الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَة الْكتاب]
أُصُولُ بَزْدَوِيٍّ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ النَّسَمِ وَرَازِقِ الْقَسَمِ
ــ
[كشف الأسرار]
إلَى أَدَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَشَرَعْت فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُهِمِّ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ الْمُدْلَهِمِّ، مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ الْكَرِيمِ الْجَلِيلِ، رَاجِيًا مِنْهُ أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ، مُتَوَكِّلًا عَلَى كَرَمِهِ الشَّامِلِ فِي طَلَبِ التَّوْفِيقِ لِإِتْمَامِهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى إنْعَامِهِ الْعَامِّ فِي سُؤَالِ التَّيْسِيرِ لِابْتِدَائِهِ وَاخْتِتَامِهِ.
رَاغِبًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ مَا أُقَاسِيهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، مُتَعَوِّذًا بِهِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّانِي بِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ الْأَلِيمِ، مُبْتَهِلًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَحْفَظَنِي عَنْ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ، وَيُلْهِمَنِي طَرِيقَ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ، وَيَجْمَعَنِي وَإِيَّاهُمْ بِبَرَكَاتِ جَمْعِهِ فِي دَارِ السَّلَامِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ كَاشِفًا عَنْ غَوَامِضَ مُحْتَجِبَةٍ عَنْ الْأَبْصَارِ نَاسَبَ أَنْ سَمَّيْتُهُ كَشْفَ الْأَسْرَارِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ كِتَابًا سَبَقَ عَامَّةَ الشُّرُوحِ تَرْتِيبًا وَجَمَالًا، وَفَاقَ نَظَائِرَهُ تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ، عَرَفَ دَعْوَى الصِّدْقِ مِنْ الْخِلَافِ، ثُمَّ إنِّي، وَإِنْ لَمْ آلُ جُهْدًا فِي تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَتَرْتِيبِهِ، وَلَمْ أَدَّخِرْ جِدًّا فِي تَسْدِيدِهِ وَتَهْذِيبِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ عَثْرَةٌ وَزَلَلٌ، وَأَنْ يُوجَدَ فِيهِ خَطَأٌ وَخَطَلٌ، فَلَا يَتَعَجَّبُ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ وَلَا يَسْتَنْكِفُهُ بَشَرٌ وَقَدْ رَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ لَهُ إنِّي صَنَّفْت هَذِهِ الْكُتُبَ فَلَمْ آلُ فِيهَا الصَّوَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ عليه السلام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فَإِنِّي رَاجِعٌ عَنْهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيّ قَرَأْت كِتَابَ الرِّسَالَةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ثَمَانِينَ مَرَّةً فَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَكُنَّا نَقِفُ عَلَى خَطَإٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيهِ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ صَحِيحًا غَيْرَ كِتَابِهِ فَالْمَأْمُولُ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ جَانَبَ التَّعَصُّبَ وَالتَّعَسُّفَ وَنَبَذَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ التَّكَلُّفَ وَالتَّصَلُّفَ، أَنْ يَسْعَى فِي إصْلَاحِهِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، أَدَاءً لِحَقِّ الْأُخُوَّةِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِحْرَازًا لِحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَإِدْخَارًا لِجَزِيلِ الْمَثُوبَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُثِيبُ عَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ) عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيُّ سَتَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ وَغَفَرَ ذُنُوبَهُ.
حَدَّثَنِي بِهَذَا الْكِتَابِ شَيْخِي وَأُسْتَاذِي وَعَمِّي الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِسَرَخْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ الْمَلَكِيَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ أُسْتَاذُ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا مُظْهِرُ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّتَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَرْدَرِيُّ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى بَابِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَمِنْهُ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْقَرْمُ الْهُمَامُ بَدْرُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْكَرْدَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهُ رَاوِيًا عَنْ حَالِهِ هَذَا قَالَ حَدَّثَنَا شَيْخُ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ بُرْهَانُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الرِّشْدَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَمُقْتَدَى الْأُمَّةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُصَنِّفِ قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ النَّسَمِ وَرَازِقِ الْقَسَمِ) جَرَتْ سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِذِكْرِ الْحَمْدِ فِي أَوَائِلِ تَصَانِيفِهِمْ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنَّهُ مُعَنْوَنٌ بِهِ وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه السلام «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا يُقَالُ حَمِدْته عَلَى إنْعَامِهِ وَحَمِدْته عَلَى شَجَاعَتِهِ وَاللَّامُ فِيهِ لِاسْتِغْرَاقِ
مُبْدِعِ الْبَدَائِعِ وَشَارِعِ الشَّرَائِعِ دِينًا رَضِيًّا وَنُورًا مُضِيًّا
ــ
[كشف الأسرار]
الْجِنْسِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ أَيْ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ اسْمٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ يَجْرِي فِي وَصْفِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ غَيْرَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَلِهَذَا اخْتَصَّ الْحَمْدُ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَالْعَلَمِ لِلذَّاتِ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحَمْدِ إلَيْهِ إضَافَةً لَهُ إلَى جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ اخْتَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ حَيْثُ قَالَ عليه السلام «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَجْمِعٌ لِلصِّفَاتِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ التَّأْلِيفِ أَنْ يُوَافِقَ التَّحْمِيدُ مَضْمُونَهُ.
وَغَرَضُ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ بَيَانُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا قَالَ " خَالِقِ النَّسَمِ " إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النَّفْسِ لِتَعْرِفَ مَا شُرِعَ لَهَا مِثْلُ الْعُقُودِ وَمَا شُرِعَ عَلَيْهَا مِثْلُ الْوَاجِبَاتِ وَالْخَالِقُ هَهُنَا بِمَعْنَى الْإِيجَادِ وَالنَّسَمَةُ الْإِنْسَانُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالنَّسَمُ جَمْعُ نَسَمَةٍ وَفِي الْمُغْرِبِ النَّسَمَةُ النَّفْسُ مِنْ نَسَمَ الرِّيحُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ وَمِنْهَا أَعْتَقَ النَّسَمَةَ وَاَللَّهُ بَارِئُ النَّسَمِ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا إلَى الْعَطَاءِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ رَازِقِ الْقَسَمِ أَيْ مُعْطِي الْعَطَايَا، وَالرِّزْقُ الْعَطَاءُ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَوْلِك رَزَقَهُ اللَّهُ وَالْقَسَمُ جَمْعُ قِسْمَةٍ بِمَعْنَى الْقَسْمِ، وَهُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنْ الْخَيْرِ وَفِي ذِكْرِ الرِّزْقِ دُونَ الْإِعْطَاءِ لُطْفٌ، وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِلْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُفْرَضُ لِلْعُمَّالِ مِثْلُ الْمُقَاتِلَةِ وَالْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى كَسْبٍ وَعَمَلٍ فَكَانَ ذِكْرُ الرِّزْقِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً مِنْ ذِكْرِ الْعَطَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ صَنْعَةِ التَّرْصِيعِ.
قَوْلُهُ (مُبْدِعِ الْبَدَائِعِ وَشَارِعِ الشَّرَائِعِ) الْإِبْدَاعُ الِاخْتِرَاعُ لَا عَلَى مِثَالٍ وَالْبَدَائِعُ جَمْعُ بَدِيعٍ بِمَعْنَى مُبْتَدِعٍ أَيْ مُخْتَرِعِ الْمَوْجُودَاتِ بِلَا مَادَّةٍ وَمِثَالٍ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَحِكْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدُونِ الْوَاوِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ خَالِقِ النَّسَمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خَلْقَ مِثْلِ هَذَا الْمَوْجُودِ الَّذِي فِيهِ أُنْمُوذَجٌ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى قِيلَ هُوَ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبِ حِكْمَتِهِ ثُمَّ هَذَا الْجِنْسُ لَمَّا خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ شَتَّى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَهْوَاءٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا يَكَادُونَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى شَيْءٍ وَيَبْعَثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ هِمَّتَهُ إلَى مَا يَسْتَلِذُّ طَبْعُهُ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْعَاجِلِ إلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي وَفِي الْآجِلِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، شَرَعَ الشَّرَائِعَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَجَامِعًا لَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، وَالشَّرْعُ الْإِظْهَارُ وَشَرَعَ لَهُمْ كَذَا أَيْ بَيَّنَ وَالشَّرَائِعُ جَمْعُ شَرِيعَةٍ، وَهِيَ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ ضَمَّنَ الشَّارِعُ مَعْنَى الْجَعْلِ وَالتَّصْيِيرِ فَانْتَصَبَ دِينًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ جَاعِلُ الشَّرَائِعِ دِينًا رَضِيًّا أَوْ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الشَّرَائِعِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الصِّفَةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ كَمَا انْتَصَبَ قُرْآنًا عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت: 3] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِوَصْفٍ أَيْ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صَالِحًا وَالدِّينُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى الْخَيْرِ بِالذَّاتِ وَالرِّضَى الْمَرْضِيُّ وَوَصَفَهُ بِهِ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ عز وجل {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] أَيْ اخْتَرْته لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
وَذِكْرًا لِلْأَنَامِ وَمَطِيَّةً إلَى دَارِ السَّلَامِ أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى طَلَبِ الرِّضْوَانِ وَنَيْلِ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الشَّرَائِعِ مَشْرُوعَاتُ هَذِهِ الْمِلَّةِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ دِينًا عَلَى صِيغَةِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ عليهما السلام لَقِيلَ أَدْيَانًا رَضِيَّةً وَأَنْوَارًا مُضِيئَةً وَالنُّورُ لُغَةً اسْمٌ لِلْكَيْفِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْجِدَارِ وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنْ تَصِيرَ الْمَرْئِيَّاتُ بِسَبَبِهِ مُتَجَلِّيَةً مُنْكَشِفَةً وَلِذَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ تَسْمِيَةُ الدِّينِ نُورًا بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ لِلْبَصِيرَةِ كَمَا أَنَّ النُّورَ الْجُسْمَانِيَّ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْأَشْيَاءِ لِلْبَصَرِ وَالْإِضَاءَةُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٍ قَالَ النَّابِعَةَ الْجَعْدِيِّ:
أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا أَغَرَّ
…
مُلْتَبِسًا بِالْفُؤَادِ الْتِبَاسَا
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ
…
لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا
، فَاسْتَعْمَلَهُ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَاللُّزُومُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنْ النُّورِ وَأَتَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى الشَّمْسِ وَالنُّورُ إلَى الْقَمَرِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] ثُمَّ الشَّيْخُ وَصَفَ الدِّينَ بِالنُّورِ أَوَّلًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] أَيْ جَعَلْنَا الْإِيمَانَ نُورًا وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أَيْ دِينِهِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْإِضَاءَةِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَقِّ الْمُتَمَسِّكِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الْقَمَرِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ بِالتَّأَمُّلِ وَالِاسْتِدْلَالِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ ضَوْءَ الشَّمْسِ.
وَلِأَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا فِي ظُلْمَةٍ ظَلْمَاءَ قَبْلَ الْبَعْثِ فَكَانَ ظُهُورُ الدِّينِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ نُورِ الْقَمَرِ فِي الظُّلْمَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ثُمَّ ازْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِمَنْزِلَةِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ؛ فَلِهَذَا وَصَفَهُ بِهِمَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِنَارَةَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ بِهَذَيْنِ الْكَوْكَبَيْنِ فَوَصَفَهُ بِالنُّورِ وَالْإِضَاءَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَذِكْرًا لِلْأَنَامِ وَمَطِيَّةً إلَى دَارِ السَّلَامِ) الذِّكْرُ هَهُنَا الشَّرَفُ قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أَيْ شَرَفُكُمْ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] قِيلَ ذِي الشَّرَفِ وَالْأَنَامُ الْخَلْقُ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَالْمَطِيَّةُ الْمَرْكَبُ وَالْمِطَاءُ الظَّهْرُ، وَهَذَا الْكَلَامُ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمَطِيَّةَ وَسِيلَةٌ إلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصِدِ فَكَذَلِكَ الدِّينُ وَسِيلَةٌ إلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ دَارُ السَّلَامِ وَسُمِّيَتْ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِسَلَامَةِ أَهْلِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النِّعَمِ عَنْ الْآفَاتِ وَالْفِنَاءِ أَوْ لِكَثْرَةِ السَّلَامِ فِيهَا قَالَ تَعَالَى {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73]{سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأُضِيفَتْ الدَّارُ إلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهَا.
قَوْلُهُ (أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ) وَلَمَّا نَظَرَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي جَلَائِلِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَرَفَ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَفِي بِالْقِيَامِ بِمُوَاجَبِ حَمْدِهِ كَمَا هُوَ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ النَّجَاةِ لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ قَالَ أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى طَلَبِ الرِّضْوَانِ يَعْنِي أَحْمَدُهُ عَلَى حَسَبِ وُسْعِي وَطَاقَتِي وَبِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْمِيدِ لَا عَلَى حَسَبِ النِّعَمِ إذَا لَيْسَ ذَلِكَ وُسْعَ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ثُمَّ الْإِمْكَانُ أَعَمُّ مِنْ الْوُسْعِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ وَغَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ نَسْفَ الْجِبَالِ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ وَالْوُسْعُ رَاجِعٌ إلَى الْفَاعِلِ وَالْإِمْكَانُ إلَى الْمَحَلِّ وَخَصَّ طَلَبَ الرِّضْوَانِ أَيْ الرِّضَا بِالِاسْتِعَانَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا قَالَ تَعَالَى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ثُمَّ ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْخُطْبَةِ قَالَ عليه السلام «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ»