمَا أَقَرَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمَسَاكِنِ وَالْمَعَابِدِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ.
فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: حُكْمُ الْكَنَائِسِ حُكْمُ غَيْرِهَا مِنَ الْعَقَارِ، مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ إِبْقَاءَهُ، كَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيِّرُ الْإِمَامَ فِيهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَسَّمَ نِصْفَ خَيْبَرَ وَتَرَكَ نِصْفَهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنْ قَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهَا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَوْلُهُ أَوْجَهُ وَأَظْهَرُ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ رِقَابَ الْمَعَابِدِ كَمَا يَمْلِكُ الرَّجُلُ مَالَهُ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مَا تُرِكَ لِمَنَافِعِهِمُ الْمُشْتَرِكَةِ كَالْأَسْوَاقِ وَالْمَرَاعِي، كَمَا لَمْ يَمْلِكْ أَهْلُ خَيْبَرَ مَا أَقَرَّهُمْ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْمَعَابِدِ، وَمُجَرَّدُ إِقْرَارِهِمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا لَيْسَ تَمْلِيكًا كَمَا لَوْ أُقْطِعُ الْمُسْلِمُ بَعْضَ عَقَارِ بَيْتِ الْمَالِ يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ أَوْ سُلِّمَ إِلَيْهِ مَسْجِدٌ أَوْ رِبَاطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لَهُ، بَلْ مَا أُقِرُّوا فِيهِ مِنْ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ انْتِزَاعُهَا مِنْهُمْ إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ ذَلِكَ كَمَا انْتَزَعَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ بِأَمْرِهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ النَّصَارَى بَعْضَ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ الَّتِي خَارِجَ دِمَشْقَ، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى إِعْطَائِهِمُ الْكَنِيسَةَ الَّتِي دَاخِلَ الْبَلَدِ وَأَقَرَّ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ مَعَهُ فِي عَصْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَزِيدُوا جَامِعَ دِمَشْقَ بِالْكَنِيسَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِهِ وَكَانَتْ مِنْ كَنَائِسِ الصُّلْحِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهَا قَهْرًا فَاصْطَلَحُوا عَلَى