الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي بَابِ الْقُرُوضِ تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ سَابِقًا
أَمَّا الْمِثْلُ الْقَاصِرُ فَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ إذَا انْقَطَعَ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحِقِّ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْحَقَّ فِي الصُّورَةِ قَدْ فَاتَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ بِهِ فَبَقِيَ الْمَعْنَى
ــ
[كشف الأسرار]
انْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ كَمَا انْتَفَى شَبَهُ الْوُجُوبِ وَبَقِيَ الْجَوَازُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَفِي بَابِ الْقُرُوضِ) إنَّمَا عَدَّ الشَّيْخُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي بَابِ الْقُرُوضِ مِنْ الْقَضَاءِ وَفِي بَابِ الدُّيُونِ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ رَدَّ عَيْنِ مَا قُبِضَ مُمْكِنٌ فِي الْقَرْضِ فَصَحَّ أَنْ يَجْعَلَ رَدَّ مِثْلِهِ قَضَاءً لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ تَصَوُّرُ الْأَصْلِ فَأَمَّا تَسْلِيمُ الدَّيْنِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ فِيهِ قَضَاءً لَهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَكَانَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ فِيهِ كَتَسْلِيمِ نَفْسِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ.
(فَإِنْ قِيلَ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْقَرْضِ قَضَاءً يُشْبِهُ الْأَدَاءَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَلِهَذَا كَانَ الْقَرْضُ فِي حُكْمِ الْإِعَارَةِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ فِيهِ التَّأْجِيلُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الدُّيُونِ.
(قُلْنَا) بَدَلُ الْقَرْضِ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمَقْبُوضِ ضَرُورَةَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَدَاءً كَذَلِكَ قِيلَ.
، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ شَبِيهًا بِالْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقْسَامِ الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ قَسَّمَ الْقَضَاءَ بِالْمِثْلِ الْمَعْقُولِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْقَضَاءِ الْمَحْضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَضَاءُ الْمَحْضُ وَغَيْرُ الْمَحْضِ قَوْلُهُ (تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ) جَبَرَ الْكَسْرَ جَبْرًا أَيْ أَصْلَحَهُ.
فَالْغَاصِبُ فَوَّتَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى فَالْجَبْرُ التَّامُّ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِأَدَاءِ مَالٍ مِنْ عِنْدِهِ هُوَ مِثْلٌ لِمَا فَوَّتَ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى يَقُومَ مَقَامَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ أَيْ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، سَابِقًا أَيْ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْأَصْلِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ نَفَاهُ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيصَالُ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَالِيَّةِ إلَيْهِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَمَالِيَّةُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وَتَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي اعْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَالَ عليه السلام، «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلِ» ، الْحَدِيثَ فَيَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَبْرُ كَمَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةَ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ وَفِي الْقِيمَةِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ فَكَانَ إيجَابُ الْمِثْلِ أَعْدَلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ " فح " يُصَارُ إلَى الْمِثْلِ الْقَاصِرِ وَهُوَ الْقِيمَةُ لِلضَّرُورَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ
[النَّوْع الثَّانِي قَاصِر]
قَوْلُهُ (فَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارَبِ، إذَا انْقَطَعَ مِثْلُهُ أَيْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْأَسْوَاقِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْحَيَوَانَاتِ وَالثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَضْمَنُ مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا مُعَدَّلًا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُمَا عَدَلَا قِيمَةً فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَفُوتُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ صُورَةً، وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها -
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا أَنَّهُ يُقْطَعُ ثُمَّ يُقْتَلُ إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ كَامِلٌ وَأَمَّا الْقَتْلُ الْمُنْفَرِدُ فَمِثْلٌ قَاصِرٌ
ــ
[كشف الأسرار]
كَسَرَتْ قَصْعَةً لِصَفِيَّةَ رضي الله عنها ثُمَّ جَاءَتْ بِقَصْعَةٍ مِثْلَ تِلْكَ الْقَصْعَةِ فَرَدَّتْهَا وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُثْمَانَ رضي الله عنه وَقَالَ إنَّ بَنِي عَمِّك عَدَوْا عَلَى إبِلِي فَقَطَعُوا أَلْبَانَهَا وَأَكَلُوا فِصْلَانَهَا، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَرَى أَنْ يَأْتِيَ هَذَا وَادِيَهُ فَيُعْطِي ثَمَّةَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِهِ وَفِصْلَانًا مِثْلَ فِصْلَانِهِ فَرَضِيَ بِهِ عُثْمَانُ.
وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدِ قَوْمٍ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ» إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ إذْ لَمْ يَقُلْ يَضْمَنُ مِثْلَهُ نِصْفَ عَبْدٍ آخَرَ وَبِأَنَّ ضَمَانَ التَّعَدِّي مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ خِلْقَةً فَتَعَذَّرَ فِيهَا رِعَايَةُ الصُّورَةِ إذْ لَوْ رُوعِيَتْ لَفَاتَتْ الْمُمَاثَلَةُ مَعْنًى فَوَجَبَ رِعَايَةُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تَفَاوُتَ فِيهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ خِلْقَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا رِعَايَةُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَاحِدًا مِنْهَا مُرَابَحَةً عَلَى دِرْهَمٍ لِعَدَمِ تَفَاوُتِ الْقُفْزَانِ وَبِمِثْلِهِ فِي الْعَبِيدِ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْوَاحِدِ مِنْ الْجُمْلَةِ قَطْعًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لَا عَلَى طَرِيقِ الضَّمَانِ فَقَدْ كَانَتْ الْقَصْعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَصْعَةَ كَانَتْ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانَ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِجِنَايَةِ بَنِي عَمِّهِ إلَّا أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمِّهِ لِفَرْطِ مَيْلِهِ إلَى أَقَارِبِهِ وَانْتِصَارِهِمْ بِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَصْلًا فِي الْبَابِ وَسَابِقًا عَلَى الْقَاصِرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى آخِرِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ شَخْصَيْنِ، وَأَمَّا إنْ كَانَا خَطَأَيْنِ أَوْ عَمْدَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُمَا جِنَايَتَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَكَذَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ، وَكَذَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً، وَإِنْ كَانَا خَطَأَيْنِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَالْقَتْلُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُمَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَا عَمْدَيْنِ فَهُمَا جِنَايَتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَجِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمَا، فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مُقَيَّدٌ بِالْعَمْدِ أَيْ قَطْعًا عَمْدًا، وَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْبُرْءِ أَيْ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ بُرْءِ الْيَدِ، أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ الشَّأْنِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ الْفِعْلُ وَفِي الْقَتْلِ بِدُونِ الْقَطْعِ مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ وَفِيهِ مَعَ الْقَطْعِ مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ وَصُورَةِ الْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَتَخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ صِيَانَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا صُورَةُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ
وَقَالَا بَلْ يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ فَصَارَ أَمْرُ الْجِنَايَةِ يَئُولُ إلَى الْقَتْلِ، وَقُلْنَا هَذَا هَكَذَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ فَوْقَ الْأَوَّلِ فَخَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْقِيمَةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ إلَّا يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ الْقَاصِرَ لَا يَصِيرُ مَشْرُوعًا مَعَ احْتِمَالِ الْأَصْلِ وَلَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّرْعِ عَلَيْنَا، وَقَالَا بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى السِّرَايَةِ فَإِذَا سَرَى سَقَطَ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَتْلًا وَالْفِعْلُ الثَّانِي هَهُنَا إتْمَامٌ لِمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَتَحْقِيقٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ بِعَيْنِهِ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالْبُرْءِ فَيَكُونُ الثَّانِيَةُ إنْشَاءَ جِنَايَةٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَطَأَيْنِ وَتَخَلَّلَ بُرْءٌ بَيْنَهُمَا تَجِبُ دِيَةٌ وَنِصْفٌ كَمَا لَوْ حَلَّا بِشَخْصَيْنِ.
وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى أَنْ يَصِيرَ بِالسِّرَايَةِ فِعْلًا مُضَافًا إلَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ الْمُوجِبُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ أَوْ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَإِيضَاحُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَا هَهُنَا وَقُلْنَا هَذَا أَيْ الْقَتْلُ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْبُرْءِ، هَكَذَا أَيْ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصُودِ فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ.
وَقَوْلُهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ نُفُوسًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ بَدَلُ الْفَائِتِ فَإِنَّ جَمَاعَةً لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا خَطَأً لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَهُنَا قَدْ تَعَدَّدَ الْفِعْلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْجَزَاءُ، قَوْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ مَاحِيًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وَالْقَتْلُ بِنَفْسِهِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ وَهُوَ إزْهَاقُ الرُّوحِ فَوْقَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَدٍّ إلَى الْإِزْهَاقِ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُهُ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْقَتْلِ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْقَاطِعِ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ مُحَقِّقًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، جَعَلَ الذَّكَاةَ قَاطِعَةً لِلسِّرَايَةِ وَإِلَّا لَمَا حَلَّ الْمُذَكَّى بَعْدَ جَرْحِ السَّبُعِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ تَارِكًا لِلتَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَجَرَحَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ وَذَكَّاهُ حَلَّ فَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَصْلُحُ مَاحِيًا كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا فَلِهَذَا خَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَصْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَابِقًا عَلَى الْقَاصِرِ قُلْنَا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْقَضَاءِ إذْ الْمِثْلُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَهُ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ إلَى مَجِيءٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمِثْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَدَاءِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ
إلَّا بِالْقَضَاءِ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ بِالْإِتْلَافِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَهَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ إعْرَاضًا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَلَيْسَ لِمَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ صِفَةُ التَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ وَالِاقْتِنَاءُ، وَالْإِعْرَاضُ لَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ
ــ
[كشف الأسرار]
عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله يَقُولُ لَمَّا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فَقَطْ اُلْتُحِقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ وَذَلِكَ الْغَصْبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَمُحَمَّدٌ رحمه الله يَقُولُ أَصْلُ الْغَصْبِ أَوْجَبَ الْمِثْلَ خَلَفًا عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَمَانَيْنِ وَلَكِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ إلَى آخِرِهِ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَوْ الْقَاصِرِ شَرْطًا فِي الْقَضَاءِ قُلْنَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِثْلِ لِلْمَنَافِعِ لَا كَامِلًا وَلَا قَاصِرًا، أَوْ مَعْنَاهُ وَلِكَوْنِ الْعَجْزِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ زَوْجَةَ إنْسَانٍ أَوْ وَلَدَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِلْعَجْزِ قُلْنَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْإِتْلَافِ لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ.
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا بِإِتْلَافٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُضْمَنُ بِهِمَا وَصُورَةُ الْغَصْبِ أَنْ يُمْسِكَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مُدَّةً وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا وَصُورَةُ الْإِتْلَافِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا بِأَنْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ أَوْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ أَوْ يَسْكُنَ الْبَيْتَ.
ثُمَّ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي زَوَائِدِ الْغَصْبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ هُوَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْمُبْطِلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِزَالَةُ فِي الزَّوَائِدِ لِحُدُوثِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ أَزْهَى زَوَائِدَ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَعِنْدَهُ هِيَ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ إلَّا إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الزَّوَائِدِ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَيْنِ.
فَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْإِتْلَافِ فَبِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمِثْلِ وَعَدَمِهَا لَا عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوَائِدَ تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ فَتَحَقَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِالْإِتْلَافِ احْتِرَازًا عَنْ الْغَصْبِ وَبِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي احْتِرَازًا عَنْ الْإِتْلَافِ بِالْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ، ثُمَّ مَنَافِعُ الْحُرِّ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا حَتَّى لَوْ اسْتَسْخَرَ حُرًّا وَاسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَغَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلٍ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ حَتَّى تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ تَحْتَ يَدِهِ وَلَا يَدَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَثِيَابِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ الْإِتْلَافِ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهَا أَمْوَالٌ بِدَلِيلِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ وَالْحُكْمِ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَيْفَ لَا وَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّحْقِيقِ تَقُومُ بِمَنَافِعِ الْأَشْيَاءِ لَا بِذَوَاتِهَا، وَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً وَمَالًا بِمَنَافِعِهَا، إذْ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَكَيْفَ يَسْقُطُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ عَنْهَا.
وَأَمَّا الْعُرْفُ فَلِأَنَّ الْأَسْوَاقَ إنَّمَا تَقُومُ بِالْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْحَجَرَ وَالْخَانَاتِ إنَّمَا بُنِيَتْ لِلتِّجَارَةِ وَقَدْ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْءُ جُمْلَةً وَيُؤَاجِرُ مُتَفَرِّقًا لِابْتِغَاءِ الرِّبْحِ كَمَا يَشْتَرِي جُمْلَةً وَيَبِيعُ مُتَفَرِّقًا.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهَا فِي الشَّرْعِ عُدْت أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً حَتَّى صَلُحَتْ مَهْرًا وَوَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَضُمِنَتْ بِالْمَالِ فِي الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ
إلَّا أَنْ يُثْبِتَ إحْرَازُهَا بِوِلَايَةِ الْعَقْدِ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ بَلْ يَثْبُتُ التَّقَوُّمُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ خَاصَّةً وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ ثَبَتَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْدُ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَلَا مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مُتَقَوِّمًا كَوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ إتْلَافُهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ إتْلَافٌ لِمَنَافِعِهِ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَلِعُلَمَائِنَا رحمهم الله فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْعَيْنِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا نَفْيُهَا بِنَفْيِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ أَصْلًا، وَثَانِيهِمَا بِإِثْبَاتِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَهُمَا، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَا بِمُتَقَوِّمَةٍ فَلَا تُضْمَن بِالْإِتْلَافِ بِالْمَالِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ وَالتَّمَوُّلُ عِبَارَةٌ عَنْ صِيَانَةِ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ لَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْإِتْلَافِ فَإِنَّ الْأَكْلَ لَا يُسَمَّى تَمَوُّلًا وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ بَلْ كَمَا تُوجَدُ تَتَلَاشَى فَكَيْفَ يَرِدُ عَلَيْهَا التَّمَوُّلَ، وَكَذَا التَّقَوُّمُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الضَّمَانِ وَمَبْنَاهُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْأَحْرَازَ كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَالْأَحْرَازُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا.
وَلَا يُقَالُ الْمَنَافِعُ تُوجَدُ مُحْرَزَةً ضَرُورَةً إحْرَازَ مَا قَامَتْ هِيَ بِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهَا يَكُونُ مُحْرَزَةً لِلْغَاصِبِ لَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَإِحْرَازُ الْغَاصِبِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَمَا فِي زَوَائِدِ الْغَصْبِ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْرَزَةً لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إحْرَازٌ ضِمْنِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْحَشِيشِ النَّابِتِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا ضِمْنًا لِإِحْرَازِ الْأَرْضِ.
وَعَلَى هَذَا نَقُولُ الْإِتْلَافُ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّ الْمَعْدُومَ وَلَا يَأْتِي مُقْتَرِنًا بِالْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُودُ وَإِنَّمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَهِيَ لَا تَبْقَى فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَيُحِلُّهُ الْإِتْلَافُ وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ الثَّانِي أَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ وَالْمَنَافِعُ وَإِنْ كَانَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ دُونَ الْأَعْيَانِ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا تُضْمَنُ بِالْأَعْيَانِ كَمَا لَا تُضْمَنُ الدُّيُونُ بِالْعَيْنِ وَالرَّدِيءُ بِالْجَيِّدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ تُقَوَّمُ بِنَفْسِهَا وَمَا يُقَوَّمُ بِغَيْرِهِ تَبَعٌ لَهُ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْمَتْبُوعِ ظَاهِرٌ.
وَكَذَا الْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالْعَيْنُ أَوْقَاتًا وَبَيْنَ مَا تَبْقَى وَبَيْنَ مَا لَا تَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ إذْ هُوَ اسْمٌ إضَافِيٌّ كَالْأَخِ وَالْعَيْنُ لَا تُضْمَنُ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ بِالْمَنْفَعَةِ قَطُّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ حَتَّى أَنَّ الْحَجَرَ فِي خَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَنْفَعَةُ أَحَدَيْهِمَا مِثْلًا لِمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْإِتْلَافِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ مِنْهَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَأَنْ لَا يَضْمَنَ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَيْنِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ أَوْلَى فَالشَّيْخُ رحمه الله أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَهَا إلَى آخِرِهِ إلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَبِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَا يَبْقَى إلَى آخِرِهِ إلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِمَا لَا يَبْقَى صِفَةُ التَّقَوُّمِ أَيْ وَلَيْسَ لِمَا لَا يَبْقَى صِفَةُ التَّقَوُّمِ حَقِيقَةً إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَتَقَوَّمُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ ثَبَتَتْ لَهَا صِفَةُ التَّقَوُّمِ فِي بَابِ الْعَقْدِ مَعَ اسْتِحَالَةِ إحْرَازِهَا حَقِيقَةً لِعَدَمِ بَقَائِهَا زَمَانَيْنِ فَجَازَ
وَهَذَا أَصَحُّ
ــ
[كشف الأسرار]
أَنْ تَثْبُتَ لَهَا هَذِهِ الصِّفَةُ فِي الْإِتْلَافِ أَيْضًا سَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ فَأَجَابَ أَنَّ إحْرَازَهَا وَتَقَوُّمَهَا فِي بَابِ الْعَقْدِ إنَّمَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ يَعْنِي لَمَّا جَازَ الْعَقْدُ شَرْعًا يَثْبُتُ الْإِحْرَازُ ضَرُورَةً بِنَاءً عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ وَقَدْ ثَبَتَ التَّقَوُّمُ لَهَا فِي غَيْرِ الْعَقْدِ أَيْضًا كَمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَجِبُ نِصْفُ الْعُقْرِ لِصَاحِبِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: مَنَافِعُ الْبُضْعِ الْتَحَقَتْ بِالْأَعْيَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ حُكْمًا، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُضْمَنُ بِالْعُقْرِ إذَا كَانَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عُدْوَانًا مَحْضًا فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْمُقَايَسَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْإِتْلَافِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ ثَبَتَ بِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى هَذَا الْعَقْدِ أَقَامَ الشَّرْعُ الْعَيْنَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَنَافِعِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا ثُمَّ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا فَيَثْبُتُ التَّقَوُّمُ لَهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ فِي الْعُدْوَانِ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً.
1 -
قَوْلُهُ (وَهَذَا أَصَحُّ) اعْلَمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله جَعَلَ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُضَافَةً إلَى مَحَالِّ أَحْكَامِهَا وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الدَّارِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَالَ الْعَقْدِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُقَدَّرِ عَلَى مِثَالِ الْحُكْمِ فِي الْمُحَقَّقِ فَأَنْزَلَ الْمَنَافِعَ مَوْجُودَةً تَحَرِّيًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَاعْتُبِرَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَتْ الْمَنْفَعَةُ بِذِكْرِهَا مَذْكُورَةً؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِهَا حَدَثَتْ لَهَا عَرْضِيَّةُ الْوُجُودِ وَصَارَ كَالنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ يُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْوَلَدِ الْحَيِّ بِاعْتِبَارِ الْعَرْضِيَّةِ.
وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُضَافٌ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ خَلَفًا عَنْ الْمَنَافِعِ فِي حَقِّ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى مَحَلٍّ فَصَارَ وُجُودُ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ بِحَقِّيَّتِهِ فِي بَيْعِ الْمَنَافِعِ إذْ لَا وُجُودَ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ وَلَا بَقَاءَ لَهَا بَعْدَ الْوُجُودِ فَأَقَمْنَا الدَّارَ مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ ثُمَّ بَعْدَمَا وُجِدَ اللَّفْظَانِ الْمُرْتَبِطَانِ وَصَارَا عِلَّةً لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ يَتَأَخَّرُ عَمَلُهُمَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً سَاعَةً فَسَاعَةً، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْهُمَا مُضَافًا إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ صَحَّ كَلَامًا وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْهُمَا إذْ الْعَقْدُ فَعَلَهُمَا وَلَا فِعْلَ يَصْدُرُ مِنْهُمَا سِوَى تَرْتِيبِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِيجَابِ ثُمَّ الِانْعِقَادُ حُكْمُ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لِكَلَامِهِمَا شَرْعًا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ الْعَقْدُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامَيْنِ يَتَرَتَّبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْعِقَادِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ رحمه الله.
فَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَالْحُكْمُ يَنْفُذُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ عَلَى مُعْتَقِدِ الْخَصْمِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا بِوِلَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي فَوَجَبَ بِنَاءُ التَّقَوُّمِ عَلَى التَّرَاضِي، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ يَعْتَمِدُ أَوْصَافَ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَيْهَا يَمْنَعُ التَّقَوُّمَ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَا يَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرْضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرْضِ الْقَائِمِ بِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فَلَمْ يَصْلُحْ مَثَلًا لَهُ مَعْنًى بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْعُدْوَانِ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ فَبُنِيَتْ عَلَى الْوُسْعِ وَالتَّرَاضِي
ــ
[كشف الأسرار]
الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَرُدُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَجَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ إلَى آخِرِهِ وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا وَمَا قُلْنَا إبْقَاءُ الْأَمْرِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ إلَى حِينِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلَهُ يَتَأَخَّرُ حُكْمُهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الثَّمَرَةِ لَا أَنَّهَا تُجْعَلُ مَوْجُودَةً، وَلِأَنَّ إقَامَةَ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي الشَّرْعِ أَمْرٌ شَائِعٌ كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّوْمِ مُقَامَ الْحَدَثِ وَالْبُلُوغِ مُقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَحَدَثِ الْمِلْكِ مُقَامَ شَغْلِ الرَّحِمِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَأَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ اسْتِمْرَارٌ مِثْلُ اسْتِمْرَارِ مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ مَا قُلْنَا أَصَحَّ وَقَوْلُهُ.
(أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ بِطَرِيقِ التَّوْضِيحِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَثْبُتُ وَصْفًا مُفَارِقًا بِهِ يُفْسِدُ الْقِيَاسَ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَفِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَصْفٌ يُفَارِقُ بِهِ الْمَقِيسَ وَهُوَ الرِّضَاءُ؛ لِأَنَّ لِلرِّضَاءِ أَثَرًا فِي إيجَابِ أَصْلِ الْمَالِ وَفَضْلِهِ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا ضَمَانُ الْعُدْوَانِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَوْصَافِ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَى أَوْصَافِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ عَدَمَ الضَّمَانِ هَهُنَا فَصَارَ هَذَا الْقِيَاسُ كَمَا قِيلَ مَسُّ الْفَرْجِ حَدَثٌ كَمَا إذَا مَسَّ وَبَالَ، وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا إنَّمَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا عَنْ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ التَّقَوُّمِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَتَقَوَّمَ الْمَنَافِعُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، فَأَمَّا إثْبَاتُ التَّقَوُّمِ وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّرَاضِي فَمَوْجُودٌ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بِخِلَافِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، ثُمَّ الِانْفِصَالُ عَنْ لُزُومِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا هُوَ أَنَّ التَّقَوُّمَ لَمَّا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْعَقْدِ لَا تَمَيُّزَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بَلْ يُؤْخَذُ حُكْمُ الْفَاسِدِ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَا يُجْعَلُ الْفَاسِدُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا عَرَضًا وَالْعَيْنُ تُقَوَّمُ بِنَفْسِهَا فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِهِ بَيْنَ مَا تَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرَضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِهِ أَيْ الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ قَوْلِهِ (تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله التَّفَاوُتُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوُجُودِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ نَحْوُ الْجُمْدِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهُ تُضْمَنُ الدَّرَاهِمُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يَبْقَى أَزْمِنَةً كَثِيرَةً وَالْجُمْدُ وَنَحْوُهُ لَا يَبْقَى فَكَذَا التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْبَقَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ الْوُجُودِ، فَأَجَابَ الشَّيْخُ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فَاحِشٌ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا فِي كُلِّ مَعْنًى فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ مِثْلٌ لِلْحَيَوَانِ فِي الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَهُنَا التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْمَالِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالِيَّةَ الْمَنَافِعِ لَا تُسَاوِي مَالِيَّةَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ وَالْمَالِيَّةُ صِفَةٌ لِلْمَوْجُودِ، فَإِذَا كَانَ
بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ يُبْطِلُهَا أَصْلًا وَاعْتِبَارُهُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ لَا يُبْطِلُهُ أَصْلًا بَلْ يُؤَخِّرُهُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ حُكْمًا لِعَجْزٍ نَابَهُ لَا لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِهْدَارُ التَّفَاوُتِ يُوجِبُ ضَرَرًا لَازِمًا لِلْغَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا شُرِعَ ضَرُورَةً.
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَوْجُودُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْبَقَاءِ كَيْفَ يَكُونُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِمَا مِثْلَ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ فَأَشْبَهَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ فِي مِقْدَارِ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى فِي زَمَانَيْنِ وَأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ إلَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنْهُ وَمِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُتْلِفِ وَبَدَلِهِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَالَ وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا حَالَ إقَامَةِ أَحَدِهِمَا مُقَامَ الْآخَرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا بِالْبَقَاءِ لِيَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ بِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فَأَمَّا الْبَقَاءُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ فَلَيْسَتْ مِنْ مُوجِبِ الْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ فَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلُهُ (بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا) .
(فَإِنْ قِيلَ) الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إهْدَارِ هَذَا التَّفَاوُتِ هَهُنَا أَيْضًا سَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ إذْ فِي اعْتِبَارِهِ انْفِتَاحُ بَابِ الظُّلْمِ وَتَضَيُّقُ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ (قُلْنَا) لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْت فَإِنَّ مِسَاسَ الْحَاجَةِ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا لَا فِيمَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ وَهُوَ الْعُدْوَانُ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَسَبِيلُهُ أَنْ لَا يُوجَدَ كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبْنَا لِلزَّجْرِ التَّعْزِيرَ وَالْحَبْسَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَعِنْدَنَا يَأْثَمُ وَيُؤَدَّبُ عَلَى مَا صَنَعَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا.
(فَإِنْ قِيلَ) فِي اعْتِبَارِ هَذَا التَّفَاوُتِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَالِكِ أَصْلًا وَفِي إهْدَارِهِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَاصِبِ وَصْفًا فَكَانَ تَرْجِيحُ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى كَيْفَ وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَالْغَاصِبُ ظَالِمٌ وَإِلْحَاقُ الْحَبْسِ بِالظَّالِمِ أَوْلَى (قُلْنَا) حَقُّ الْغَاصِبِ فِيمَا وَرَاءَ ظُلْمِهِ مُحْتَرَمٌ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَدَّرَ الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الضَّمَانِ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِانْتِصَافِ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ مَالِهِ فَلَا يَتَرَجَّحُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَقُّ الْغَاصِبِ يَفُوتُ وَصْفًا وَحَقُّ الْمَالِكِ يَفُوتُ أَصْلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ لَا يَفُوتُ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ نَحْوُ حَقِّ الشَّتْمِ وَالْأَذَى، فَأَمَّا حَقُّ الْغَاصِبِ فِي الْوَصْفِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الشَّرْعِ لَا تَوَصُّلَ إلَيْهِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ فَكَانَ تَأَخُّرُ الْأَصْلِ أَهْوَنَ مِنْ إبْطَالِ الْوَصْفِ.
يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَتْلَفَ كَانَ ظُلْمًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الشَّرْعُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّنَا وَهِيَ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمِثْلِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: " أَلَا تَرَى " تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ: " وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ " وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ وَبَقِيَ مُعْتَبَرًا لَأَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعُقُودِ أَصْلًا قَوْلُهُ (يُبْطِلُهَا أَصْلًا) أَيْ الْعُقُودَ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَرَى خَيْرِيَّةً فِي الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى جَانِبِهِ وَالْمُشْتَرِي كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ فَيَتَبَايَعَانِ طَلَبًا لِلْفَضْلِ الَّذِي رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ لِمَا ذَكَرَ.
وَقَدْ أَوْرَدْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَيْضًا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ " وَلَيْسَ إلَى التَّقَوُّمِ حَاجَةٌ؛ إذْ الِاسْتِبْدَالُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ التَّقَوُّمِ " مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَدْ تَقَوَّمَتْ فِي بَابِ الْعُقُودِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إذْ هِيَ تَنْدَفِعُ بِالِاسْتِبْدَالِ مِنْ غَيْرِ تَقَوُّمٍ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمٍ