الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا
الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ
فَهُوَ كَغَيْرِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ إذَا ضُمِنَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ مِثْلًا غَيْرَ مَعْقُولٍ مِثْلُ النَّفْسِ تُضْمَنُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ وَالْمَالَ مَمْلُوكٌ فَلَا يَتَشَابَهَانِ بِوَجْهٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مِثْلًا عِنْدَ احْتِمَالِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِثْلُ الْأَوَّلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ إلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ أَقْرَبُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَاحِمَهُ مَا لَيْسَ بِمِثْلٍ
ــ
[كشف الأسرار]
الْعَمْدِ وَلَمَّا تَقَوَّمَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا فَيَثْبُتُ تَقَوُّمُهَا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ أَيْضًا، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ تَقَوُّمِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَكِنَّهَا تَقَوَّمَتْ بِالنَّصِّ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَى التَّقَوُّمِ حَاجَةٌ فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْإِبْضَاعِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] ، وَالْأَمْوَالُ إنَّمَا تُضَافُ إلَيْنَا بِوَاسِطَةِ الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمُ لِلْأَمْوَالِ فَثَبَتَ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ.
، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِغَاءُ إلَّا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بِشَرْطِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَالْمَشْرُوطُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْعُ جَوَّزَ الِابْتِغَاءَ بِالْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى رَعْيِ غَنَمِهَا سَنَةً جَازَ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ عليه السلام، {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْعَقْدِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَيْثُ صَحَّ الِابْتِغَاءُ بِهَا، وَبَطَلَتْ الْمُقَايَسَةُ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْعُدْوَانِ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ وَلَا فَضْلُهُ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ أَتْلَفَ ثَوْبَ إنْسَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْعُدْوَانِ فِي إيجَابِ أَصْلٍ وَلَا فَضْلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ]
قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ صُورَةً) وَهَذَا ظَاهِرٌ إذْ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْإِبِلِ أَوْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً، وَلَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ مُبْتَذِلٌ لِمَا سِوَاهُ وَالْمَالُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ لَهُ وَلَا تَسَاوِيَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ بَلْ هُمَا عَلَى التَّضَادِّ فِي الدَّرَجَةِ هَذَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمَالِ هُوَ مَا خُلِقَ الْمَالُ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِهِ وَمَعْنَى الْآدَمِيِّ هُوَ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالْخِلَافَةِ فِي أَرْضِهِ لِإِقَامَةِ حُقُوقِهِ وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ جُعِلَ مِثْلٌ لِمَالٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ صُورَةً بِتَسَاوِيهِمَا فِي قَدْرِ الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَذَا الْمُتْلِفُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ طَرِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مُنْسَدًّا، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ مَعْنًى عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرِ مَالِيَّتِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالنَّفْسِ قُلْنَا الْمَالُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الْمِثْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِثْلًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مَشْرُوعٌ مَعَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَنَا لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمَالِ إلَّا صُلْحًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ وَالْخِيَارُ إلَى الْوَلِيِّ فِي التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ عليه السلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ الْقَتْلَ وَإِنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَتْلِ شُرِعَ لِجَبْرِ حَقِّ الْمَقْتُولِ فِيمَا فَاتَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْفَوَاتَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ يَقَعُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ يَقْضِي بِهِ دُيُونَهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ أَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَارِثُ إذْ التَّشَفِّي يَحْصُلُ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْقِصَاصِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ بِخِلَافِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
نَفْعِ الْخَطَأِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ ضَمَانًا زَائِدًا لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي الصَّدْرِ نَظَرًا لِلْوَلِيِّ وَإِبْقَاءً لِلْحَيَاةِ فَشَرْعُهُ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ إسْقَاطُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَةِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَأَثْبَتْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَلَنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَضْمُونًا فَيَتَقَيَّدُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ مَا أَمْكَنَ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَتَفْوِيتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْمُتْلَفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْقِصَاصُ مِثْلٌ لَهُ صُورَةً؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَإِفَاتَةُ حَيَاةٍ كَالْأَوَّلِ، وَمَعْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إلَّا الِانْتِقَامُ وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الِانْتِقَامِ كَالْأَوَّلِ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا وَفِيهِ مُقَابَلَةُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، فَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ الْكَامِلِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى أَقْسَامِ الْقَضَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِالْفِدْيَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ الْكَامِلِ وَهُوَ الصَّوْمُ لِمَا ذَكَرْنَا.
(فَإِنْ قِيلَ) كَمَا أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْقِصَاصِ أَوْ النَّفْسِ فَكَذَا الْقَتْلُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْقَطْعِ مَعَ الْقَتْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ (قُلْنَا) الْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَأَمَّا الْقَتْلُ فَمِثْلٌ لِلْقَطْعِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمِثْلٌ لِلْقَطْعِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الِابْتِدَاءِ أَحَدَهُمَا إمَّا الْجَمْعُ أَوْ الِاقْتِصَارُ فَلَا يَكُونُ الِاقْتِصَارُ انْتِقَالًا عَنْ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ إلَى خَلَفِهِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ كَانَتْ خَلَفًا عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ دُونَ الدِّيَةِ الَّتِي لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَائِتِ بِوَجْهٍ فَيَكُونُ خِيَارُ الدِّيَةِ انْتِقَالًا عَنْ الْأَصْلِ إلَى الْخَلَفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي وَلِهَذَا جَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الْقِصَاصُ إلَى الْأَحْيَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الضَّمَانِ أَقْرَبُ.
بَيَانُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفَاتَ حَيَاةً فَيَكُونُ الْمِثْلُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ مَا يَنْجَبِرُ بِهِ الْفَائِتُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِإِتْلَافِ حَيَاةٍ تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةٌ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مَقَامَ الْقَتِيلِ وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ دُونَ إيجَابِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إفَاتَةَ الْحَيَاةِ مَضْمُونَةٌ بِمَا تَقُومُ مَقَامَهَا وَإِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى لَا مَالَ إذْ كُلُّ الدُّنْيَا لَا يُسَوَّى بِحَيَاةِ سَاعَةٍ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً لَنَا وَذَلِكَ فِي شَرْعِيَّتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ وَتَفَكَّرَ أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُنْ الْقِصَاصُ حَيَاةً لَهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتْلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَهُمْ يَخَافُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَاتُ الْمُتَغَلِّبَةِ فَمَتَى قَتَلُوهُ قِصَاصًا انْدَفَعَ عَنْهُمْ الشَّرُّ وَالْهَلَاكُ وَبَقِيَتْ حَيَاتُهُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْوَرَثَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى دَفْعَ الْهَلَاكِ مِنْ الْحَيِّ إحْيَاءً قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
فَيَكُونُ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةُ أَوْلَادِهِ وَفِي حَيَاتِهِمْ حَيَاةٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّجُلِ بِبَقَاءِ وَلَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَلِهَذَا يَسْعَى لِوَلَدِهِ كَمَا سَعَى لِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقِصَاصَ إلَى الْإِحْيَاءِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِ نَوْعَ قُرْبِ إلَى الْمَقْصُودِ إذْ بِوُجُوبِهِ قَدْ يَمْتَنِعُ الْقَاتِلُ عَنْ الْقَتْلِ وَبِاسْتِيفَائِهِ قَدْ يَمْتَنِعُ الْوَلِيُّ عَنْ انْتِقَامٍ لَكِنَّهُ دُونَ الْقِصَاصِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ
وَإِنَّمَا شُرِعَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ وَمِنَّةً عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ سَلَّمَتْ لَهُ نَفْسَهُ وَلِلْقَتِيلِ بِأَنْ لَمْ يُهْدَرْ حَقُّهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا نَحْنُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يُضْمَنُ لِوَلِيِّهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ عَلَى الْعَفْوِ أَوْ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى
ــ
[كشف الأسرار]
أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا شُرِعَ الْمَالُ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَالَ مِثْلٌ لِلنَّفْسِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَقَالَ إنَّمَا شُرِعَ الْمَالُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَجْلِ صِيَانَةِ الدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْخَطَرِ وَتَعَذُّرُ إيجَابِ الْقِصَاصِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجُوزُ مُؤَاخَذَةُ الْخَاطِئِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِ وَنَفْسُ الْمَقْتُولِ مُحْتَرَمَةٌ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهَا بِعُذْرِ الْخَاطِئِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْهَدَرِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْمَالَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ كَمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ لَهُ عَنْ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ مِثْلُ الصَّوْمِ، فَيَكُونُ فِي إيجَابِ الْمَالِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ سَلِمَتْ لَهُ نَفْسُهُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً وَمِنَّةً عَلَى الْمَقْتُولِ بِأَنْ لَمْ يُهْدَرْ حَقُّهُ بِإِيجَابِ شَيْءٍ يَقْضِي بِهِ حَوَائِجَهُ أَوْ حَوَائِجَ وَرَثَتِهِ مَعَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَعْذُورٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْخَطَأِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَمْدِ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ تَعَذُّرُ الْقِصَاصِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يَجِبُ الْمَالُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُهُ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْمَالُ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَجِبُ لِلْآخَرِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى فِي الْمُقَاتِلِ وَهُوَ أَنَّهُ أَحَيًّا بَعْضَ نَفْسِهِ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَوَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ، وَفِي لَفْظِ الشَّيْخِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا شُرِعَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ وَلَمْ يَقُلْ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ إذْ وُجُوبُ الْمَالِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحَالَةِ الْخَطَأِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلِهَذَا قَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ لِيَكُونَ شَامِلًا لِلصُّوَرِ جَمْعًا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ الْمَالُ مِثْلًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ قُلْنَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ لَمْ يَضْمَنُوا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ لَهُ.
1 -
وَكَذَا إذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ الدِّيَةَ كَالشَّاهِدِ، وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ وَحَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي تَرِكَتِهِ وَلَوْ عَفَا وَارِثُهُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ لِلْوَارِثِ كَالْقِصَاصِ وَحَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي تَرِكَتِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ شَيْئًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ أَيْضًا، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْوِفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ، لَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ مِلْكٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْوَلِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ جَمِيعُ الْمَالِ وَقَدْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَمَا تُضْمَنُ النَّفْسُ بِالْإِتْلَافِ حَالَةَ الْخَطَأِ وَكَذَا الْقَاتِلُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَقَّهُ الْمُتَقَوَّمَ فَيَضْمَنُ.
، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَالْأَسْرَارِ فَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا أَتْلَفَهُ ضِمْنًا لِإِتْلَافِ الْمَحَلِّ لَا قَصْدًا إلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ بِخِلَافِ
وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُهْدَرَ بَلْ حَسَنًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يُضْمَنُ بِالشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَبِقَتْلِ الْمَنْكُوحَةِ وَبِرِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ أَتْلَفَهُ قَصْدًا إلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ ضَرُورِيٌّ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ مِنْ حَيْثُ تَطَرُّقُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْمَمْلُوكِ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَتْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ.
، وَلَنَا أَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يُضْمَنُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ مِلْكُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَمِلْكُ حَيَاتِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْعِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ مِثْلًا إلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ فِي الصُّلْحِ الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الصُّلْحِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ وَحَاجَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ) جَوَابٌ عَنْ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ لِلْخَصْمِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِصِيَانَةِ الدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَمَا فِي الشَّهَادَةِ إرَاقَةُ دَمٍ لِيُصَانَ بِالضَّمَانِ بَلْ فِيهَا إبْطَالُ مِلْكِ الْقِصَاصِ بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ إهْدَارُهُ جَائِزًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ الْعَفْوُ بَلْ حَسَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] .
وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ حُكْمًا وَفِي الْعَفْوِ حَيَاةٌ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ لِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِهْدَارِ هَهُنَا عَدَمُ إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ) مُتَقَوِّمٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ قُلْنَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ مَهْرَ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مَنْكُوحَةَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ.
، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَغْرَمْ لِلزَّوْجِ شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَضْمَنُ لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَقَدْ فَوَّتَتْ عَلَيْهِ الْمِلْكَ بِالرِّدَّةِ كَمَا فَوَّتَ الشَّاهِدُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الِاعْتِقَادِ لَا فِي النِّكَاحِ قَصْدًا وَالشَّاهِدُ أَتْلَفَ بِالشَّهَادَةِ قَصْدًا، فَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ قَوْلَيْنِ، وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ إنْ وُجِدَتْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَهْرُهَا بِالدُّخُولِ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ وُجِدَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ نُظِرَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الزَّوْجِ ثُبُوتًا فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا عَلَيْهِ زَوَالًا؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ عَيْنُ الثَّابِتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَقَوُّمِهِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَمِلْكِ الْيَمِينِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يَجُوزُ اكْتِسَابُهُ بِلَا بَدَلٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَهْرٍ وَيَجِبُ بِالْفَاسِدِ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ يَجُوزُ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا لَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا بِالْعَقْدِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا الْمُعَاوَضَةُ لِإِقَامَةِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ مُقَامَ أَصْلِ الْقِيمَةِ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ
وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْمَالِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ تَعْظِيمًا لِخَطَرِهِ وَإِنَّمَا الْخَطَرُ لِلْمَمْلُوكِ فَأَمَّا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ فَلَا، حَتَّى صَحَّ إبْطَالُهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حُكْمُ التَّقَوُّمِ عِنْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ بَلْ إطْلَاقٌ لَهُ وَلَا يَلْزَمُ الشَّهَادَةَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ يُوجِبُ ضَمَانَ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْ قِيمَةً لِلْبُضْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُجِبْ مَهْرَ الْمِثْلِ تَامًّا
ــ
[كشف الأسرار]
بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَضْمَنُ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّيْءِ مَا شُرِعَ أَوْ خُلِقَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ وَمِلْكُ النِّكَاحِ شُرِعَ لِلسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَإِقَامَةِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّسْلِ وَإِبْقَاءِ الْعَالَمِ وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلَةً لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ فَأَنَّى يَتَمَاثَلَانِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ بِمَعْنَى تَفْرِيعِ الْآدَمِيِّ مِنْهُ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ مَعْنًى وَأَنَّهُ خَلْقُ مَالِكِ الْمَالِ وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلَةً مَمْلُوكًا لَهُ فَكَيْفَ يَتَشَابَهَانِ قَوْلُهُ.
(وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْمَالِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ ثُبُوتًا فَيَتَقَوَّمُ زَوَالًا فَقَالَ إنَّمَا الْمُتَقَوِّمُ عِنْدَ الثُّبُوتِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ لَا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَوُّمِهِ تَقَوُّمُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لِيَكُونَ مَصُونًا عَنْ الِابْتِذَالِ وَلَا يُمْتَلَكُ مَجَّانًا فَإِنَّ مَا يَتَمَلَّكُهُ الْمَرْءُ مَجَّانًا لَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ عِنْدَهُ وَذَلِكَ مَحَلٌّ لَهُ خَطَرٌ مِثْلُ خَطَرِ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَحْصُلُ مِنْهُ فَأَمَّا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِذِي خَطَرٍ وَلِهَذَا صَحَّ إزَالَتُهُ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا عِوَضٍ، وَلَا يُقَالُ عَدَمُ تَوَقُّفِهِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ حَالَةَ الْإِبْطَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ خَطِيرٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ الْمُتَقَوِّمَ بِلَا شَهَادَةٍ بِأَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ صَحَّ وَمَعَ هَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ إنْسَانٌ ضَمِنَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا ضَمِنَ ثَمَّةَ بِاعْتِبَارِ مَمْلُوكِهِ الَّذِي هُوَ مُتَقَوِّمٌ فِي ذَاتِهِ حَقِيقَةً لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ حَقِيقَةً فَلَا يَضْمَنُ قَوْلُهُ.
(وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْبُضْعِ لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ، لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَيْ لِلْبُضْعِ حُكْمَ التَّقَوُّمِ، عِنْدَ الزَّوَالِ أَيْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ أَوْ عِنْدَ زَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخَطَرِ لِلْمَحَلِّ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فَأَمَّا عِنْدَ زَوَالِ الِاسْتِيلَاءِ عَنْهُ وَإِطْلَاقِهِ فَلَا وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ الْأَبُ الصَّغِيرَ بِمَالِهِ يَصِحُّ وَلَوْ خَالَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ الشَّهَادَةَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الزَّوَالِ لَمَا ضَمِنَ الشُّهُودُ شَيْئًا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَدْ ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ عِنْدَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الزَّوَالِ أَيْضًا فَقَالَ الشَّيْخُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قِيمَةً لِمَا أَتْلَفُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ فَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ تَامًّا وَلَا يَغْرَمُونَهُ بَلْ يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِكَثِيرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِكَثِيرٍ فَلَوْ ضَمِنُوا بَدَلَ الْمُتْلَفِ لَمَا اُعْتُبِرَ نِصْفُ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي مَالٍ اشْتَرَاهُ الْإِنْسَانُ لَا يُعْتَبَرُ الثَّمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ.
، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ لُزُومِ نِصْفِ الْمُسَمَّى فَقَالَ لَكِنَّ الْمُسَمَّى إلَى آخِرِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ عَوْدَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ جَمِيعَ الصَّدَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الزَّوْجِ وَلَمْ تَكُنْ بِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ فَهُمْ بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ مَنَعُوا الْعِلَّةَ الْمُسْقِطَةَ مِنْ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَهَا فِي النِّصْفِ فَكَأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا الزَّوْجَ ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ كَأَنَّهُمْ فَوَّتُوا يَدَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفَ بَعْدَ فَوَاتِ تَسْلِيمِ الْبُضْعِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ فِي حَقِّهِ فَيَضْمَنُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الِابْنَ إذَا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَتَّى زَنَى بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَغْرَمُ الْأَبُ نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا تَصِيرُ الْفُرْقَةُ بِهِ مُضَافَةً إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهَا مَنَعَ صَيْرُورَةَ