الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعْدَ رَسُولِهِ حَيْثُ قَالَ: " «يَبْعَثُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» " وَيَكُونُ مَنْ أَجْرَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ وَأَعَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ دَاخِلِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ بِهِمْ يُقِيمُ دِينَهُ كَمَا قَالَ:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
[القسم الثَّانِي بِلَادٌ أُنْشِئَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَافْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَمَلَكُوا أَرْضَهَا وَسَاكِنِيهَا]
210 -
فَصْلٌ
الضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ:
[مَا فُتِحَ عَنْوَةً]
الْأَمْصَارُ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْمُشْرِكُونَ وَمَصَّرُوهَا، ثُمَّ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِالسَّيْفِ، فَهَذِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَهَلْ يَجُوزُ إِبْقَاؤُهُ أَوْ يَجِبُ هَدْمُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ إِزَالَتُهُ وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْبِلَادَ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا أَمْكِنَةُ شِعَارِ الْكُفْرِ، كَالْبِلَادِ الَّتِي مَصَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِبَلَدٍ» ". وَكَمَا لَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي هِيَ شِعَارُ الْفُسُوقِ كَالْخَمَّارَاتِ وَالْمَوَاخِيرِ، وَلِأَنَّ أَمْكِنَةَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَمْكِينُ الْكُفَّارِ مِنْ إِقَامَةِ شِعَارِ الْكُفْرِ فِيهَا كَبَيْعِهِمْ وَإِجَارَتِهِمْ إِيَّاهَا لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجِهَادِ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لَهُ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارِ الْكُفْرِ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ جَعَلَ الدِّينَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ بِنَاؤُهَا لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ فَنَزَلُوهُ فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ " وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَعَابِدِهِمْ فِيهَا وَلَمْ يَهْدِمْهَا، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنَ الْكَنَائِسِ الَّتِي بِهَا.
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ
عَنْوَةً، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهَا مَا أُحْدِثَتْ بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْفَتْحِ.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: " أَنْ لَا تَهْدِمُوا كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ ".
وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ، فَإِنَّهَا الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ أَخْذُهَا مِنْهُمْ أَوْ إِزَالَتُهَا هُوَ الْمَصْلَحَةَ - لِكَثْرَةِ الْكَنَائِسِ أَوْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَعْضِهَا وَقِلَّةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ - فَلَهُ أَخْذُهَا أَوْ إِزَالَتُهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَصْلَحَ - لِكَثْرَتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا وَغِنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا - تَرَكَهَا، وَهَذَا التَّرْكُ تَمْكِينٌ لَهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لَا تَمْلِيكٌ لَهُمْ رِقَابَهَا، فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِلْكًا لِلْكُفَّارِ؟ وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، فَلِلْإِمَامِ انْتِزَاعُهَا مَتَى رَأَى
الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةَ مَعَهُ أَجْلَوْا أَهْلَ خَيْبَرَ مِنْ دُورِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ تَمْلِيكًا لَمْ يَجُزِ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ مِلْكِهِمْ إِلَّا بِرِضًا أَوْ مُعَاوَضَةٍ.
وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَخْذَ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ الَّتِي خَارِجَ دِمَشْقَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ صَالَحَهُمُ النَّصَارَى عَلَى تَرْكِهَا وَتَعْوِيضِهِمْ عَنْهَا بِالْكَنِيسَةِ الَّتِي زِيدَتْ فِي الْجَامِعِ، وَلَوْ كَانُوا قَدْ مَلَكُوا تِلْكَ الْكَنَائِسَ بِالْإِقْرَارِ لَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كَيْفَ تَأْخُذُونَ أَمْلَاكَنَا قَهْرًا وَظُلْمًا؟ بَلْ أَذْعَنُوا إِلَى الْمُعَاوَضَةِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذَ تِلْكَ الْكَنَائِسِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مِلْكِهِمْ كَالْأَرْضِ الَّتِي هِيَ بِهَا.
فَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَدَمَ