الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ هَذَا مُؤَدٍّ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ لَكِنَّهُ قَاضٍ بِاعْتِبَارِ فَرَاغِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلْفَهُ فَصَارَ قَاضِيًا لَمَّا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ بِمِثْلِهِ وَالْمِثْلُ بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْأَصْلَ فَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَصْلُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمِثْلُ.
فَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ حَتَّى وَجَدَ مِنْ الْمُقْتَدِي مَا يُوجِبُ إكْمَالَ صَلَاتِهِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِنِيَّةِ إقَامَتِهِ أَوْ بِدُخُولِ مِصْرِهِ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ وَجَدَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا اعْتَرَضَ هَذَا عَلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْقَضَاءُ كَمَا إذَا صَارَ قَضَاءً مَحْضًا بِالْفَوَاتِ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وَإِذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ بَطَلَ مَعْنَى الْقَضَاءِ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَدَاءِ فَتَغَيَّرَ بِالْمُغَيِّرِ لِقِيَامِ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي اللَّاحِقِ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَاضٍ لِمَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْجَمَاعَةِ
وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ إمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ فَكَمَا ذَكَرْنَا وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَمِثْلُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي تَغَيُّرِ صَلَاتِهِ وَصَلَاتُهُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّغَيُّرِ مَعَ وَصْفِ التَّبَعِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاتُهُ عَلَى خِلَافِ وَصْفِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الِابْتِدَاءِ فَجَازَ فِي الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا سَبَقَ وَأَثَرُ التَّغَيُّرِ يَظْهَرُ فِيهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِتَابِعٍ فِيهِ كَذَا فِي مَبْسُوطِ الشَّيْخِ رحمه الله (فَإِنْ قِيلَ) نِيَّةُ الْإِمَامِ إنَّمَا لَمْ تُعْتَبَرْ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ نِيَّتُهُ مُعْتَبَرَةً.
(قُلْنَا) الْمُقْتَدِي تَبَعٌ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ مِنْ الصَّلَاةِ حُكْمًا بِخُرُوجِ إمَامِهِ مِنْهَا كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ رحمه الله قَوْلُهُ (وَأَصْلُ ذَلِكَ، اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالْحُكْمِ عَلَى صِحَّةِ الْمَذْهَبِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ شِبْهِ الْقَضَاءِ فِي فِعْلِ اللَّاحِقِ) ، أَنَّ هَذَا أَيْ اللَّاحِقَ، وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ نَفْيٌ لِقَوْلِ زُفَرَ رحمه الله فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مُؤَدِّيًا خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً حَيْثُ جَعَلَ اللَّاحِقَ وَالْمُؤَدِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا، فَصَارَ أَيْ اللَّاحِقُ قَاضِيًا لِمَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ بِمِثْلِهِ الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِقَاضِي وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ نَوْعُ تَسَامُحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ؛ وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ نَفْسِهِ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَاتَهُ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَالْمُشَارَكَةَ لَمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِمَامِ جُعِلَ فِعْلُ الْإِمَامِ أَصْلًا، فَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَصْلُ أَيْ مَا دَامَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْأَدَاءُ لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ لَا يَتَغَيَّرُ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلْفُ الْأَدَاءِ وَالْخَلْفُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ، وَقَدْ تَمَّ هُنَا بَيَانُ الْأَصْلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ فَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ وَقَدْ وُجِدَ الْمُغَيَّرُ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي تَمَّتْ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ لِلْمُغَيِّرِ مِنْ الْعَمَلِ لِقَبُولِ الْأَصْلِ التَّغَيُّرَ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَاعْتِرَاضُ الْمُغَيِّرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ وَجَدَ الْمُغَيِّرُ أَوْ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْقَضَاءُ؛ وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمَسْبُوقِ تُخَالِفُ مَسْأَلَةَ التَّكَلُّمِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَوْلَاهُ فَقَوْلُهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّكَلُّمِ تُوَافِقُ مَسْأَلَةَ الْمَسْبُوقِ وَأَنَّهُمَا تُخَالِفَانِ مَسْأَلَةَ اللَّاحِقِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قِيلَ وَبِخِلَافِ بِالْوَاوِ لَاسْتَقَامَ الْمَعْنَى كَمَا اسْتَقَامَ بِدُونِهَا، وَكَانَ عَطْفًا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّكَلُّمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَلَّمَ وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَيْضًا
[الْقَضَاءُ نَوْعَانِ إمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ]
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ) أَيْ الْقَضَاءُ الْخَالِصُ نَوْعَانِ فَأَمَّا الَّذِي شَابَهَ مَعْنَى الْأَدَاءِ فَقِسْمٌ آخَرُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ الْمِثْلِ مَعْقُولًا وَغَيْرَ مَعْقُولٍ نَوْعَانِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْأَدَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ أَوْ غَيْرِ مَعْقُولٍ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُ بِالنَّظَرِ إلَى خُلُوصِهِ وَعَدَمِ خُلُوصِهِ لَا يَضُرُّ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ يُقَسَّمُ عَلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنَى ثُمَّ يُقَسَّمُ إلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا.
، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ قَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَقَضَاءٌ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ أَمَّا الْقَضَاءُ إلَى آخِرِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَرَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ (قَوْلُهُ فَمِثْلُ الْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ) فَإِنَّهَا شُرِعَتْ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَدَامِ عَنْ الصَّوْمِ لِعَجْزِ الشَّيْخِ الْفَانِي وَمَنْ بِحَالِهِ، وَالْفِدْيَةُ وَالْفِدَاءُ
وَثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا قِيَاسًا وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَنَفَقَةِ الْإِحْجَاجِ مُمَاثَلَةٌ بِوَجْهٍ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ
ــ
[كشف الأسرار]
الْبَدَلُ الَّذِي يَتَلَخَّصُ بِهِ عَنْ مَكْرُوهٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَثَوَابُ النَّفَقَةِ) أَيْ الْإِنْفَاقِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْجَاجَ عَنْ الْغَيْرِ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ مَشْرُوطٌ بِالْعَجْزِ الدَّائِمِ حَتَّى جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ إذَا لَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ فَإِنْ صَحَّ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤَدَّى تَطَوُّعٌ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي عَجْزِ الشَّيْخُوخَةِ وَأَنَّهَا دَائِمَةٌ لَازِمَةٌ وَلِأَنَّهُ فَرْضُ الْعُمْرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ عَجْزٌ يَسْتَغْرِقُ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لِيَقَعَ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ، وَفِي التَّطَوُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِالْعَجْزِ حَتَّى إنَّ صَحِيحَ الْبَدَنِ إذَا أَحَجَّ بِمَالِهِ رَجُلًا عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ عَنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى التَّوَسُّعِ.
ثُمَّ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ وَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْ الْآمِرِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَكِنْ لَهُ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْ الْآمِرِ الْحَجُّ إمَّا؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ سَبَبٌ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَأَدَاءِ الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ لِيُنْفِقَهُ الْحَاجُّ فِي الطَّرِيقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَهْلِيَّةَ النَّائِبِ لِصِحَّةِ الْأَفْعَالِ حَتَّى لَوْ أَمَرَ ذِمِّيًّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ لَشَرَطَ أَهْلِيَّتَهُ لَا أَهْلِيَّةَ النَّائِبِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ النِّيَابَةُ فِي الْأَفْعَالِ وَوَقَعَتْ عَنْ نَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْمَأْمُورِ فَرْضُ الْحَجِّ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَرْضُ الْحَجِّ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْآمِرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ تَشْهَدُ بِهِ فَإِنَّهُ «عليه السلام قَالَ لِسَائِلَةٍ، حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي» .
وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَشْهُورٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ الْحَجُّ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى الْحَجَّ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لَا الْإِنْفَاقُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ وَلَوْ أَنْفَقَ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَحُجَّ لَا يَسْقُطُ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْفِعْلِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا قَوْلُهُ وَثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ أُقِيمَ مُقَامَ الْفِعْلِ لَا الْإِنْفَاقِ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيَانُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ مَعَ كَوْنِهَا مَعْقُولَةً ظَاهِرًا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا جَعَلَ فِعْلَ نَفْسِهِ مِثْلًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لِحُصُولِ الْمَشَقَّةِ وَإِتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي كَحُصُولِهَا فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا فِعْلُ الْغَيْرِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَشَقَّةُ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ حَتَّى لَمْ تَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ الِابْنُ صَلَاةَ أَبِيهِ وَلَا صِيَامَهُ بِأَمْرِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمِثْلِيَّةُ مَعْقُولَةً بَيْنَهُمَا لَجَازَ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا فِي الْمَنْذُورَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ.
قَوْلُهُ (لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ وَهَذَا مُخْتَصَرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَثَبَتَ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ «الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ عليه السلام أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْك فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»
ــ
[كشف الأسرار]
أَمَّا عَدَمُهَا صُورَةً فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ إتْعَابُ النَّفْسِ بِالْكَفِّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ، وَمَعْنَى الْفِدْيَةِ تَنْقِيصُ الْمَالِ وَدَفْعُ حَاجَةِ الْغَيْرِ فَلَمْ يَكُنْ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ قِيَاسًا أَيْ رَأْيًا وَفِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الْمُمَاثَلَةَ لُطْفٌ وَرِعَايَةُ أَدَبٍ لَيْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَنَفَقَةِ الْإِحْجَاجِ مُمَاثَلَةٌ بِوَجْهٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ التَّفْرِقَةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ مُمَاثَلَةً وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا صَرَفَ طَعَامَ يَوْمٍ إلَى مِسْكِينٍ فَقَدْ مَنَعَ النَّفْسَ عَنْ الِارْتِفَاقِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ إلَى نَفْسِهِ حَظَّهَا مِنْ الطَّعَامِ يَوْمًا وَهَذَا مَعْنَى الصَّوْمِ وَلَمْ يَقُلْ الْمُمَاثَلَةَ بِوَجْهٍ عَنْ أَحَدٍ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ فَكَأَنَّ الشَّيْخَ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَنَفَاهُ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ.
وَقَوْلُهُ لَكِنَّا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْفِدْيَةُ مِثْلًا مَعْقُولًا لِلصَّوْمِ وَكَذَا الْإِنْفَاقُ لِلْحَجِّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْفِدْيَةُ بِالنَّصِّ قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] أَيْ وَعَلَى الْمُطِيقِينَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ إنْ أَفْطَرُوا، فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَنَا.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فُرِضَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ وَلَمْ يَتَعَوَّدُوهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَطُوقُونَهُ وَيُطِيقُونَهُ أَيْ يُكَلِّفُونَهُ عَلَى جَهْدٍ مِنْهُمْ وَعُسْرٍ وَهُمْ الشُّيُوخُ وَالْعَجَائِزُ وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ الْإِفْطَارُ وَالْفِدْيَةُ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى يُطِيقُونَهُ أَيْ يَصُومُونَهُ جَهْدَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ وَمَبْلَغَ وُسْعِهِمْ كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ أَيْ يُكَلَّفُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ، وَفِي قِرَاءَةِ حَفْصَةَ رضي الله عنها وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ وَقِيلَ هُوَ الشَّيْخُ الْفَانِي فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا فَإِنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا مُخْتَصَرٌ) أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] ، أَوْ وَهَذَا النَّصُّ مُخْتَصَرٌ أَيْ حُذِفَ عَنْهُ حَرْفُ لَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، بِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، أَوْ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ حُكْمَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَمَنْ بِمَعْنَاهُ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ بِدُونِ حَرْفِ لَا فَيَكُونُ مَحْذُوفًا لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ النَّصُّ مُخْتَصَرًا ضَرُورَةً.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ هَذَا النَّصُّ مُخْتَصَرٌ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ فَلَا يَصُومُونَ فَعَلَيْهِمْ فَدِيَةٌ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخْتَصَرٌ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ رَجَّحْنَا مَا ذَكَرْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهم قَوْلُهُ (وَثَبَتَ) أَيْ قِيَامُ الْإِنْفَاقِ مَقَامَ الْأَفْعَالِ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ وَالْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكْت أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ» قَالَ «وَقَالَ رَجُلٌ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَأَنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام، لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ يَسْقُطُ كَمَنْ نَقَصَ صَلَوَاتُهُ فِي أَرْكَانِهَا بِتَغْيِيرٍ
ــ
[كشف الأسرار]
أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِ نَفْسِهِ عَلَيْهَا وَضَبْطِهَا وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ.
أَفَيُجْزِئُنِي بِالْهَمْزِ أَيْ يَكْفِينِي عَمَّا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ.
أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْحَاءِ أَيْ أُحْرِمُ عَنْهُ بِنَفْسِي وَأُؤَدِّي الْأَفْعَالَ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَفْعَالِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ أَبَاهَا كَانَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْ أُحِجَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهِ، أَرَأَيْت أَيْ أَخْبِرِينِي وَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ لِلنَّظَرِ ثُمَّ صَارَ لِلْإِخْبَارِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إذَا لَمْ يَجِدُوا الضَّالَّةَ يَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَرَوْنَهُ أَرَأَيْت ضَالَّةَ كَذَا أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْهَا، أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك وَفِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ بِدُونِ كَلِمَةِ مَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نَعَمْ لَا يَسْتَقِيمُ جَوَابًا لِلْمَذْكُورِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ لِتَصْدِيقِ مَا سَبَقَ مِنْ الْكَلَامِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْمَذْكُورِ هَهُنَا نَعَمْ لَا يُقْبَلُ فَيُفْسِدُ الْمَعْنَى بَلْ جَوَابُهُ بَلَى؛ لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ لَكِنَّهُ يَسْتَقِيمُ جَوَابًا لِلْمَذْكُورِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَرَأَيْت فِي الْأَسْرَارِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يَجُوزُ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَحَقُّ أَيْ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ فَأَوْلَى بِكَرَمِهِ وَأَجْدَرُ بِرَأْفَتِهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ حَالَةَ الْعَجْزِ فِعْلَ الْغَيْرِ أَوْ الْإِنْفَاقَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَدَيْنُ اللَّهِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمَصَابِيحِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقَضَيْتِيهِ بِالْيَاءِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشْبَاعِ لِكَسْرَةِ التَّاءِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ.
قَالَ شَاعِرُهُمْ:
يَا أُمَّ عَمْرٍو لِمَ وَلَدْتِيهِ
…
مُعَمَّمًا بِالْكِبْرِ وَالتِّيهِ
لَيْتَكِ إذْ جِئْت بِهِ هَكَذَا
…
كَمَا بَذَرْتِيهِ أَكَلْتِيهِ
كَذَا فِي الْجَوَامِعِ الْجَمَادِيَّةِ.
قِيلَ وَفِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا كَانَ أَمَرَهَا بِالْحَجِّ حَيْثُ قَاسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبُولَ الْحَجِّ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ بِقَبُولِ الدَّيْنِ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ وَيَتَحَقَّقُ قَبُولُ الدَّيْنِ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَدَاءُ بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ إنْ امْتَنَعَ فِيهِ عَنْ الْقَبُولِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْهُ فَرَبُّ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ فِي الْقَبُولِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَبُولُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْأَمْرِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عليه السلام قَاسَ عَلَى الْعَادَةِ الْفَاشِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ دُيُونَهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَدْيُونِ أَوْ غَيْرِهِ تَبَرُّعًا أَوْ غَيْرَ تَبَرُّعٍ نَظَرًا مِنْهُمْ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِوَجْهٍ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) مُتَّصِلٌ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ أَيْ وَلِعَدَمِ تَصَرُّفِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نُدْرِكُهُ قُلْنَا إنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مِثْلُهُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمِثْلِ مُتَوَقِّفٌ إمَّا عَلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى السَّمْعِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا وَجْهَ إلَّا الْإِسْقَاطُ كَتَرْكِ الِاعْتِدَالِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ بِشَيْءٍ سِوَى الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَصْلِ مِثْلٌ عَقْلًا وَلَا نَصًّا.
وَقَوْلُهُ يَتَغَيَّرُ احْتِرَازٌ عَنْ نُقْصَانِ الرُّكْنِ نَفْسِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ نَقَصَ الصَّلَاةَ فِي أَرْكَانِهَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رضي الله عنهما فِيمَنْ أَدَّى فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زُيُوفًا عَنْ خَمْسَةِ جِيَادٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا يَسْتَقِيمُ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا صُورَةً وَلَا بِمِثْلِهَا قِيمَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فَسَقَطَ أَصَلًا وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَأَوْجَبَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ لَا يُقْضَى وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَاتٍ وَالْأُضْحِيَّةَ
ــ
[كشف الأسرار]
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ يَسْقُطُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا فِي الزَّكَاةِ مَكَانَ خَمْسَةٍ جِيَادٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، الْآيَةَ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ صَحَّ وَلَزِمَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ لِصَيْرُورَتِهِ صَدَقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصْفِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْفَوَاتُ مُنْفَرِدًا مِثْلٌ صُورَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَيَسْقُطُ أَصْلًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةِ زُيُوفٍ لَا يَصِحُّ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله.
وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَقِيمَتُهُ لِصِيَاغَتِهِ مِائَتَانِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ مَنْ قَالَ سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ لِلرِّبَا وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَامَلَ عِبَادَهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَاتَبِينَ أَوْ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْرَضَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ وَالرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الرِّبَا أَفَيُقْبَلُ مِنْكُمْ» ، وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعِبَادَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهَا تَتَقَوَّمُ فِي الْغُصُوبِ وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ حَتَّى لَوْ حَابَى بِهَا بِأَنْ بَاعَ قَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ لَمْ تُسَلَّمْ الْمُحَابَّات لِلْمُشْتَرِي وَكَذَا فِي تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ حَتَّى لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا جَيِّدًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِدِرْهَمٍ رَدِيءٍ لَا يَجُوزُ، وَغَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا وَهُوَ تَغَيُّرُ السِّعْرِ إلَى الزِّيَادَةِ اُعْتُبِرَ فِي ضَمَانِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقًّا قِيلَ إنَّ مَنْ أَخَذَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ إلَى زِيَادَةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ احْتِيَاطًا فَهَذَا أَوْلَى كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ.
1 -
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ أَنَّ الْجَوْدَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حُكْمِ الرِّبَا فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ لِيَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدِ كَالْوَارِثِ وَالصَّغِيرِ فَلَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَجْهٌ دُونَ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَقِيرَ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْغَنِيِّ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ إذْ قَدْرُ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْأَخْذِ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلْفَقِيرِ حَتَّى يَصِيرَ مُمَلِّكًا إيَّاهُ صَاحِبَ الْمَالِ بِمَا يَأْخُذُ بَلْ يَأْخُذُ صِلَةً لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْوَاجِبِ حَقُّ الْفَقِيرِ إنْ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُ حَتَّى صَارَ صَاحِبُ الْمَالِ ضَامِنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْحَقُّ مُلْحَقٌ بِالْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا الْوَاجِبَ مِنْهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قُلْنَا مَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ جِهَةِ الرِّبَا مَنْفَعَةٌ لِلْفَقِيرِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كَمَا إذَا أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةٍ زُيُوفٍ لَا يَجُوزُ وَمَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ الرِّبَا ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ لَا يُعْتَبَرُ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ لَا يُسَلِّمُ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِعَدَمِ الْمِثْلِ عَقْلًا وَنَصًّا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَأَخَوَاتِهِ لَا يُقْضَى (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ الدَّمَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَرْكِ
كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِنَصٍّ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْفِدْيَةَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا نَصٍّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ؟ قُلْنَا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الْفِدْيَةِ عَنْ الصَّوْمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ بَلْ أَهَمُّ مِنْهُ لَكِنَّا لَمْ نَعْقِلْ وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْلُولًا وَمَا لَا نُدْرِكُهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ أَمَرْنَاهُ بِالْفِدْيَةِ احْتِيَاطًا فَلَئِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فَقَدْ تَأَدَّى وَإِلَّا فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ثُمَّ لَمْ نَحْكُمْ بِجَوَازِهِ مِثْلَ مَا حَكَمْنَا بِهِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِهِ فِي الصَّوْمِ قَطْعًا وَرَجَوْنَا الْقَبُولَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ فَضْلًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الزِّيَادَاتِ فِي هَذَا يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا إذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْوَارِثُ فِي الصَّوْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
الرَّمْيِ (قُلْنَا) إيجَابُ الدَّمِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ لِلرَّمْيِ قَائِمٌ مَقَامَهُ بَلْ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ تَمَكُّنٍ فِي نُسُكِهِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ جَبْرًا لِنُقْصَانٍ لَا قَضَاءً بِمَا فَاتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا إذَا أَرَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا وَفِي الزِّيَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ كَذَا هَذَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مَعْقُولٌ وَلَزِمَ عَلَيْهِ إيجَابُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ أَيْ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عِنْدَ الْيَأْسِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْفِدْيَةَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا نَصٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُعْقَلُ؟ ، وَقَوْلُهُ بِلَا نَصٍّ حَالٌ عَنْ الْفِدْيَةِ أَيْ أَوْجَبْتُمُوهَا حَالَ كَوْنِهَا غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ قُلْنَا نَحْنُ لَا نُعَدِّي ذَلِكَ الْحُكْمَ بِالْقِيَاسِ وَلَا نُوجِبُهُ حَتْمًا لَكِنَّا نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَيْهِ.
وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِهِمَا وَلَا لِأَدَائِهِمَا بِالْمَالِ بَلْ أَهَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لِذَاتِهَا لِكَوْنِهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ بِوَاسِطَةِ قَهْرِ النَّفْسِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا وَجَبَ تَدَارُكُ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْفِدْيَةِ فَالصَّلَاةُ بِالتَّدَارُكِ أَوْلَى، يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْقُولًا وَمَا لَا نُدْرِكُهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ لِمُعَارِضَةِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي إيَّاهُ لَكِنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ لَمَّا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمَرْنَاهُ بِالْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعًا فَقَدْ صَارَ مُؤَدًّى وَإِلَّا فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ ح يَكُونُ بِرًّا مُبْتَدَأً يَصْلُحُ مَاحِيًا لِلسَّيِّئَاتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِالْقِيَاسِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ بِجَوَازِ الْفِدَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِثْلَ حُكْمِنَا بِجَوَازِهِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ فِي الصَّوْمِ قَطْعًا لِكَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِيهِ، وَرَجَوْنَا الْقَبُولَ أَيْ الْجَوَازَ فِي الصَّلَاةِ فَضْلًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي هَذَا أَيْ فِي فِدَاءِ الصَّلَاةِ يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي فِدَاءِ الصَّوْمِ فِيمَا إذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْوَارِثُ بِأَنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إيصَاءٍ بِالْفِدْيَةِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَمَا احْتَاجَ إلَى إلْحَاقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مِثْلَ الصَّوْمِ أَوْ أَهَمَّ مِنْهُ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى كَمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ.
لِأَنَّا نَقُولُ لَا بُدَّ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ كَوْنِ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ مَعْلُومًا سَوَاءٌ كَانَ التَّأْثِيرُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مَعْقُولًا كَالْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ الْمُكَيِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَهَا هُنَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالدَّلَالَةِ كَمَا لَا يُمْكِنُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَوَاتٌ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ أَوْ لَا يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا إذَا أَوْصَى بِالْفِدْيَةِ عَنْ الصَّلَاةِ
فَإِنْ قِيلَ فَالْأُضْحِيَّةُ لَا مِثْلَ لَهَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ قِيمَتِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ وَهُوَ نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
ــ
[كشف الأسرار]
فَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ بِهَا الْوَارِثُ قِيلَ لَا يُسْقِطُ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ مَعْدُومٌ أَصْلًا وَلِأَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْإِيصَاءِ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ كَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ.
وَقِيلَ تَسْقُطُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِيصَاءِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ وَهُوَ الرَّجَاءُ إلَى فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ يَشْمَلُ الْإِيصَاءَ وَالتَّبَرُّعَ جَمِيعًا يُوَضِّحُهُ ذُكِرَ فِي النَّوَازِلِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَقَدْ فَاتَتْهَا صَلَوَاتُ عَشَرِ أَشْهُرٍ وَلَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَقَالَ لَوْ اسْتَقْرَضَ وَرَثَتُهَا قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَدَفَعُوهَا إلَى مِسْكِينٍ ثُمَّ يَهَبُهَا الْمِسْكِينُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهَا يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّبَرُّعَ فِيهِ كَالْإِيصَاءِ.
وَقَدْ لَزِمَ الشَّيْخَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَتَصَدَّى لَهَا أَيْضًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ لَا مِثْلَ لِلْأُضْحِيَّةِ عَقْلًا وَلَا نَصًّا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الشَّاةُ الَّتِي عُيِّنَتْ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ الصَّادِرِ مِنْ الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بَاقِيَةً بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً أَوْ بِالْقِيمَةِ فِيمَا إذَا اُسْتُهْلِكَتْ الشَّاةُ الْمُعَيَّنَةُ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يُضَحِّ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ قُلْنَا: لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] وَقَوْلُهُ عليه السلام، «ضَحُّوا» .
وَغَيْرُ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ أَصْلًا فِي بَابِ التَّضْحِيَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ مُخَالَفَةُ هَوَى النَّفْسِ بِإِزَالَةِ الْمَحْبُوبِ مِنْ يَدِهِ يَحْصُلُ بِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ نَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إلَى الْإِرَاقَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَجْلِ تَطْبِيبِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْعِيدِ وَلِهَذَا كُرِهَ الْأَكْلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَوَّلَ مَا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ وَمِنْ عَادَةِ الْكَرِيمِ أَنْ يُضَيِّفَ بِأَطْيَبَ مَا عِنْدَهُ وَمَالُ الصَّدَقَةِ يَصِيرُ مِنْ الْأَوْسَاخِ لِإِزَالَتِهِ الذُّنُوبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] .
وَلِهَذَا حُرِّمَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَعَلَى مَنْ الْتَحَقَ بِهِ نَسَبًا لِكَرَامَتِهِمْ وَعَلَى الْغَنِيِّ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ فَلَا يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ الْمُطْلَقِ الْغَنِيِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْ يُضَيِّفَ عِبَادَهُ بِالطَّعَامِ الْخَبِيثِ، فَنَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ عَيْنِ الشَّاةِ إلَى الْإِرَاقَةِ لِيَنْتَقِلَ الْخُبْثُ إلَى الدِّمَاءِ فَتَبْقَى اللُّحُومُ طَيِّبَةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الضِّيَافَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِاسْتِوَاءِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ مَا بَيَّنَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّضْحِيَةِ أَصْلًا دُونَ التَّصَدُّقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِهَذَا الْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَنْصُوصِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، فَإِذَا فَاتَ الْمُتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ.
مَعَ الِاحْتِمَالِ أَيْ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا احْتِيَاطًا أَيْضًا يَعْنِي كَمَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَصْلًا لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مِثْلًا لَهَا قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ فِعْلُ التَّضْحِيَةِ أَوْ الذَّبْحِ (نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ) إلَى قَوْلِهِ فِي الْهِبَةِ مُعْتَرِضٌ فَنُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلًا ثُمَّ نَكْشِفُ الْغَرَضَ عَنْ إيرَادِهَا فَنَقُولُ إذَا وَهَبَ شَاةً لِرَجُلٍ فَضَحَّى الْمَوْهُوبُ لَهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهُ أَنْ
وَبِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِزَالَةِ التَّمَوُّلِ عَنْ الْبَاقِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْحِيَةِ أَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ أَمْ لَا فَنَقَلَ إلَى هَذَا تَطْبِيبًا لِلطَّعَامِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْعِيدِ بِالضِّيَافَةِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّضْحِيَةُ أَصْلًا فَلَمْ نَعْتَبِرْ هَذَا الْمَوْهُومَ فِي مُعَارَضَةِ الْمَنْصُوصِ الْمُتَيَقَّنِ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ مَعَ الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا أَيْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ الْعَامُ الْقَابِلُ لَمْ يَنْتَقِلْ الْحُكْمُ إلَى الْأُضْحِيَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
يَرْجِعَ فِيهَا وَيَجْزِيَهُ الْأُضْحِيَّةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ الْعَيْنِ وَالذَّبْحِ نُقْصَانٌ فِيهَا فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا بَقِيَ كَشَاةِ الْقَصَّابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَمْ تَقَعْ بِعَيْنِ الشَّاةِ بَلْ بِالْإِرَاقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا أُدِّيَتْ بِهِ الْقُرْبَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَالْمَذْبُوحُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ يَأْكُلُهُ وَيَضْمَنُ لَهُ مُسْتَهْلِكُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَيَبِيعُهُ فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْأَمْلَاكَ الْخَبِيثَةَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ بِهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَدَاءَ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِرَاقَةِ بَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ الدَّمِ عَلَى مَا لَوْ ذَبَحَ لَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْفَسْخُ وَنَظِيرُهُ وَهَبَ شَاتَيْنِ فَضَحَّى بِأَحَدَيْهِمَا وَأَكَلَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِي الْأُخْرَى أَوْ ذَبَحَ شَاةَ الْهِبَةِ وَبَاعَ جِلْدَهَا وَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِيمَا بَقِيَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْقُرْبَةَ كَمَا يَتَأَدَّى بِالدَّمِ يَتَأَدَّى بِأَجْزَاءِ الشَّاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ سَلَامَتَهَا مُعْتَبَرَةٌ لِلْجَوَازِ ابْتِدَاءً وَبَعْدَ الذَّبْحِ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهَا يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ بَقِيَ قُرْبَةً فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى حَيْثُ لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ بِمَا بَقِيَ لَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ سَائِرِ الْأَغْنَامِ فَتَأَدَّى الْقُرْبَةُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَبِإِبْطَالِ حَقِّ التَّمَوُّلِ مِنْ الْبَاقِي فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَمْ تَتَأَدَّ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ مَا أَدَّى مِنْ الْقُرْبَةِ بِالْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَالًا يُتَمَوَّلُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
فَمُحَمَّدٌ رحمه الله عَدَّ سُقُوطَ التَّمَوُّلِ نَقْصًا فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَاهُ أَثَرَ الْقُرْبَةِ.
ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ أَنَّ مَعْنَى التَّصَدُّقِ فِي النَّقْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ حَاصِلٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِإِيصَالِ مَنْفَعَتِهِ إلَى الْفَقِيرِ وَالتَّضْحِيَةَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِالْإِرَاقَةِ أَوْ التَّنْقِيصُ مَعَ إزَالَةِ التَّمَوُّلِ عَنْ الْبَاقِي فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نَوْعُ مُمَاثَلَةٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي شَرْح التَّقْوِيمِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ التَّمْلِيكِ إلَى الْإِرَاقَةِ فَثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ الْإِرَاقَةَ مُقَامَ التَّمْلِيكِ وَفِيهِ شُبْهَةُ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ الْقُرْبَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ شَاةً فَضَحَّى الْمَوْهُوبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ، فَدَلَّ أَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذَا ذَهَبَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ وَجَبَ التَّمْلِيكُ بِالشَّاةِ أَوْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ أَحَدَهُمَا مُقَامَ الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ جَوَابَ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا ثَبَتَ أَصَالَةُ التَّصَدُّقِ فِي التَّضْحِيَةِ بِمَا ذَكَرْتُمْ وَالنَّقْلِ إلَى الْإِرَاقَةِ لِمَعْنَى الضِّيَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالتَّصَدُّقِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَيْضًا كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِكَوْنِ الظُّهْرِ أَصْلًا فَأَجَابَ وَقَالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إرَاقَةُ الدَّمِ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى التَّصَدُّقِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالنَّصِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْمَوْهُومُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّ أَصَالَتَهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَيْضًا كَوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَابِلَ الْجُمُعَةَ قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ وُجُوبَ التَّصَدُّقِ.
كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي التَّضْحِيَةِ لَا أَنَّهُ مِثْلٌ لِلْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ،