الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْنُ سِيرِينَ نُسْخَةٌ وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُوجِبِ
(بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ) :
فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ
قَالَ بَعْضُهُمْ: صِيغَةُ الْأَمْرِ تُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ تَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا تُوجِبُهُ وَلَا تَحْتَمِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ وَقَالَ عَامَّةُ: مَشَايِخِنَا لَا تُوجِبُهُ وَلَا تَحْتَمِلُهُ بِكُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ وَيَحْتَمِلُهُ كُلَّهُ بِدَلِيلِهِ مِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك
ــ
[كشف الأسرار]
أَمْرُ نَدْبٍ حَتَّى قِيلَ يُسْتَحَبُّ الْقُعُودُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لِنَدْبِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إذَا انْصَرَفْت مِنْ الْجُمُعَةِ فَسَاوِمْ بِشَيْءٍ.؛ وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِهِ،
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ إنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِي حَاجَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَقْضِيهَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فِي شَرْحِ كِتَابِ الْكَسْبِ أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ فَقَالَ أَصْلُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] يَعْنِي الْكَسْبَ وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، قَالَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَالَ «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ هُوَ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] » الْآيَةُ وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ إنْ شِئْت فَاخْرُجْ؛ وَإِنْ شِئْت فَصَلِّ إلَى الْعَصْرِ وَإِنْ شِئْت فَاقْعُدْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُوجِبِ) أَيْ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصِّ الِاخْتِلَافُ فِي مُوجِبِ الْأَمْرِ فِي مَعْنَى التَّكْرَارِ قَدْ يَثْبُتُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْبَابَيْنِ أَنَّ الصِّيغَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْوُجُوبِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَلَا يَثْبُتُ بِغَيْرِهَا فَبَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْوُجُوبَ الْمُخْتَصَّ بِالصِّيغَةِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ أَمْ يُوجِبُ فِعْلًا وَاحِدًا خَاصًّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِهِ
[بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ]
(بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ)
فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ أَنَّ الْعُمُومَ هُوَ أَنْ يُوجِبَ اللَّفْظُ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ هُوَ الشُّمُولُ وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْعَالُ ثَلَاثَةً وَالتَّكْرَارُ أَنْ يُوجِبَ فِعْلًا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ فَصَاعِدًا وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلَيْنِ، وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ:" طَلَّقَ " الْعُمُومُ فِيهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جُمْلَةً وَالتَّكْرَارُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ.
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الدَّوَامُ وَأَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ إلَّا لَفْظَةُ الدَّوَامِ أَوْ التَّكْرَارِ، ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ التَّكْرَارِ هَهُنَا لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَوْدٌ عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهِ عَلَى التَّرَادُفِ وَهُوَ مَعْنَى الدَّوَامِ فِي الْأَفْعَالِ، وَفِي الْقَوَاطِعِ التَّكْرَارُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا وَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ يَعُودُ إلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ اخْتَلَفُوا فِي إفَادَتِهِ التَّكْرَارَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ التَّكْرَارَ الْمُسْتَوْعِبَ لِجَمِيعِ الْعُمْرِ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُحْكَى هَذَا عَنْ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُحْتَمَلِ أَنَّ الْمُوجِبَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَالْمُحْتَمَلَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهَا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ كَقَوْلِهِ
أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ عَلَى الثَّلَاثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ وَالْمَثْنَى وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْكُلَّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْفِعْلِ وَالْمُخْتَصَرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُطَوَّلُ سَوَاءٌ
ــ
[كشف الأسرار]
تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا احْتَمَلَ التَّكْرَارَ عِنْدَهُمْ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فِي ذَاتِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي إثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ لَفْظَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ؛ وَإِنَّمَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا وَلَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ.
، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبِ عُلَمَائِنَا رحمهم الله هَكَذَا قِيلَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مُحْتَمَلًا لِلتَّكْرَارِ وَالْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ يَحْتَمِلُهُ أَوْ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ عَيْنُ الْمُطْلَقِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ الْمُطْلَقِ التَّكْرَارَ عَدَمُ احْتِمَالِ الْمُقَيَّدِ إيَّاهُ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا وَيَحْتَمِلُ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ مُعَلَّقًا كَانَ أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْأَمْرِ وَلَا بِمُحْتَمِلٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ مُوجِبِهِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ) أَيْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ طَلِّقْ امْرَأَتِي؛ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيُشِيرَ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَمْلِيكًا وَتَفْوِيضًا حَتَّى اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالثَّانِي تَوْكِيلٌ مَحْضٌ حَتَّى لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَمْلِكَ الرُّجُوعَ وَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ قَوْلُهُ (وَاقِعٌ عَلَى الثَّلَاثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ) وَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَالْعُمُومَ عِنْدَهُمْ فَتَمْلِكُ هِيَ أَوْ هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا جُمْلَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ شَيْئًا أَوْ نَوَى ثَلَاثًا فَأَمَّا إذَا نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا نَوَى عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ التَّكْرَارَ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ وَالنِّيَّةُ دَلِيلٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ؛ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَعَلَى مَا نَوَى.
؛ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَعْنَ جَمِيعًا؛ وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ مَا لَمْ يَنْعَزِلْ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (لَفْظُ الْآمِرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ) الْبَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ، وَاللَّامُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَلُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ الْآمِرُ أَوْ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ، وَاَلَّذِي صِفَةُ الْمَصْدَرِ أَيْ لَفْظُ الْأَمْرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِمَصْدَرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ اضْرِبْ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِك أَطْلُبُ مِنْك الضَّرْبَ وَانْصُرْ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِك أَطْلُبُ مِنْك النَّصْرَ كَمَا أَنَّ ضَرْبَ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِعْلُ الضَّرْبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُخْتَصَرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُطَوَّلُ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ، فَإِنَّ قَوْلَك هَذَا جَوْهَرٌ مُضِيءٌ مُحْرِقٌ وَقَوْلُك هَذَا نَارٌ سَوَاءٌ وَقَوْلُك هَذَا شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ، وَقَدْ غَلَى وَاشْتَدَّ
وَاسْمُ الْفِعْلِ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمَصْدَرَ اسْمٌ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَأَوْجَبَ الْخُصُوصَ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ أَلَا تَرَى أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ عَدَدٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا أَوْ لِلْأَبَدِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى التَّكْرَارَ بِحَدِيثِ «الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ قَالَ فِي الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ عليه السلام بَلْ لِلْأَبَدِ» فَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ لَمَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَعَ قَوْلِك هَذَا خَمْرٌ سَوَاءٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اضْرِبْ وَأَطْلُبُ مِنْك الضَّرْبَ سَوَاءٌ، وَاسْمُ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَيْ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ لِوُجُودِ حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِهِ أَيْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِجِنْسِ الْفِعْلِ لَا لِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَالْأَصْلُ فِي الْجِنْسِ الْعُمُومُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ وَاجِبٌ كَمَا فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَاعْتَبَرُوا الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ فَقَالُوا النَّهْيُ فِي طَلَبِ الْكَفِّ عَنْ الْفِعْلِ مِثْلُ الْأَمْرِ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الدَّوَامَ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْفِعْلَ مَرَّةً ثُمَّ فَعَلَهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلنَّهْيِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يُوجِبُهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَمْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى الْفِعْلُ مَرَّةً وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَيْهِ النَّسْخُ.
وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُؤَدِّي إلَى الْبَدَاءِ إذْ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَقَبِيحًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ فَيَقْتَضِي الْمَصْدَرَ غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ مَصْدَرٌ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَبِالْمُنْكَرِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَكِنَّهَا تَقْبَلُ الْعُمُومَ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ يَقْبَلُ الْعُمُومَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] وَصَفَ الثُّبُورَ بِالْكَثْرَةِ وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ وَصْفُ الثُّبُورِ بِهَا، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِي النَّهْيِ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ ضَرُورَةً لِمَا عُرِفَ فَأَمَّا هَهُنَا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَتَخُصُّ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَأَمَّا صِحَّةُ النَّسْخِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ فَلِأَنَّ وُرُودَهُمَا عَلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِك مَا رَأَيْت الْيَوْمَ إلَّا زَيْدًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إنْسَانٌ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ، «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» فَسُؤَالُهُ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ عليه السلام «وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَقْرَعِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْوَاوِ لَكَانَ أَحْسَنَ.
وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الدُّلُوكِ لِتَقَيُّدِهِ بِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام «، أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَقَوْلُهُ «، فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» إذْ مَعْنَاهُ أَدُّوا عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ، وَبِأَنَّ الشَّرْطَ كَالْعِلَّةِ فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ مِثْلُ مَا إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْمَعْلُولُ بَلْ أَقْوَى مِنْهَا الِانْتِفَاءُ الْمَشْرُوطُ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْعِلَّةِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، فَكَذَا
وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ صِيغَةٌ اُخْتُصِرَتْ لِمَعْنَاهَا مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ لَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ فَرْدٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمَصَادِرِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ طَلِّقِي أَيْ أَوْقِعِي طَلَاقًا أَوْ افْعَلِي تَطْلِيقًا أَوْ التَّطْلِيقَ وَهُمَا اسْمَانِ فَرْدَانِ لَيْسَا بِصِيغَتَيْ جَمْعٍ وَلَا عَدَدٍ وَبَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ تَنَافٍ وَكَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ مَعْنَى الْفَرْدِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْفَرْدُ مَعْنَى الْعَدَدِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِك اضْرِبْ أَيْ اكْتَسِبْ ضَرْبًا أَوْ الضَّرْبَ، وَهُوَ فَرْدٌ بِمَنْزِلَةِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ فَالْبَعْضُ مِنْهُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّهُ فَرْدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ادَّعَى التَّكْرَارَ وَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْعُمُومِ بِحَدِيثِ الْأَقْرَعِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِطَرِيقَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مُوجِبُهُ الْمَرَّةَ وَلَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ لُغَةً لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لِسُؤَالِهِ مَعْنَى كَمَا لَوْ قَالَ حُجُّوا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ الْمَرَّةَ لَيْسَتْ بِمُقْتَضَاهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَاهُ التَّكْرَارَ ضَرُورَةً اتِّفَاقُنَا عَلَى أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِبُهُ التَّكْرَارَ لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ حُجُّوا كُلَّ عَامٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ التَّكْرَارُ وَلَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ أَنَّ الْحَرَجَ فِيهِ مَنْفِيٌّ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مُوجِبِهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ سَأَلَ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمَّا عَرَفَ وَجْهَ إشْكَالِهِ كَيْفَ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ «وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، إلَى انْتِفَاءِ التَّكْرَارِ لِضَرُورَةِ لُزُومِ الْحَرَجِ، وَإِلَّا كَانَ مُوجِبُهُ التَّكْرَارَ، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْوَجْهَيْنِ لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ اللَّفْظِ إذَا كَانَ وَاحِدًا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى السَّامِعِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَمَا احْتَمَلَهُمَا وَالتَّكْرَارُ مِنْ الْمَرَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ مِنْ الْخُصُوصِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ قَوْلُهُ.
(وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اخْتَصَرَتْ لِمَعْنَاهَا مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ) وَلَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ فَرْدٌ سَوَاءٌ قَدَّرْته مُعَرَّفًا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ مُنَكَّرًا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَطْلِيقًا أَوْ التَّطْلِيقُ وَبَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ تَنَافٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ مَا لَا ثُلُثَ فِيهِ وَالْعَدَدُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ الْأَفْرَادِ وَالتَّرَكُّبُ وَعَدَمُهُ مُتَنَافِيَانِ فَكَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ مَعْنَى الْفَرْدِ مَعَ أَنَّ الْفَرْدَ مَوْجُودٌ فِي الْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَرْدُ مَعْنَى الْعَدَدِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ أَصْلًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى عَدَدٍ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالضَّرْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى خَمْسِ ضَرَبَاتٍ أَوْ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ وَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى مُطْلَقِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ مُتَّصِلٌ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ لَفْظُ الْأَمْرِ صِيغَةٌ اُخْتُصِرَتْ إلَى قَوْلِهِ فَرْدٌ، وَقَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَلَفْظِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْمُفْرَدِ أَيْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي صِيغَتُهَا صِيغَةُ فَرْدٍ، وَالْمَصَادِرُ أَيْ سَائِرُ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَفْعَالُ مِثْلُ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ فَرْدٌ مُعْتَرَضٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ أَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ التَّكْرَارَ، وَأَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ اسْمِ الْجِنْسِ عَامًّا أَوْ قَابِلًا لِلْعُمُومِ عَلَى مَا زَعَمَهُ الْخُصُومُ؛ وَلِهَذَا قَالَ وَهُمَا أَيْ تَطْلِيقًا وَالتَّطْلِيقُ اسْمَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَا بِصِيغَتَيْ جَمْعٍ وَلَا عَدَدٍ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ) عَطْفٌ عَلَى النَّظِيرِ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ طَلِّقِي الْأَمْرُ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ لَفْظُ فَرْدٍ لَا اسْمُ عَدَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ كَوْنَ الْمَصْدَرِ الْمُنَكَّرِ أَوْ الْمُعَرَّفِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ فَرْدًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِقَوْلِهِ طَلِّقِي بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوَامِرِ.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ اسْمُ جِنْسٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْدًا غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلْعَدَدِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ بِلَا شُبْهَةٍ كَمَا لَا يَصِحُّ
وَأَمَّا الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ فَلَيْسَتْ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَجْزَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَكِنَّهَا فَرْدٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَصَارَتْ مِنْ طَرِيقِ الْجِنْسِ وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا عَدَدْت الْأَجْنَاسَ كَانَ هَذَا بِأَجْزَائِهِ وَاحِدًا.
فَكَانَ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسٌ، وَلَهُ أَبْعَاضٌ كَالْإِنْسَانِ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ، وَلَكِنَّهُ ذُو أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَصَارَ هَذَا الِاسْمُ الْفَرْدُ وَاقِعًا عَلَى الْكُلِّ بِصِفَةِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْأَقَلَّ فَرْدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْمِ الْفَرْدِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ وَالْآخَرُ مُحْتَمَلًا فَأَمَّا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ فَعَدَدٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَحْتَمِلْهُ الْفَرْدُ
ــ
[كشف الأسرار]
نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ عِنْدَكُمْ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ فَرْدًا اسْمُ جِنْسٍ وَأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى لِلتَّيَقُّنِ بِفَرْدِيَّتِهِ وَيَحْتَمِلُ كُلَّهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُتَعَدِّدًا فَإِنَّك إذَا عَدَّدْت الْأَجْنَاسَ وَقُلْت أَجْنَاسُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ، وَكَذَا وَكَذَا.
كَانَ هَذَا أَيْ الطَّلَاقُ مَعَ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَاحِدًا مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوَحْدَةِ فَيُقَالُ الطَّلَاقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْحَيَوَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا يَقْدَحُ كَوْنُهُ ذَا أَجْزَاءٍ فِي الْخَارِجِ فِي تَوَحُّدِهِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ فَرْدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْكُلِّ وَالْأَقَلِّ، فَلَيْسَ بِفَرْدٍ بِوَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لِتَعْيِينِ مُحْتَمِلِ اللَّفْظِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَقَوْلُهُ كَالْإِنْسَانِ فَرْدُ آخِرِهِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ أَيْ أَفْرَادٍ فِي الْخَارِجِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي هُوَ فِي الْخَارِجِ وَاحِدٌ كَزَيْدٍ مَثَلًا فَرْدٌ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ فِي نَفْسِهِ أَيْ أَطْرَافٍ وَأَعْضَاءٍ كَالرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنْسٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ ثُلِّثَ، فَصَارَ هَذَا الِاسْمُ الْفَرْدُ أَيْ الطَّلَاقُ أَوْ اسْمُ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَلَا تَعْمَلُ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ الْكَلَامِ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا احْتِرَازًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ وَقَوْلُهُ وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى احْتِرَازًا عَمَّا سَنَذْكُرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا صِيغَةً أَوْ دَلَالَةً أَيْ مَا بَيْنَ الْكُلِّ وَالْأَقَلِّ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً كَالْأَقَلِّ إذْ هُوَ مُتَعَدِّدٌ، وَلَا حُكْمًا كَالْكُلِّ إذْ هُوَ دُونَهُ، وَلَا صُورَةً أَيْ صِيغَةً كَمَاءٍ أَوْ الْمَاءُ فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَلَا مَعْنًى كَالنِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ اللَّامِ، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَلَوْ قَرَنَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لَاسْتَقَامَ) كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَتْ الْمَرَّةُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ، وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ صُمْ أَبَدًا أَوْ أَيَّامًا كَثِيرَةً قُلْنَا هَذَا الْقِرَانُ لَمْ يَصِحَّ لُغَةً عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِلْمُحْتَمِلِ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْيِيرِ إلَى مَعْنًى آخَرَ مَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُهُ بَلْ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ قِرَانُ الشَّرْطِ بِالطَّلَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ تَغْيِيرِ مُوجِبِهِ إلَى وَجْهٍ آخَرَ لَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ مُوجَبِ الْمُطْلَقِ مِنْهُ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ وَلَا ثِنْتَيْنِ وَلَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ أَوْ إلَّا وَاحِدَةً تَأَخَّرَ إلَى شَهْرٍ وَلَمْ يَقَعْ الِاثْنَتَانِ، وَلِهَذَا قَالُوا إذَا قَرَنَ بِالصِّيغَةِ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الْإِيقَاعِ يَكُونُ الْوُقُوعُ بِلَفْظِ الْعَدَدِ لَا بِأَصْلِ الصِّيغَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا أَوْ قَالَ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ هَذَا الْقِرَانِ فِي التَّغْيِيرِ لَا فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ يَكُونُ مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ الْمُفَسَّرِ لَا مُغَيِّرًا لَهُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك فَطَلِّقِي نَفْسَك أَوْ اخْتَارِي فَطَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
اخْتَرْت نَفْسِي يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا اعْتِبَارًا لِلْمُفَسِّرِ، وَهُوَ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُك بِيَدِك؛ لِأَنَّ طَلِّقِي تَفْسِيرٌ لَهُ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي تَطْلِيقَةً أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ لَمْ تُوضَعْ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ بَلْ خَيَّرَهَا فِي التَّصْرِيحِ فَكَانَ رَجْعِيًّا كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ.
فَأَمَّا النَّصْبُ فَلَيْسَ عَلَى التَّفْسِيرِ وَلَكِنْ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ فَإِنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْت امْرَأَتِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثًا كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ فُسِّرَ بِالتَّكْرَارِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِمُحْتَمِلٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ إلْحَاقَ زِيَادَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي اُقْتُلْ اُقْتُلْ زَيْدًا وَبِقَوْلِي صُمْ أَيْ يَوْمَ السَّبْتِ خَاصَّةً، فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ بِمَا لَيْسَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بَلْ لَيْسَ تَفْسِيرًا إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ زِيَادَةٍ لَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لَهَا لَا بِالِاشْتِرَاكِ وَلَا بِالتَّخْصِيصِ قُلْنَا الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ فَسَّرَهُ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ كَسَبْعَةٍ أَوْ عَشْرَةٍ فَهُوَ إتْمَامٌ بِزِيَادَةٍ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ إذْ اللَّفْظُ لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمِّيَّةٍ وَعَدَدٍ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِغْرَاقَ الْعُمْرِ فَقَدْ أَرَادَ كُلِّيَّةَ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ كُلِّيَّةَ الصَّوْمِ شَيْءٌ فَرْدٌ إذْ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَهُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ الْوَاحِدَ وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ فَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ لَا اسْتِئْنَافُ زِيَادَةٍ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ عَدَدٌ كَانَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ ضَرُورَةَ لَفْظِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ نَفَذَتْ؛ لِأَنَّهُ كُلِّيَّةُ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَالْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالنَّوْعِ وَلَوْ نَوَى طَلْقَتَيْنِ فَالْأَغْوَصُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَإِنْ قِيلَ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ كَالتَّتِمَّةِ لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهَا بِاللَّفْظِ.
فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ طَلَّقْت زَوْجَتِي وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَقَالَ أَرَدْت زَيْنَبَ يُبَيِّنُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَوَقَعَ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ قُلْنَا بَلْ الْفَرْقُ أَغَوْصُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَوْجَتِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَهُوَ كَإِرَادَةِ أَحَدِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْمُشْتَرَكِ أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَوْضُوعٌ لِمَعْنًى لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَدَدِ وَالصَّوْمُ لِمَعْنًى لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَشْرَةِ، وَلَيْسَتْ الْأَعْدَادُ مَوْجُودَةً لِيَكُونَ اسْمُ الصَّوْمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا اشْتِرَاكَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ النِّسْوَةِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ رحمه الله، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَالْعَدَدَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ مُحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الْكُلُّ أَوْ أُلْحِقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ مَا لَيْسَ بِمُحْتَمَلِهِ لُغَةً فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْلِهِ صُمْ إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ صُمْ الْأَيَّامَ كُلَّهَا إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ صُمْ الْأُسْبُوعَ إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ (فَإِنْ قِيلَ) قَوْلُهُ: طَلَّقْتُك فِي اقْتِضَاءِ الْمَصْدَرِ لُغَةً مِثْلُ قَوْلِهِ طَلِّقْ إذْ مَعْنَاهُ فَعَلْت فِعْلَ الطَّلَاقِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ افْعَلْ فِعْلَ الطَّلَاقِ فَهَلَّا صَحَّتْ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بِمَا ذَكَرْتُمْ وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ (قُلْنَا) إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَمَا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ لِيَصِحَّ فَإِنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ؛ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَادِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْإِخْبَارِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَلَكِنْ يَقْتَضِي وُجُودَهُ لِيَكُونَ صَحِيحًا فِي الْحِكْمَةِ بِأَنْ يَكُونَ صِدْقًا فَكَانَ ثَابِتًا ضَرُورَةَ الصِّدْقِ، وَهِيَ يَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ إنْشَاءً فَاقْتَضَى مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ الْإِخْبَارُ، وَهُوَ الْوَاحِدَةُ فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقْ فَأَمْرٌ وَلَهُ أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَتْ فَرْدًا صِيغَةً أَوْ دَلَالَةً أَمَّا الْفَرْدُ صِيغَةً فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَأَمَّا قَدْرًا مِنْ الْأَقْدَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ فَلَا.
فَكَذَلِكَ لَا آكُلُ طَعَامًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ وَأَمَّا الْفَرْدُ دَلَالَةً فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ وَلَا أُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ وَلَا أَشْتَرِي الثِّيَابَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ صَارَ مَجَازًا عَنْ اسْمِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّا إذَا أَبْقَيْنَاهُ جَمْعًا لَغَا حَرْفُ الْعَهْدِ أَصْلًا وَإِذَا جَعَلْنَاهُ جِنْسًا بَقِيَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَبَقِيَ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ فَكَانَ الْجِنْسُ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب: 52] وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجَمْعِ فَصَارَ هَذَا وَسَائِرُ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ سَوَاءً
ــ
[كشف الأسرار]
فَصَارَ مَذْكُورًا فَكَانَ التَّعْمِيمُ دَاخِلًا عَلَى الْمَذْكُورِ فَكَانَ حُكْمًا أَصْلِيًّا.
فَلِهَذَا صَحَّتْ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اضْرِبْهُ إنْ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ فَقَوْلُهُ اضْرِبْهُ قَائِمًا أَوْ إنْ كَانَ قَائِمًا لَا يَقْتَضِيهِ أَيْضًا بَلْ لَا يَزِيدُهُ إلَّا اخْتِصَاصَ الضَّرْبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ بِحَالَةِ الْقِيَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِوَكِيلِهِ طَلِّقْ زَوْجَتِي إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ مَنْ شَهِدَ مِنْكُنَّ الشَّهْرَ فَلْتُطَلِّقْ نَفْسَهَا فَمَنْ زَالَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ فَلْتُطَلِّقْ نَفْسَهَا،
1 -
وَأَمَّا تَكْرَارُ أَوَامِرِ الشَّرْعِ فَلَيْسَ مِنْ مُوجَبِ اللُّغَةِ بَلْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي كُلِّ شَرْطٍ فَقَدْ قَالَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ فَإِنْ أَحَالُوا ذَلِكَ عَلَى الدَّلِيلِ أَحَلْنَا مَا تَكَرَّرَ أَيْضًا عَلَى الدَّلِيلِ كَيْفَ، وَمَنْ كَانَ جُنُبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّهَّرَ إذَا لَمْ يُرِدْ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ مُطْلَقًا لَكِنْ اتَّبَعَ فِيهِ مُوجَبَ الدَّلِيلِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ الشَّرْطَ بِالْعِلَّةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ وَالْمُوجِبُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُوجَبِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الشَّرْطُ بِدُونِ الْمَشْرُوطِ وَالْمَشْرُوطُ بِدُونِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ ثُبُوتُهُ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُوجِبٍ يُوجِبُهُ، وَهُوَ الْعِلَّةُ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا اسْتَشْهَدُوا فَعِلَلٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ؛ فَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ الْأَوَامِرُ بِتَكَرُّرِهَا قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ) أَيْ وَكَالْمَصْدَرِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَيْ جَمِيعُهَا أَوْ بَاقِيهَا فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْأَقَلِّ وَاحْتِمَالِهِ لِلْكُلِّ دُونَ الْعَدَدِ إذَا كَانَتْ فَرْدًا صِيغَةً أَيْ لَمْ يَكُنْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ تَثْنِيَةٍ وَلَا جَمْعٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعَرَّفَةً أَوْ مُنَكَّرَةً مِثْلُ " مَاءً " أَوْ " الْمَاءَ " فِي يَمِينِ الشُّرْبِ أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ جَمْعٍ قُرِنَتْ بِهَا لَامُ التَّعْرِيفِ أَوْ الْإِضَافَةِ مِثْلُ " الْعَبِيدَ " وَبَنِي آدَمَ فِي يَمِينِ الْكَلَامِ.
فَأَمَّا قَدْرًا مِنْ الْأَقْدَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَهُمَا الْأَقَلُّ وَالْكُلُّ فَلَا أَيْ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنْ نَوَى كُوزًا أَوْ كُوزَيْنِ أَوْ قَدَحًا أَوْ قَدَحَيْنِ لَا يُعْمِلُ نِيَّتَهُ وَقَدْرًا مَنْصُوبٌ بِلَا يَحْتَمِلُهُ الْمُقَدَّرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطٍ أَمَّا دُخُولُهُ فِي الْمَرْفُوعِ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْصُوبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] وَنَحْوُهُ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَرْدُ دَلَالَةً إلَى آخِرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَعْهُودٍ، وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ وَعُهِدَ إمَّا بِالذِّكْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهِيَ تُعَرِّفُ ذَلِكَ الْمَعْهُودَ وَيُسَمَّى هَذَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْرِيفُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَقَوْلِك فَعَلَ الرَّجُلُ كَذَا تُرِيدُ رَجُلًا بِعَيْنِهِ قَالَ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَيْ ذَلِكَ الرَّسُولَ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَهِيَ لِتَعْرِيفِ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْهُودِ لِحُضُورِهَا فِي الذِّهْنِ وَاحْتِيَاجِهَا إلَى التَّعْرِيفِ وَيُسَمَّى هَذَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، ثُمَّ الْحَقِيقَةُ فِي ذَاتِهَا لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلتَّوَحُّدِ وَالتَّكَثُّرِ لِتَحَقُّقِهَا مَعَ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ كَانَتْ اللَّامُ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
وَلِغَيْرِهِ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَ ارْتِبَاطُ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ مُفْرَدًا كَانَ اللَّفْظُ أَوْ جَمْعًا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَاللَّامُ لِنَفْسِ الْجِنْسِ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ عليه السلام {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] وَيَقَعُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
وَهُوَ الْوَاحِدُ فِي الْمُفْرَدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا فِي الْجَمْعِ عِنْدَنَا، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنِ لَامِ الْجِنْسِ دَاخِلَةً عَلَى الْمُفْرَدِ وَبَيْنَهَا دَاخِلَةً عَلَى الْمَجْمُوعِ هُوَ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إلَى الْوَاحِدِ وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ صَلُحَ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ وِزَانَهُ فِي تَنَاوُلِ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْجِنْسِ وِزَانُ الْمُفْرَدِ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْجَمْعِيَّةِ وَفِي حَمْلِ الْجِنْسِ لَا فِي وُحْدَانِهِ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِيهِ فَقَالَ فِيمَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حُمِلَ عَلَى أَقَلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الْوَاحِدُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْعَدَدُ الزَّائِدُ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ فِي الْجَمْعِ فَلَا يُوجِبُ فِي مِثْلِ حَصَلَ الدِّرْهَمُ إلَّا وَاحِدًا وَفِي مِثْلِ حَصَلَ الدَّرَاهِمُ إلَّا ثُلُثَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ رِعَايَةُ الصِّيغَةِ مَعَ اعْتِبَارِ حَرْفِ التَّعْرِيفِ فَيُجْعَلُ حَرْفُ التَّعْرِيفِ لِلْجِنْسِ مُرَاعًى فِيهِ الْجَمْعِيَّةُ رِعَايَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَأَمَّا جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ الْفَرْدِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ، وَقُلْنَا إذَا دَخَلَتْ فِي الْجَمْعِ بَطَلَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ أَيْ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا فِي الْكَلَامِ وَصَارَ مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ أَيْ صَارَ كَاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هَهُنَا صِيغَةُ الْجَمْعِ وَحَرْفُ التَّعْرِيفِ فَلَوْ اعْتَبَرَ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَزِمَ إلْغَاءُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْعَهْدِ إذَا لَيْسَ فِي أَقْسَامِ الْجُمُوعِ مَعْهُودٌ يُمْكِنُ صَرْفُهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْدُودٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هُوَ شَائِعٌ كَالنَّكِرَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْجِنْسِ أَيْضًا مَعَ اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهَا مَقْصُودًا وَجَعْلُ اللَّامِ لِلْجِنْسِ يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْعَوَارِضِ، وَكَوْنُ الْجَمْعِ مَقْصُودًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ مُتَنَافِيَانِ.
وَلَوْ اُعْتُبِرَ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَجُعِلَ لِلْجِنْسِ وَجُعِلَتْ الصِّيغَةُ مَجَازًا عَنْ الْفَرْدِ لَمْ يُلْغَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الْجِنْسِ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا إذْ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَفْرَادِ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَوَهُّمًا فَكَانَ اعْتِبَارُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ إذْ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ وَالْعُرْفِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وَلَمْ يَكُنْ الْحَظْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمْعِ بَلْ كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْفَرْدَ فَصَاعِدًا وقَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ لَا الْجَمْعُ.
وَأَمَّا الْعُرْفُ فَإِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يُحِبُّ النِّسَاءَ وَفُلَانٌ يُخَالِطُ النَّاسَ؛ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَلِهَذَا جَعَلْنَا مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَرْدٌ دَلَالَةً، قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ، فَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى بِحَقِيقَتِهِ أَيْ بِحَقِيقَةِ الْفَرْدِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ بِحَقِيقَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهَا خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ حَيْثُ يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لَا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَلَا قَوْلُهُ لَا أُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أَوْ الشُّهُورَ حَيْثُ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ عِنْدَهُمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
لَا عَلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَالشَّهْرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُجْعَلُ اللَّامُ فِي الْجَمْعِ لِلْجِنْسِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهَا إلَى مَعْهُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ تَصَرُّفُ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِك كُنْت الْيَوْمَ مَعَ التُّجَّارِ وَلَقِيت الْفُقَهَاءَ تُرِيدُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ قَدْ جَرَتْ عَادَتُك بِلِقَائِهِمْ وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَا فِي يَدِي عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ وَغَيْرَهَا وَمِنْ الدَّرَاهِمِ بَيَانٌ لَهُ فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّامِ إلَيْهِ.
وَكَذَا أَيَّامُ الْجُمُعَةِ وَشُهُورُ السَّنَةِ مَعْهُودَةٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجِبُ صَرْفُ اللَّامِ إلَيْهَا عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَقَدْ جَعَلَ الِاسْمَ مَعْهُودًا عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَى الْعَشَرَةِ فَصَرَفَ اللَّامَ إلَى أَكْثَرِ هَذَا الْمَعْهُودِ احْتِيَاطًا كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ،
إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ أَوْ لَا آكُلُ طَعَامًا أَوْ الطَّعَامَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهُوَ الْكُلُّ لَوْلَا غَيْرُهُ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ أَيْضًا؛ فَإِنْ نَوَى الْكُلَّ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَحْنَثَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَكِنَّهُ عَدَدٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْفَرْدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً إنْ كَانَ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ الْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ بِالْيَمِينِ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَشُرْبُ كُلِّ الْمِيَاهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ الْعَبِيدَ أَوْ لَا يَشْتَرِي الثِّيَابَ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْكُلِّ.
وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّعْرِيفِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ وَلَا تَعْرِيفَ لِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمْعِ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْجِنْسِ حَصَلَ بِهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مَعَ الْعَمَلِ بِالْجَمْعِ فَصَارَ أَوْلَى؛ فَإِنْ نَوَى الْكُلَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلَا يَحْنَثُ أَبَدًا، قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ: قَالُوا وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصْدُقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً إنْ كَانَ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْمَجَازَ، وَلَا يَذْهَبَنَّ بِك الْوَهْمُ كَمَا ذَهَبَ بِالْبَعْضِ إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ عِنْدَ إرَادَةِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ جَمِيعِ النَّاسِ وَتَزَوُّجَ جَمِيعِ النِّسَاءِ وَشِرَاءَ جَمِيعِ الْعَبِيدِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَا لَمْ يَنْعَقِدْ فِي قَوْلِهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ شُرْبِ الْمَاءِ الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ شُرْبُ الْمَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَأَمَّا شَرْطُ الْبِرِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَعَدَمُ الْكَلَامِ وَالتَّزَوُّجِ وَالشِّرَاءِ، وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ؛ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً أَوْ لَا يَشْتَرِي عَبِيدًا فَهَذَا عَلَى الثَّلَاثَةِ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْجِنْسِ عُدِمَتْ هَهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ؛ فَإِنْ نَوَى بِهِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ قَالُوا يَكُونُ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ فَلَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ فَإِنْ نَوَى الْوَاحِدَ مِمَّا ذُكِرَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ فَيُصَدَّقُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَكَذَا، وَقَالَ: عَنَيْت بِهِ الْوَاحِدَةَ لَا يُصَدَّقُ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَدَدِ، وَذَلِكَ
وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى الْأَقْرَعِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَنَّ كُلَّ اسْمِ فَاعِلٍ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ حَتَّى قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ بِالْآيَةِ إلَّا الْأَيْمَانُ؛ لِأَنَّ كُلَّ السَّرِقَاتِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ الْوَاحِدُ مُرَادًا وَبِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يُقْطَعُ إلَّا وَاحِدٌ
ــ
[كشف الأسرار]
لَا يَصِحُّ إلَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ وَحْدَهَا هِيَ حَرْفُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْهَمْزَةُ قَبْلَهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ مَجْلُوبَةٌ لِلِابْتِدَاءِ كَهَمْزَةِ اسْمِ وَابْنِ وَعِنْدَ الْخَلِيلِ كَلِمَةُ التَّعْرِيفِ أَلْ كَهَلْ وَبَلْ؛ وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ التَّخْفِيفُ بِالْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ لَغَا حَرْفُ الْعَهْدِ وَقَوْلُهُ بَقِيَ اللَّامُ أَشَارَ إلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ حَرْفَا الْعَهْدِ وَبَقِيَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أُشْكِلَ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ سُؤَالِ الْأَقْرَعِ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْبَابٍ مُتَكَرِّرَةٍ مِثْلَ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالْأَوْقَاتِ وَالصَّوْمِ بِالشَّهْرِ وَالزَّكَاةِ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ وَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ النَّمَاءِ، وَقَدْ رَأَى الْحَجَّ مُتَعَلِّقًا بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مُتَكَرِّرٌ بِحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ قَبْلَهُ وَبِالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِمُتَكَرِّرٍ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا سُئِلَ لَا لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ لُغَةً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام «لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ» أَيْ لَوْ قُلْت نَعَمْ يَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ وَحِينَئِذٍ صَارَ الْوَقْتُ سَبَبًا، فَإِنَّهُ عليه السلام كَانَ صَاحِبَ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ نَصْبُ الشَّرَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، السَّارِقُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُؤْتَى عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْأَيْدِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَضَافَهَا إلَى السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَأَوْجَبَتْ الِاسْتِغْرَاقَ كَقَوْلِك عَبِيدُكُمَا فَيَدْخُلُ الْيَسَارُ كَالْيَمِينِ فِي الْحُكْمِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ عِنْدَكُمْ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ صِيغَةِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِسَارِقٍ وَسَارِقَةٍ أَيْمَانٌ بَلْ لَهُمَا يَمِينَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْيَسَارَ مَحَلُّ الْقَطْعِ كَالْيَمِينِ وَكَيْفَ إلَّا وَالْيَسَارُ آلَةُ السَّرِقَةِ كَالْيَمِينِ وَفَوْقَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى فَيَكُونُ مَحَلُّ الْقَطْعِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ لِلرَّجُلِ بِالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْمَحَلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ بِمُطْلَقِ الْكِتَابِ.
وَلَنَا قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ الْمُطْلَقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا مِنْ الْأَيْدِي فَلَا يَتَنَاوَلُ الْيُسْرَى فَهَذَا قَيْدٌ جَاءَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ يَدٍ، فَإِذَا قُيِّدَتْ بِالْيَمِينِ كَانَ الْقَيْدُ زِيَادَةَ وَصْفٍ يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] مُتَتَابِعَاتٍ فَيَرْتَفِعُ الْإِطْلَاقُ بِالْقَيْدِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَر أَعْتِقْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي ثُمَّ قَالَ عَنَيْت سَالِمًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يَقْطَعُ الْيُسْرَى وَيَقْطَعُ الرِّجْلَ فَلَوْ كَانَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِلْيُسْرَى لَمْ يَجُزْ قَطْعُ الرِّجْلِ مَعَ بَقَاءِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْصُوصِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّقْيِيدُ فِي النَّصِّ جُعِلَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ مَجَازًا عَنْ التَّثْنِيَةِ ضَرُورَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] كَيْفَ وَالْعَمَلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْيَسَارَ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّصِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْيُمْنَى وَأَنَّ اسْتِدْلَالَ الْخَصْمِ بِالْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا بِالْقِيَاسِ إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ الشَّيْخُ خَرَّجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
يَخْرُجُ أَنَّ كُلَّ اسْمِ فَاعِلٍ، وَقَوْلُهُ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً صِفَةٌ لِفَاعِلٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ اسْمِ الْفَاعِلِ إذَا جُعِلَ عَلَمًا مِثْلُ الْحَارِثِ وَالْقَاسِمِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدُ خَبَرَانِ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي لَمْ يَحْتَمِلْ إنْ جُعِلَ رَاجِعًا إلَى كُلِّ اسْمِ فَاعِلٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ نَفْيُ الْقَطْعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ؛ وَإِنْ جُعِلَ رَاجِعًا إلَى الْمَصْدَرِ لَا يَخْلُو التَّرْكِيبُ عَنْ نَوْعِ خَلَلٍ إذْ الْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ اسْمُ إنَّ هَهُنَا وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى الْمَصْدَرِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ (قُلْنَا) دَأَبَ الْمَشَايِخُ النَّظَرَ إلَى الْمَعْنَى لَا إلَى التَّرْكِيبِ كَذَا سَمِعْت عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ مَوْلَانَا حَافِظِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمَّا كَانَ بِنَاءُ الْبَابِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ نَفْيُ احْتِمَالِ الْعَدَدِ عَنْ الْمَصْدَرِ لَا عَنْ الْفَاعِلِ وَصَارَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ كَالْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ بِالْوَاوِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخَبَرُ قَوْلَهُ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَلَا يُرَادُ السُّؤَالُ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ بِلَفْظِ السَّارِقِ الْعَدَدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ إلَّا الْأَيْمَانُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ أَوْ الْأَقَلُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ السَّرِقَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مِنْهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِآخِرِ الْعُمْرِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يُقْطَعَ؛ وَإِنْ سَرَقَ أَلْفَ مَرَّةٍ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِي فَعَلَ سَرِقَةً وَاَلَّتِي فَعَلَتْ سَرِقَةً {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَقْطَعَ الْيَدَانِ جَمِيعًا بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْآيَةِ قَطْعُ يَدٍ وَاحِدَةٍ لِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ.
ثُمَّ هَذِهِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ وَبِالسُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَبِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ قَطْعَ الْيُمْنَى مُرَادٌ بِالْآيَةِ فَلَمْ يَبْقَ قَطْعُ الْيُسْرَى مُرَادًا بِهَا ضَرُورَةً فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ حَتَّى قُلْنَا إلَى آخِرِهِ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْعَدَدِ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ لَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ قَطْعُ الْيُسْرَى بِالْآيَةِ كَالْيُمْنَى وَصَارَ التَّقْدِيرُ الَّذِي سَرَقَ سَرِقَاتٍ وَاَلَّتِي سَرَقَتْ سَرِقَاتٍ فَاقْطَعُوا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَدًا، وَذَكَرَ فِي طَرِيقِهِ الْخِلَافَ لِلْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ السَّرِقَةَ إنَّمَا ذَكَرَ اسْمَ السَّارِقِ وَهَذَا يَقْتَضِي السَّرِقَةَ وَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا سَرِقَةً وَاحِدَةً وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مَعْمُولًا بِهَا لَقُطِعَتْ الْيَدَانِ كِلَاهُمَا بِالْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَذْكُورَةَ جَزَاءُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْجَلْدِ مِائَةً فِي الزِّنَا وَأَجْمَعْنَا أَنَّ بِالسَّرِقَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يُقْطَعُ إلَّا الْيَمِينُ عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْيَمِينَ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ثَبَتَ تَكَرُّرُ الْجَلْدِ بِتَكَرُّرِ الزِّنَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرَ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْعَدَدُ كَمَا قُلْتُمْ فِي السَّرِقَةِ فَلْيَكُنْ السَّرِقَةُ كَذَلِكَ (قُلْنَا) قَدْ ثَبَتَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَالزِّنَا عِلَّةٌ وَالْجَلْدُ حُكْمُهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْبَدَنُ، فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَعِلَّةٌ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ حُكْمَهَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ قَطْعُ الْيَمِينِ وَبِقَطْعِهَا مَرَّةً