الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَوْلَا اسْتِوَاؤُهُمَا وَقِيَامُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ.
وَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ
الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ
هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الشَّهِيدُ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا مَا قُلْنَا
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَمْ تُسَمِّ شَيْئًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْته إلَيْك مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ وَقَدْ خَالَفْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَفِي قَوْلِ الشَّيْخِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ إشَارَةً إلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي أَيُّهُمَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
فَزُفَرُ رحمه الله يَقُولُ الْإِذْنُ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَرَّبَهُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ كَالْمُعِيرِ مَعَ الْمُسْتَعِيرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِعَارَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُعِيرِ وَالْمُوَكِّلُ مَعَ الْوَكِيلِ إذَا اخْتَلَفَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مُقْتَضَى الْمُضَارَبَةِ الْعُمُومُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ لِلتَّصَرُّفِ إلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَصِحُّ وَيَمْلِكُ بِهِ جَمِيعَ التِّجَارَاتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ كَالْوَكَالَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومُ فَالْمُدَّعِي لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرُ يَدَّعِي تَخْصِيصًا زَائِدًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شَرْطًا زَائِدًا مِنْ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ.
قَوْلُهُ (وَلَوْلَا اسْتِوَاؤُهُمَا) أَيْ وَلَوْلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَوْ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ (لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ) أَيْ تَرْجِيحُ الْعُمُومِ هَهُنَا (بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ) وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ إذْ لَا تَرْجِيحَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِالْأَدْنَى لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْأَعْلَى وَلَا يُقَاوِمُهُ.
[الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ]
قَوْلُهُ (الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ) يَعْنِي الْعَامَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لِأَنَّهُمَا ظَنِّيَّانِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقَطْعِيِّ بِهِمَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَرُدُّوا كُلَّ حَدِيثٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَعُمَرُ رضي الله عنه رَدَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي الْمَبْتُوتَةِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَقَالَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَرَدَّتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها حَدِيثَ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَتَلَتْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أَوْرَدَ هَذَا كُلَّهُ الْجَصَّاصُ ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِهِ (وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الشَّهِيدُ) يَعْنِي الْحَاكِمَ أَبَا الْفَضْلِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السُّلَمِيُّ الْمَرْوَزِيِّ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَظَنِّي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَاضِيَ الشَّهِيدَ أَبَا نَصْرٍ الْمُحْسِنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْمُحْسِنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْخَالِدِيَّ الْمَرْوَزِيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْقَاضِي الشَّهِيدِ فَأَمَّا أَبُو الْفَضْلِ فَمَعْرُوفٌ بِالْحَاكِمِ الشَّهِيدِ (مَا قُلْنَا) وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ مِثْلُ الْخَاصِّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ قَطْعًا قَوْلُهُ.
(وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً قُلْنَا إلَى آخِرِهِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا لَا تَحِلُّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
الذَّبِيحَةُ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الْآيَةَ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ مِنْ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، وَالْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إنْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ الْأَكْلِ فَالْفِسْقُ أَكْلُ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ الْمَذْبُوحِ فَالْمَذْبُوحُ الَّذِي يُسَمَّى فِسْقًا فِي الشَّرْعِ يَكُونُ حَرَامًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَحِلُّ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لَا يُدْرَى يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا قَالَ اُذْكُرُوا أَنْتُمْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» .
قَالَ وَلَا مُتَمَسَّكَ لَكُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ النَّاسِيَ قَدْ خُصَّ مِنْهَا بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام «سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا فَقَالَ كُلُوهُ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» فَيُخَصُّ الْعَامِدُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ لِشُمُولِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ إيَّاهُمَا فَإِنَّ وُجُودَ التَّسْمِيَةِ فِي الْقَلْبِ حَالَةَ الْعَمْدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ أَوْ نَخُصُّهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ لَحِقَهَا خُصُوصٌ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِلذِّكْرِ بَلْ هُوَ ذَاكِرٌ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمِلَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَامَ الذِّكْرِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْعَجْزِ كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ حُكْمًا لَا يُثْبِتُ التَّخْصِيصَ فِي الْآيَةِ فَبَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعَ وَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا بَقِيَ تَحْتَ الْعَامِّ مَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ أَمَّا الْفَرْدُ الْوَاحِدُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ أَوْ الثَّلَاثَةِ فِي اسْمِ الْجَمْعِ وَهَهُنَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ النَّصِّ إلَّا حَالَةَ الْعَمْدِ فَلَوْ أُلْحِقَ الْعَمْدُ بِالنِّسْيَانِ لَمْ يَبْقَ النَّصُّ مَعْمُولًا بِهِ أَصْلًا فَيَكُونُ الْقِيَاسُ أَوْ خَبَرُ الْوَاحِدِ ح مُعَطِّلًا لِلنَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إلْحَاقُ الْعَامِدِ بِالنَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ عَاجِزٌ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ جَانٍ مُسْتَحَقٌّ لِلتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ فَإِثْبَاتُ التَّخْفِيفِ فِي حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ خَلَفًا عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ فِي حَقِّ الْعَامِدِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي الذَّبْحِ وَغَيْرِ الذَّبْحِ كَمَا أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الذِّكْرِ فِي الذَّبْحِ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ وَكَمَا فِي الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ إنَّمَا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ النَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ وَلِأَنَّ الْعَامِدَ مُعْرِضٌ عَنْ التَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسَمِّيًا حُكْمًا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَدَلِيلُهَا لِأَنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ الْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ وَإِنَّمَا أَفْتَى النَّبِيُّ عليه السلام بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَدَعُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ الْأَعْرَابِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَحِلَّ» كَذَا فِي
وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] عَامٌّ لَمْ يَلْحَقْهُ خُصُوصٌ لِأَنَّ النَّاسِيَ فِي مَعْنَى الذَّاكِرِ لِقِيَامِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] لَمْ يَلْحَقْهُ الْخُصُوصُ فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِالْآحَادِ وَالْقِيَاسِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْيَقِينِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُهُ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَبْسُوطِ (فَإِنْ قِيلَ) الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ إمَّا مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ أَوْ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَوْثَانِ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ أَوْ الْمَيْتَةُ وَالْمُنْخَنِقَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَأَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَأْكُلُهُ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} [الأنعام: 121] أَيْ لَيُوَسْوِسَونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يُجَادِلُونَهُمْ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَيَقُولُونَ إنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ لَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ.
وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وَإِنَّمَا يَكْفُرُ الْإِنْسَانُ إذَا أَطَاعَ الْكُفَّارَ فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ (قُلْنَا) الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا يَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَغَيْرَهُ وَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] قُلْنَا أَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ فِسْقٌ أَيْضًا حَتَّى إنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ يَفْسُقُ بِأَكْلِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَكِنْ مَنْ أَكَلَهُ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ إنَّمَا لَا يَفْسُقُ لِتَأْوِيلِهِ كَمَا لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي عَنْ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِ الْعَادِلِ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ مُتَأَوِّلًا قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] قُلْنَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ مُجَادَلَتُهُمْ فِي الْمَيْتَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ بِجَوَابٍ أَعَمَّ مِمَّا سَأَلُوا كَمَا هُوَ دَأْبُ التَّنْزِيلِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ عَلَى وَصْفٍ يَشْمَلُ الْمَيْتَةَ وَغَيْرَهَا وَهُوَ تَرْكُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِوَصْفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ كَالْمَيْتَةِ فَيَكُونُ الْآيَةُ بَيَانًا أَنَّ الْمَيْتَةَ حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مَتْرُوكَةَ التَّسْمِيَةِ وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْمَوْتِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى الْمَيِّتَةِ وَعَلَى ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لَا يَفْصِلُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ وَيُحَرِّمُ الْمَتْرُوكَ نَاسِيًا أَيْضًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم يَفْصِلَانِ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ إذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يُسْمَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] مُبَاحُ الدَّمِ بِرِدَّةٍ أَوْ زِنًا أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ قِصَاصٍ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَا يُقْتَلُ فِيهِ عِنْدَنَا وَلَا يُؤْذَى لِيَخْرُجَ وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُجَالَسُ وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يُضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ فَيُقْتَلَ خَارِجَ الْحُرُمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] عَلَّقَ الْأَمْنَ بِالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ صَارَ آمِنًا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَمْنُ إلَّا بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَغَيْرُ الْجَانِي لَيْسَ بِخَائِفٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْأَمْنِ فِي حَقِّهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّصَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْجَانِي فَيَثْبُتُ الْأَمْنُ فِي حَقِّهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يُقْتَلُ فِيهِ لِأَنَّ الْجَانِيَ قَدْ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَمَرَ بِقَتْلِ نَفَرٍ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ فَوَجَدُوهُ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَتَلُوهُ» .
وَقَوْلُهُ عليه السلام «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّرَفِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَدَخَلَ الْحَرَمَ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ أَدْوَنُ الْحَقَّيْنِ بِالْحَرَمِ فَأَعْلَاهُمَا أَوْلَى وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا أَنْشَأَ الْقَتْلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا إذَا الْتَجَأَ إلَيْهِ وَقَالَ وَمَعْنَى الْآيَةِ وَمَنْ حَجَّهُ فَدَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا أَوْ مِنْ النَّارِ فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ كَلَامِهِ وَقَالَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَامِّ بِالْآحَادِ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ خُصُوصٌ فَبَقِيَ قَطْعِيًّا فَلَا يُعَارِضُهُ الدَّلَائِلُ الظَّنِّيَّةُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْأَمْنِ لِلْجَانِي الدَّاخِلِ فِي الْحَرَمِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْبَارِزَ فِي دَخَلَهُ رَاجِعٌ إلَى الْبَيْتِ لَا إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا إذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي الْجَانِي إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ أَيْضًا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ يُفِيدُ الْأَمْنَ وَلَكِنَّ دُخُولَ الْحَرَمِ لَا يُفِيدُهُ فَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَصِيرُ آمِنًا بِالدُّخُولِ فِي الْبَيْتِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ فِي الْبَيْتِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَلْوِيثِهِ بَلْ يُؤْخَذُ وَيُخْرَجُ مِنْ الْبَيْتِ وَيُقْتَلُ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا يَصِيرُ آمِنًا بِالدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ بِالدُّخُولِ فِي الْحَرَمِ وَلَا يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ خَارِجَ الْبَيْتِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّا نَقُولُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ مَا قَامَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ وَتَعَبَّدَ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ يَقُومُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يُقَالُ أَيْضًا إنَّ الْبَيْتَ لَمَّا صَارَ مَأْمَنًا لَهُ صَارَ الْحَرَمُ مَأْمَنًا لَهُ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ حَرِيمِهِ لِأَنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ التَّبَعِ دُونَ حُرْمَةِ الْمَتْبُوعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْبَيْتِ مَأْمَنًا لِلْجَانِي أَنْ يَكُونَ الْحَرَمُ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْبَيْتِ قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ كَوْنُ الْحَرَمِ كَذَلِكَ.
وَمِنْ الطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ وُجُوبُهُ حَوْلَ الْحَرَمِ، وَمِنْ وُجُوبِ تَبْرِئَةِ الْبَيْتِ عَنْ النَّجَاسَاتِ وُجُوبُ تَبْرِئَةِ الْحَرَمِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ هَذَا كَذَا فِي طَرِيقَةِ الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ رحمه الله وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ صِفَةَ " الْأَمْنِ " تَعُمُّ الْبَيْتَ وَالْحَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وَقَالَ إخْبَارًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عليه السلام {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وَلِهَذَا ثَبَتَ الْأَمْنُ لِلصَّيْدِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ وَلَمَّا أَخَذَ الْحَرَمُ حُكْمَ الْبَيْتِ فِي الْأَمْنِ صَارَ الْبَيْتُ وَالْحَرَمُ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَى الْبَيْتِ مُتَنَاوِلًا لِلْحَرَمِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَقُلْ فِي حَرَمِهِ آيَاتٌ مَعَ أَنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ خَارِجَ الْبَيْتِ وَمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ هُوَ الْبَيْتُ بِاعْتِبَارِ عِبَادَتِهِ فِيهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] فَسَّرَ الْآيَاتِ بِمَقَامِ إبْرَاهِيمَ إذْ هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِآيَاتٍ وَلَيْسَ فِي كَوْنِ الْبَيْتِ مُتَعَبَّدًا لَهُ آيَةٌ بَلْ هِيَ ظُهُورُ أَثَرِ قَدَمِهِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ وَغَوْصُهُ فِيهَا إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ أَلْفَ سَنَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ آيَاتٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوا لَقِيلَ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ فَثَبَتَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصْلَ الطَّرَفِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْأَمْنُ ثَبَتَ لِلْأَنْفُسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل عمران: 97] يَتَنَاوَلُ الْأَنْفُسَ لَا الْأَطْرَافَ إلَّا أَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ فِيهَا تَبَعًا لِلنَّفْسِ حَتَّى لَمْ يُحِلَّ الْجِنَايَةَ عَلَى أَطْرَافِ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ