الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ السَّابِّ]
277 -
فَصْلٌ
[حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي قَتْلِ السَّابِّ]
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا سَبَّ قُتِلَ وَبَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَهُوَ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ إِذَا سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِخَبَرِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": " لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا قُرْبَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يَهُودَ الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَنْصَارُ أَجْمَعَتْ أَوَّلَ مَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِسْلَامًا، فَوَادَعَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَدَاوَتِهِ بِقَوْلٍ [يَظْهَرُ] وَلَا فِعْلٍ، حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ ".
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ.
وَقَدْ رَوَاهَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ:" نَعَمْ ". قَالَ: فَائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ:" قُلْ ".
فَأَتَاهُ وَذَكَّرَهُ مَا بَيْنَهُمْ، قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَرَادَ الصَّدَقَةَ وَعَنَانَا فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ الْآنَ، وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَنِي سَلَفًا، قَالَ: فَمَا تَرْهَنُونَنِي؟ نِسَاءَكُمْ؟ قَالَ: أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ، أَنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟ قَالَ: تَرْهَنُونَ إِلَيَّ أَوْلَادَكُمْ؟ قَالَ: يُسَبُّ ابْنُ أَحَدِنَا فَيُقَالُ: رُهِنْتَ فِي وَسَقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، وَلَكِنَّ نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ - قَالَ:
نَعَمْ؛ وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ وَأَبِي عَبْسِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، فَجَاءُوا فَدَعُوهُ لَيْلًا فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ وَرَضِيعُهُ أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ لَيْلًا لَأَجَابَ.
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِّي إِذَا جَاءَ سَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى رَأْسِهِ فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَدُونَكُمْ، فَنَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ فَقَالَ: أَنَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيبِ؟
قَالَ: نَعَمْ، تَحْتِي فُلَانَةُ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ.
قَالَ: أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ مِنْهُ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّ ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟ قَالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ فَقَتَلُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَّا يُعِينَ عَلَيْهِ وَلَا يُقَاتِلَهُ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِمُعَادَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَوَّلَ مَا خَزَعَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
أَذَاهِبٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ [بِمَنْقَمَةٍ]
…
وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ
فِي أَبْيَاتٍ يَهْجُوهُ فِيهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَتْلِهِ» .
وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ: قَوْلُهُ " خَزَعَ " مَعْنَاهُ قَطَعَ عَهْدَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: فَخَزَعَ مِنْهُ هِجَاؤُهُ لَهُ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ.
وَالْخَزْعُ الْقَطْعُ، يُقَالُ:" خَزَعَ فُلَانٌ عَنْ أَصْحَابِهِ يَخْزَعُ خَزْعًا؛ أَيِ: انْقَطَعَ وَتَخَلَّفَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ " خُزَاعَةٌ " لِأَنَّهُمُ انْخَزَعُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ ".
فَعَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَهَذَا أَوَّلُ خَزْعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَيْ: أَوَّلُ انْقِطَاعِهِ عَنْهُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ.
وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: الْمَعْنَى قَطَعَ هِجَاءَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ؛ أَيْ: نَقَضَ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَزَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَجَاهُ: أَيْ: نَالَ مِنْهُ وَشَعَّثَ مِنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ - مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ - أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ مُوَادِعًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جُمْلَةِ مَنْ وَادَعَهُ مَنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَرَبِيًّا مِنْ بَنِي طَيِّئٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ.
قَالُوا: فَلَمَّا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَرَثَاهُمْ لِقُرَيْشٍ، وَفَضَّلَ دِينَ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51 - 52] ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخَذَ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ [يَهْجُو بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم] وَيُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَذَكَرُوا قِصَّةَ قَتْلِهِ مَبْسُوطَةً.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ [ابْنِ] كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ قَالَ: «فَفَزِعَتْ يَهُودُ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا: قَدْ طَرَقَ صَاحِبُنَا اللَّيْلَةَ وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، [قُتِلَ غِيلَةً] بِلَا جُرْمٍ وَلَا حَدَثٍ عَلِمْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّهُ لَوْ قَرَّ كَمَا قَرَّ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مَا اغْتِيلَ، وَلَكِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ ". وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا تَحْتَ الْعَذْقِ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَحَذِرَتْ يَهُودُ وَخَافَتْ وَذَلَّتْ مِنْ يَوْمِ قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ» .
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَعْبًا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ بَلْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ دَمُهُ بِالسَّبِّ بَلْ بِلُحُوقِهِ دَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ لَحِقَ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا الَّذِي أَبَاحَ دَمَهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: " أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الصُّنْبُرِ الْمُنْبَتِرِ عَنْ قَوْمِهِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السَّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ، قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ، قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمْ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] قَالَ: وَأُنْزِلَتْ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] إِلَى قَوْلِهِ: (نَصِيرًا)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ انْطَلَقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَاسْتَجَاشَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، [وَأَمَرَهُمْ] أَنْ يَغْزُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ،
وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا مِنْكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَخْرُجَ مَعَكَ فَاسْجُدْ لِهَذَيْنِ الصَّنَمَيْنِ وَآمِنْ بِهِمَا، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: نَحْنُ أَهْدَى أَمْ مُحَمَّدٌ؟ نَحْنُ نَصِلُ الرَّحِمَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ وَنَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَنَنْحَرُ الْكُومَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ رَحِمَهُ وَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]
وَقَالَ: حَدَّثَنَا [عَبْدُ الرَّزَّاقِ] ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ: دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوا: اعْرِضُوا عَلَيَّ دِينَكُمْ، قَالُوا: نُعَمِّرُ بَيْتَ رَبِّنَا وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ الْمَاءَ وَنَصِلُ الرَّحِمَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ، قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيُّ - وَهُوَ أَحَدُ بَنِي النَّضِيرِ [وَقَيِّمُهُمْ]- قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، [فَاسْتَغْوَاهُمْ] بِهَمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ [لَهُ] أَبُو سُفْيَانَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ، أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ وَأَيُّنَا أَهْدَى فِي رَأْيِكَ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ؟ فَإِنَّا نُطْعِمُ الْجَزُورَ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ وَنُطْعِمُ مَا هَبَّتِ الشَّمَالُ. قَالَ ابْنُ الْأَشْرَفِ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ مُقْبِلًا حِينَ أَجْمَعَ رَأْيُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْلِنًا بِعَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِجَائِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَنَا مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ قَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا، وَقَدْ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَجَمَعَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا، وَقَدْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى أَخْبَثِ
مَا كَانَ [يَنْتَظِرُ] قُرَيْشًا أَنْ تَقْدَمَ فَيُقَاتِلَنَا مَعَهُمْ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا أُنْزِلَ فِيهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] إِلَى قَوْلِهِ: (سَبِيلًا) وَآيَاتٍ مَعَهَا فِيهِ وَفِي قُرَيْشٍ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اللَّهُمَّ [اكْفِنِي] ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْتَ " فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْتُلُهُ؟» . . . وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي قَتْلِهِ، قَالَ: فَقَتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْرَفِ بِعَدَاوَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِجَائِهِ إِيَّاهُ وَتَأْلِيبِهِ عَلَيْهِ قُرَيْشًا وَإِعْلَانِهِ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ
أَصْحَابُ بَدْرٍ وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرَيْنِ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ الظَّفَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَصَالِحُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ.
قَالُوا: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ طَيِّئٍ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ: أَحَقٌّ هَذَا الَّذِي يَرْوُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى هَذَانِ الرَّجُلَانِ؟ - يَعْنِي زَيْدًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ - هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ
أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ [وَجَعَلَ يُحَرِّضُ] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [وَيُنْشِدُ] الْأَشْعَارَ، [وَيَبْكِي] أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ، وَذَكَرَ شِعْرَهُ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُغِيثِ -:" مَنْ لِي مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ " فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ» وَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ
وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، فَكُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي مِنْهُ بِطَائِفَةٍ، وَكَانَ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَنَا عَلَيْهِ قَالُوا: «كَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِمْ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ: مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، فِيهِمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَمِنْهُمْ حُلَفَاءُ الْحَيَّيْنِ جَمِيعًا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلَّهُمْ وَمُوَادَعَتَهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَبُوهُ مُشْرِكًا فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] الْآيَةَ.
فَلَمَّا أَبَى ابْنُ الْأَشْرَفِ أَنْ يَدَعَ عَنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِالْبِشَارَةِ مِنْ بَدْرٍ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، فَرَأَى الْأُسَارَى مُقَرَّنِينَ كُبِتَ وَذَلَّ، ثُمَّ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَيْلَكُمْ! لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا الْيَوْمَ، هَؤُلَاءِ سُرَاةُ النَّاسِ قَدْ قُتِلُوا وَأُسِرُوا، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: عَدَاوَتُهُ مَا حَيِينَا، فَقَالَ: وَمَا أَنْتُمْ وَقَدْ وَطِئَ قَوْمَهُ وَأَصَابَهُمْ؟ وَلَكِنِّي أَخْرُجُ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَحُضُّهَا وَأَبْكِي قَتْلَاهَا، لَعَلَّهُمْ يَنْتَدِبُونَ فَأَخْرَجُ مَعَهُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَوَضَعَ رَحْلَهُ عِنْدَ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ أَبِي صَبْرَةَ السَّهْمِيِّ وَتَحْتَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ، فَجَعَلَ يَرْثِي قُرَيْشًا. . . وَذَكَرَ مَا رَثَاهُمْ بِهِ مِنَ الشِّعْرِ وَمَا أَجَابَهُ حَسَّانُ، فَأَخْبَرَهُ بِنُزُولِ كَعْبٍ عَلَى مَنْ نَزَلَ، فَقَالَ حَسَّانُ، فَذَكَرَ شِعْرًا هَجَا بِهِ أَهْلَ الْبَيْتِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَهَا شِعْرُهُ نَبَذَتْ رَحْلَهُ وَقَالَتْ: مَا لَنَا وَلِهَذَا الْيَهُودِيِّ؟ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ بِنَا حَسَّانُ؟ فَتَحَوَّلَ، فَكُلَّمَا تَحَوَّلَ عِنْدَ قَوْمٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَسَّانَ، فَقَالَ:" ابْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَ عَلَى فُلَانٍ ". فَلَا يَزَالُ
يَهْجُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا رَحْلَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَأْوًى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُدُومُهُ فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اكْفِنِي ابْنَ الْأَشْرَفِ بِمَا شِئْتَ فِي إِعْلَانِهِ الشَّرَّ وَقَوْلِهِ الْأَشْعَارَ ".
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لِي مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدَ [آذَانِي] فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ، قَالَ: " فَافْعَلْ» ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَقَدِ اجْتَمَعَ لِابْنِ الْأَشْرَفِ ذُنُوبٌ مِنْهَا: أَنَّهُ رَثَى قَتْلَى قُرَيْشٍ، وَحَضَّهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَاطَأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى مُحَارَبَتِهِ بِإِخْبَارِهِ أَنَّ دِينَهُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَهَجَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كَعْبًا كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ بِهِجَائِهِ وَأَذَاهُ بِلِسَانِهِ.
الثَّانِي: أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَقَضَ بِهِ الْعَهْدَ قَصِيدَتُهُ الَّتِي أَنْشَأَهَا يَهْجُو بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَجَاهُ بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْيَهُودِ لَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ فِي شَأْنِ قَتْلِهِ: " «إِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ» ". وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدَ اسْتَحَقَّ السَّيْفَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْدُبْ إِلَى قَتْلِهِ لِكَوْنِهِ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ لَمَّا قَدِمَ وَهَجَاهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ:" ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ". ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا قَطَعَ بِهِ الْعَهْدَ تِلْكَ الْأَبْيَاتُ الَّتِي قَالَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ نَدَبَ إِلَى قَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ:" «مَنْ لَنَا مِنِ ابْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا» ".
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ
قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي الْمَاءَ عَلَى اللَّبَنِ وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ قَطَّعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] .
وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، رَجُلَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَتَيَا قُرَيْشًا فِي الْمَوْسِمِ، فَقَالَ لَهُمَا الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ، إِنَّمَا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ حَسَدُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] فَلَمَّا رَجَعَا إِلَى قَوْمِهِمَا قَالَ لَهُمَا قَوْمُهُمَا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكُمْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ، مَا حَمَلَنَا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا حَسَدُهُ وَبُغْضُهُ.
وَهَذَانِ مُرْسَلَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فِيهِمَا أَنَّ كِلَا الرَّجُلَيْنِ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ مَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَدِمَا فَنَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَأَمْسَكَ عَنِ ابْنِ أَخْطَبَ، حَتَّى نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ الْعَهْدَ فَأَجْلَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَحِقَ بِخَيْبَرَ، ثُمَّ جَمَعَ عَلَيْهِ الْأَحْزَابَ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ مَعَهُمْ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي أَتَيَاهُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُوجِبَ لِلنَّدْبِ إِلَى قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ ابْنُ الْأَشْرَفِ مِنَ الْهِجَاءِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ بِمَكَّةَ مُقَوِّيًا لِذَلِكَ وَلَكِنْ مُجَرَّدُ الْأَذَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يُوجِبُ النَّدْبَ إِلَى قَتْلِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:" «فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَكَمَا بَيَّنَهُ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْحَارِثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: " لَمَّا قَالَ: «كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَنِي قُرَيْظَةَ - كَذَا فِيهِ، قَالَ شَيْخُنَا: أَحْسَبُهُ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ - اعْتَزَلَ ابْنُ الْأَشْرَفِ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَانَ فِيهَا وَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَيْهِ وَلَا أُقَاتِلُهُ، فَقِيلَ لَهُ بِمَكَّةَ: دِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ قَالَ: دِينُكُمْ خَيْرٌ وَأَقْدَمُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ، وَدِينُ مُحَمَّدٍ حَدِيثٌ» .
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ مُحَارَبَتَهُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ جَمِيعَ مَا أَتَاهُ ابْنُ الْأَشْرَفِ إِنَّمَا هُوَ أَذًى بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ رِثَاءَهُ لِقَتْلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَحْضِيضَهُ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَبَّهُ وَطَعْنَهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَفْضِيلَهُ دِينَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، كُلُّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا فِيهِ مُحَارَبَةٌ.
وَمَنْ نَازَعَنَا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْوِهِ فَهُوَ فِيمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ تَفْضِيلِ دِينِ الْكُفَّارِ وَحَضِّهِمْ بِاللِّسَانِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مُنَازَعَةً، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا تَجَسَّسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَخْبَرَهُمْ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعَا الْكُفَّارَ إِلَى قِتَالِهِمُ انْتَقَضَ عَهْدُهُ أَيْضًا كَمَا يَنْتَقِضُ
عَهْدُ السَّابِّ.
وَمَنْ قَالَ: " إِنَّ السَّابَّ لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ " فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا ابْنُ الْأَشْرَفِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلَّا أَذًى بِاللِّسَانِ فَقَطْ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ تَفْضِيلَ دِينِ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ دُونَ [سَبِّ] النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَفْضُولًا أَحْسَنُ حَالًا مِنْ كَوْنِهِ مَسْبُوبًا مَشْتُومًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ فَالسَّبُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا مَرْثِيَّتُهُ لِلْقَتْلَى وَحَضُّهُمْ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِمْ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَهْيِيجُ قُرَيْشٍ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، وَقُرَيْشٌ كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَقِيبَ بَدْرٍ، وَأَرْصَدُوا الْعِيرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ لِلنَّفَقَةِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي ذَلِكَ إِلَى كَلَامِ ابْنِ الْأَشْرَفِ.
نَعَمْ، مَرْثِيَّتُهُ وَتَفْضِيلُهُ رُبَّمَا زَادَهُمْ غَيْظًا وَمُحَارَبَةً، لَكِنَّ سَبَّهُ لِلنَّبِيِّ وَهِجَاءَهُ لَهُ وَلِدِينِهِ أَيْضًا مِمَّا يُهَيِّجُهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَيُغْرِيهِمْ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْهِجَاءَ فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ وَأَبْلَغُ، فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ نَقْضًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَقْضًا أَوْلَى، وَلِهَذَا قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةً مِنَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي كُنَّ يَشْتُمْنَهُ وَيَهْجِينَهُ مَعَ عَفْوِهِ عَمَّنْ كَانَتْ تُعِينُ عَلَيْهِ وَتَحُضُّ عَلَى قِتَالِهِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُسْتَوْطِنًا، وَلِهَذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَطَنُهُ، وَالذِّمِّيُّ إِذَا سَافَرَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَ قَدْ سَافَرَ مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ لَنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لِمَا قَالَهُ لِقُرَيْشٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَعَنَهُ وَمَنْ لَعَنَهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ لَكَانَ يَجِبُ نَصْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُوجِبُ انْتِقَاضَ عَهْدِهِ وَعَدَمِ نَاصِرِهِ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ مِنْ شَتْمٍ وَسَبٍّ؟ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلِنْ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَحْيًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهِدِينَ إِلَّا بِذَنْبٍ ظَاهِرٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعْلَنَ الْهِجَاءَ وَالْعَدَاوَةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقْتَلَ لِظُهُورِ أَذَاهُ وَشُهْرَتِهِ عِنْدَ
النَّاسِ.
نَعَمْ، مَنْ خِيفَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ فَإِنَّهُ يُنْبَذُ إِلَيْهِ الْعَهْدُ، أَمَّا إِجْرَاءُ حُكْمِ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ حَتَّى يُظْهِرَ الْمُحَارَبَةَ وَتَثْبُتَ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ النَّفَرَ الْخَمْسَةَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، قَدْ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَخْدَعُوهُ بِكَلَامٍ يُظْهِرُونَ بِهِ أَنَّهُمْ قَدْ آمَنُوهُ وَوَافَقُوهُ ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لِكَافِرٍ أَمَانًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْكُفْرِ، بَلْ لَوِ اعْتَقَدَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ آمَنَهُ صَارَ مُسْتَأْمَنًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ آمَنُ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا آمَنَكَ الرَّجُلُ عَلَى دَمِهِ فَلَا تَقْتُلْهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" « [الْإِيمَانُ] قَيْدُ الْفَتْكِ، لَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ» " رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَقَدْ زَعَمَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَتَكُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلَعَ الْأَمَانَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ قَبْلَ هَذَا، وَزَعَمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ مِنَ الْكَافِرِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ، كَمَا جَازَ الْبَيَاتُ وَالْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْغِرَّةِ، لَكِنْ يُقَالُ: فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي كَلَّمُوهُ بِهِ صَارَ مُسْتَأْمَنًا، وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُبْهَةُ أَمَانٍ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْأَمَانَ يَعْصِمُ دَمَ الْحَرْبِيِّ وَيَصِيرُ مُسْتَأْمَنًا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ، وَإِنَّمَا قَتَلُوهُ لِأَجْلِ هِجَائِهِ وَأَذَاهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِهَذَا الْوَجْهِ لَمْ يُعْصَمْ دَمُهُ بِأَمَانٍ وَلَا بِعَهْدٍ كَمَا لَوْ آمَنَ الْمُسْلِمُ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، أَوْ آمَنَ
مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ زِنَاهُ، أَوْ آمَنَ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ لِأَجْلِ الرِّدَّةِ، أَوْ لِأَجْلِ تَرْكِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُ عَهْدًا، سَوَاءٌ كَانَ عَقْدَ أَمَانٍ أَوْ عَقْدَ هُدْنَةٍ أَوْ عَقْدَ ذِمَّةٍ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَدٌّ مِنَ الْحُدُودِ، وَلَيْسَ قَتْلُهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ كَافِرًا حَرْبِيًّا كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
أَمَّا الْإِغَارَةُ وَالْبَيَاتُ فَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ صَارُوا بِهِ آمِنِينَ، وَلَا اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أُومِنُوا، بِخِلَافِ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَثَبَتَ أَنَّ أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْهِجَاءِ وَنَحْوِهِ لَا يُحْقَنُ مَعَهُ الدَّمُ بِالْأَمَانِ، فَلَأَنْ لَا يُحْقَنَ مَعَهُ بِالذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالْهُدْنَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِنَّ الْأَمَانَ يَجُوزُ عَقْدُهُ لِكُلِّ كَافِرٍ وَيَعْقِدُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ شَيْءٌ مِنَ الشُّرُوطِ وَالذِّمَّةِ لَا يَعْقِدُهَا إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَلَا يُعْقَدُ إِلَّا بِشُرُوطٍ كَثِيرَةٍ تُشْرَطُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْتِزَامِ الصَّغَارِ وَنَحْوِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجَاءِ وَالشِّعْرِ وَهُوَ كَلَامٌ مَوْزُونٌ يُحْفَظُ وَيُرْوَى وَيُنْشَدُ بِالْأَصْوَاتِ وَالْأَلْحَانِ وَيَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْأَذَى وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَيْسَ لِلْكَلَامِ الْمَنْثُورِ، وَلِذَلِكَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ حَسَّانَ أَنْ يَهْجُوَهُمْ وَيَقُولَ:" إِنَّهُ أَنْكَى فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ» ". فَيُؤَثِّرُ هِجَاؤُهُ فِيهِمْ أَثَرًا عَظِيمًا يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْهَا لَوْ سُبُّوا بِكَلَامٍ مَنْثُورٍ أَضْعَافَ الشِّعْرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمُتَقَدِّمَةَ تَكَرَّرَ مِنْهُمَا سَبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَذَاهُ، وَالشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ صَارَ لَهُ حَالٌ أُخْرَى لَيْسَتْ لَهُ إِذَا انْفَرَدَ، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُجِيزُونَ قَتْلَ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا قَتْلَ مَنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ، فَإِذَنْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ يُمَكِّنُ الْمُخَالِفَ أَنْ يَقُولَ بِهِ.
فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ السَّبَّ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ الذِّمِّيِّ يَقْتَضِي إِهْدَارَ دَمِهِ وَانْتِقَاضَ عَهْدِهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِي النَّاقِضِ لِلْعَهْدِ: هَلْ هُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ السَّبِّ - وَهُوَ مَا كَثُرَ وَغَلُظَ - أَوْ هُوَ مُطْلَقُ السَّبِّ؟ هَذَا نَظَرٌ آخَرُ، فَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا السَّبِّ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُهْدِرٌ لِدَمِ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يَسُوغَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ نَصَّ السُّنَّةِ، فَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ شَيْئًا مِنْ سَبِّ الذِّمِّيِّ وَأَذَاهُ لَا يُبِيحُ دَمَهُ كَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ خِلَافًا لَا عُذْرَ فِيهِ لِأَحَدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رَيْبَ أَنَّ الْجِنْسَ الْمُوجِبَ لِلْعُقُوبَةِ قَدْ يَتَغَلَّظُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ صِفَةً أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً وَقَدْرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ قَتْلِ وَالِدٍ وَعَالِمٍ وَصَالِحٍ، وَلَا ظُلْمُ بَعْضِ النَّاسِ مِثْلَ ظُلْمِ يَتِيمٍ فَقِيرٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ صَالِحَيْنِ، وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحْوَالِ الْمُشَرَّفَةِ كَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ كَالْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَغْلِيظِ الدِّيَةِ إِذَا تَغَلَّظَ الْقَتْلُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قِيلَ لَهُ: «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ - قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ". قِيلَ لَهُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ". قِيلَ لَهُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ". وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَسَفَكَ دَمَ خَلْقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثُرَ مِنْهُ أَخْذُ الْأَمْوَالِ كَانَ جُرْمُهُ أَعْظَمَ مِنْ جُرْمِ مَنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَظَّمَ الْقَصَائِدَ فِي سَبِّهِ فَإِنَّ جُرْمَهُ أَعْظَمُ مِنْ جُرْمِ مَنْ سَبَّهُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الْمَنْثُورَةِ، بِحَيْثُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَالِانْتِصَارُ مِنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ، وَلَوْ كَانَ الْمُقِلُّ أَهْلًا أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَهْلًا لِذَلِكَ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْأَذَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُطْلَقُ السَّبِّ الظَّاهِرِ مُهْدِرٌ لِدَمِ الذِّمِّيِّ نَاقِضٌ لِعَهْدِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ". وَذَلِكَ اسْمٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِنَوْعٍ وَلَا قَدْرٍ
وَلَا تَكْرَارٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلِيلَ السَّبِّ وَكَثِيرَهُ وَمَنْظُومَهُ وَمَنْثُورَهُ أَذًى لِلَّهِ بِلَا رَيْبٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّكْرَارَ وَالْمُبَالَغَةَ لَأَتَى بِالِاسْمِ الْمُفْهِمِ لِذَلِكَ فَقَالَ: " فَإِنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي أَذَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ " وَقَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَهُوَ الْمَعْصُومُ فِي غَضَبِهِ وَرِضَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " «إِنَّهُ نَالَ مِنَّا الْأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا كَانَ لِلسَّيْفِ» ". وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ بَلْ عَلَّقَهُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كَعْبًا آذَاهُ بِكَلَامِهِ الْمَنْظُومِ، وَالْيَهُودِيَّةَ بِكَلَامِهَا الْمَنْثُورِ، وَكِلَاهُمَا أَهْدَرَ دَمَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّظْمَ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ إِذَا ثَبَتَ بِدُونِ الْوَصْفِ كَانَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْجِنْسَ الْمُبِيحَ لِلدَّمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَغَلِيظِهِ وَخَفِيفِهِ فِي كَوْنِهِ مُبِيحًا، سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا كَالرِّدَّةِ أَوْ فِعْلًا كَالزِّنَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَهَذَا قِيَاسُ الْأُصُولِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا يُبِيحُ الدَّمَ إِذَا كَثُرَ وَلَا يُبِيحُهُ مَعَ الْقِلَّةِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُنَازِعُ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ وَالْفَاحِشَةُ فِي الدُّبُرِ دُونَ مَنْ قَلَّ مِنْهُ ذَلِكَ، فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَالْبَابُ وَاحِدٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ يَهُودِيٍّ رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ» لَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ.
وَصَحَّ عَنْهُ فِي اللُّوطِيِّ: " «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» ". وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ
بِتَكْرَارٍ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَجْمَعُوا قَتْلَهُ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا تَكْرَارًا، وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ الْمَنْصُوصَةُ وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهَا قَدْ سَوَّتْ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ بَيْنَ قَلِيلِ الْمُوجِبِ وَكَثِيرِهِ كَانَ الْفَرْقُ تَحَكُّمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ يُوَضِّحُهُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْكَثِيرُ، فَكَذَلِكَ مَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُبِيحٌ لِلدَّمِ أَوْ أَنَّ الْمُبِيحَ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَا حَدُّ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ؟ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقِيَاسَ فِي
الْمُقَدَّرَاتِ، وَالْكُلُّ مُنْتَفٍ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُبِيحُ الدَّمَ مِنْهُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ وَلَا يُبِيحُهُ أَقَلُّ مِنْهُ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْقَتْلِ بِالزِّنَى، وَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَلَا بِالْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ خَمْسِينَ يَمِينًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْقَوَدَ بِهَا، وَلَا رَجْمَ الْمُلَاعَنَةِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ شَهَادَةِ الزَّوْجِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تُرْجَمُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَنُكُولِهَا، فَإِنَّ الْمُبِيحَ لِلدَّمِ لَيْسَ هُوَ الْإِقْرَارَ وَلَا الْأَيْمَانَ، وَإِنَّمَا الْمُبِيحُ فِعْلُ الزِّنَى وَفِعْلُ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ وَالْأَيْمَانُ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ.
وَنَحْنُ لَمْ نُنَازِعْ فِي أَنَّ الْحُجَجَ الشَّرْعِيَّةَ لَهَا نُصُبٌ مَحْدُودَةٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ لَا نِصَابَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِجِنْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ الْقَتْلَ عِنْدَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدًّا يَجِبُ فِعْلُهُ أَوْ تَعْزِيرًا يَرْجِعُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ مُوجِبِهِ، وَلَا حَدَّ لَهُ إِلَّا تَعْلِيقَهُ بِالْجِنْسِ، وَالْقَوْلُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ تَحَكُّمٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ تَعْزِيرٌ بِالْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَخْتَصُّهُ، وَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» " تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.