الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَاذٌّ بَعِيدٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنْشَاءٌ وَبِنَاءٌ مُسْتَأْنَفٌ فَلَا يَمْلِكُ فِيهِ التَّعْلِيَةَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دِمْنَةً مِنْ مُسْلِمٍ كَانَ لَهُ فِيهَا دَارٌ عَالِيَةٌ.
وَرَابِعُهَا: لَوْ وَجَدْنَا دَارَ ذِمِّيٍّ عَالِيَةً وَدَارَ مُسْلِمٍ أَنْزَلَ مِنْهَا، وَشَكَكْنَا فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: لَمْ يُعْرَضْ لَهُ فِيهَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يُقَرُّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيَةَ مَفْسَدَةٌ وَقَدْ شَكَّكْنَا فِي شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ جَوَازِ سُكْنَى الدَّارِ الْعَالِيَةِ إِذَا مَلَكُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَعَلَى مَا نَصَرْنَاهُ فَالْمَنْعُ ظَاهِرٌ.
وَخَامِسُهَا: لَوْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ جَارٌ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ دَارُهُ فِي غَايَةِ الِانْحِطَاطِ، فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُكَلَّفُونَ حَطَّ بِنَائِهِمْ عَنْ دَارِهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ، وَاسْتَشْكَلَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " وَلَا وَجْهَ لِاسْتِشْكَالِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي تَمَلُّكِ الذِّمِّيِّ بِالْإِحْيَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ]
219 -
فَصْلٌ
فِي تَمَلُّكِ الذِّمِّيِّ بِالْإِحْيَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الذِّمِّيِّ، هَلْ يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يُمَلَّكُ الْمُسْلِمُ؟ فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَابْنِ هَانِئٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ عَلَى أَنَّهُ يُمَلَّكُ بِهِ كَالْمُسْلِمِ.
قَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ: إِنْ أَحْيَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَوَاتًا مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ فِيهِ قَوْلًا حَسَنًا، يَقُولُونَ: لَا يُتْرَكُ الذِّمِّيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضَ الْعُشْرِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ قَوْلًا عَجِيبًا؛ يَقُولُونَ: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ.
قَالَ: وَسَأَلْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى قُلْتُ: إِنْ أَحْيَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَوَاتًا؟
قَالَ: هُوَ عُشْرٌ، وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَبِهَذَا قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ أَخْذًا مِنِ امْتِنَاعِ شُفْعَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِجَامِعِ التَّمْلِيكِ لِمَا يَخُصُّ الْمُسْلِمِينَ.
وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَتَضَمَّنُ انْتِزَاعَ مِلْكِ الْمُسْلِمِ مِنْهُ قَهْرًا، وَالْإِحْيَاءُ لَا يُنْزَعُ بِهِ مِلْكُ أَحَدٍ، وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْإِمَامُ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأُمُورٍ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» ". فَأَضَافَ عُمُومَ الْمَوَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ لِلْكُفَّارِ.
وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ، وَالدَّارُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَرْضِ إِلَى الْمُسْلِمِ إِمَّا إِضَافَةُ مِلْكٍ وَإِمَّا إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَتَمَلُّكُ الْكَافِرِ بِالْإِحْيَاءِ مُمْتَنِعٌ، وَبِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ بِالْإِحْيَاءِ فِي أَرْضِ الْكُفَّارِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهَا، فَأَحْرَى أَلَّا يُمَلَّكَ الذِّمِّيُّ فِي
أَرْضِ الْإِسْلَامِ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» ". وَبِأَنَّ الْإِحْيَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَمَلَكَ بِهِ الذِّمِّيُّ كَسَائِرِ أَسْبَابِهِ، قَالُوا: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ " «مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» " فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا لَفْظُهُ:" «عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هُوَ لَكُمْ» ". مَعَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
قَالُوا: وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُمْنَعْ تَمَلُّكُ الذِّمِّيِّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يُتَمَلَّكُ بِالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ مَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَلَكُوا الْأَرْضَ مَلَكُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْمَنَافِعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ ذَلِكَ.
وَإِقْرَارُ الْإِمَامِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى إِذْنِهِ لَهُمْ فِيهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ بِعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَتَهْيِئَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا وَكَثْرَةِ فِعْلِهَا، وَلَا نَقْصَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ.