الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُوجِبُ التَّأْدِيبَ لَا الْقَتْلَ.
قَالُوا: وَإِذَا ظَهَرَ نَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ بَعْضِهِمْ فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ وَظَهَرَ مِنْهُمْ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ اخْتَصَّ النَّقْضُ بِهِ.
وَإِنْ ظَهَرَ رِضَاهُمْ بِذَلِكَ كَانَ نَقْضًا مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَعَلَامَةُ بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ إِنْكَارُهُمْ عَلَى مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ.
[فَصْلٌ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ]
266 -
فَصْلٌ
[مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ] .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالُوا: لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْإِمَامِ وَيَمْنَعُونَ الْجِزْيَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ.
فَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَضَاضَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَصِرْ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، لَكِنْ مِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ مَا لَا قَتْلَ فِيهِ عِنْدَهُمْ مِثْلَ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَالتَّلَوُّطِ وَسَبِّ الذِّمِّيِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذَا تَكَرَّرَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ فَاعِلَهُ تَعْزِيرًا.
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الْمُقَدَّرِ فِيهِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَيَحْمِلُونَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقَتْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجَرَائِمِ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ وَيُسَمُّونَهُ الْقَتْلَ سِيَاسَةً، وَكَانَ حَاصِلُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ بِالْقَتْلِ فِي الْجَرَائِمِ الَّتِي تَغَلَّظَتْ بِالتَّكْرَارِ، وَشُرِعَ الْقَتْلُ فِي جِنْسِهَا، وَلِهَذَا أَفْتَى أَكْثَرُ أَصْحَابِهِمْ بِقَتْلِ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِهِ.
وَقَالُوا: يُقْتَلُ سِيَاسَةً، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ عَلَى أُصُولِهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّعْلِيقِ ": وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ يَحْصُلُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ - وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْإِضْرَارِ وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِضْرَارٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَنْتَقِضَ الْعَهْدُ بِفِعْلِهَا كَمَا لَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ أَمَانٍ فَانْتَقَضَ بِالْمُخَالَفَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَالْهُدْنَةِ.
[الْأَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ السَّابِّ وَانْتِقَاضِ عَهْدِهِ] .
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قُلْتُ: وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ سِوَى مَا ذَكَرَهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فَلَا يَجُوزُ الْإِمْسَاكُ عَنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا إِذَا كَانُوا صَاغِرِينَ حَالَ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ.
وَالْمُرَادُ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ حِينِ بَذْلِهَا أَوِ الْتِزَامِهَا إِلَى حِينِ تَسْلِيمِهَا وَإِقْبَاضِهَا، فَإِنَّهُمْ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ شَرَعُوا فِي الْإِعْطَاءِ وَوَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ إِلَى أَنْ نَقْبِضَهَا مِنْهُمْ، فَمَتَى لَمْ يَلْتَزِمُوهَا أَوِ الْتَزَمُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِهَا لَمْ يَكُونُوا مُعْطِينَ لَهَا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا صَاغِرِينَ حَالَ تَنَاوُلِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَقَطْ، وَيُفَارِقُهُمُ الصَّغَارُ فِيمَا عَدَا هَذَا الْوَقْتَ، هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.
وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَمَنْ جَاهَرَنَا بِسَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِكْرَاهِ حَرِيمِنَا عَلَى الزِّنَى وَتَحْرِيقِ جَوَامِعِنَا وَدُورِنَا وَرَفْعِ الصَّلِيبِ فَوْقَ رُءُوسِنَا، فَلَيْسَ مَعَهُ مِنَ الصَّغَارِ شَيْءٌ، فَيَجِبُ قِتَالُهُ بِنَصِّ الْآيَةِ حَتَّى يَصِيرَ صَاغِرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقِتَالُ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمُ الْقَتْلُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أُمْرِنَا بِقِتَالِهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّا إِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَعْقِدَ لَهُمْ عَهْدَ الذِّمَّةِ بِدُونِهَا، وَلَوْ عُقِدَ لَهُمْ [كَانَ] عَقْدًا فَاسِدًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَصْلَ إِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ، يُمْسِكُ عِصْمَتَهَا الْحَبْلَانِ: حَبْلٌ مِنَ اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ، وَحَبْلٌ مِنَ النَّاسِ بِالْعَهْدِ وَالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنَ الْحَبْلَيْنِ.
أَمَّا حَبْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا اقْتَضَى الْأَمْرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ إِذَا كَانُوا صَاغِرِينَ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدُ وَصْفُ الصَّغَارِ الْمُقْتَضِي لِلْكَفِّ مِنْهُمْ وَعَنْهُمْ، فَالْقَتْلُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَالْقِتَالُ لِلطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا حَبْلُ النَّاسِ فَلَمْ يُعَاهِدْهُمُ الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا عَلَى الْكَفِّ عَمَّا فِيهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَغَضَاضَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدُ فَلَا عَهْدَ لَهُمْ مِنَ الْإِمَامِ وَلَا مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.