الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَمُخْتَصٌّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ وَذَلِكَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَهُوَ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَكَامِلٌ فَأَمَّا الْمُطْلَقُ مِنْهُ فَأَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَأْمُورُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ بَدَنِيًّا كَانَ أَوْ مَالِيًّا وَهَذَا فَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا
ــ
[كشف الأسرار]
لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مِنْ الْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّ مَنْ شَرْطِ الْجَوَازِ الطَّهَارَةَ عَنْ الْحَدَثِ هَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله قُلْت الْوُضُوءُ مُسَاوٍ لِلسَّعْيِ فِي هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوُضُوءِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّعْيِ وَحُصُولِ الطَّهَارَةِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الرَّجُلِ فِي الْجَامِعِ بِالسَّعْيِ وَقَدْ تَحْصُلُ الصَّلَاةُ بِدُونِ فِعْلِ الْوُضُوءِ كَمَا تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ بِدُونِ فِعْلِ السَّعْيِ وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ كَمَا لَا تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ بِدُونِ كَوْنِهِ فِي الْجَامِع، وَكَذَلِكَ لَوْ تُصُوِّرَ إسْلَامُ الْخَلْقِ عَنْ آخِرِهِمْ لَا تَبْقَى فَرِيضَةُ الْجِهَادِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ مَتَى سَقَطَ بِعَارِضٍ مُضَافٍ إلَى اخْتِيَارِهِ مِنْ بَغْيٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ كُفْرٍ سَقَطَ حَقُّهُ.
وَكَذَا إذَا قَامَ بِهِ الْوَلِيُّ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَمَتَى لَمْ يَقْضِ حَقُّهُ بِأَنْ صَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ الْوَلِيِّ كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً عَلَى الْوَلِيِّ وَكَذَا إذَا لَمْ تَنْكَسِرْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ مَرَّةً لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ وَوَجَبَ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ بِدُونِ السَّبَبِ، كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
، ثُمَّ الشَّيْخُ لَمَّا ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَمْ يَذْكُرْهَا صَرِيحًا.
[الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْطُ لِلْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ جَامِعًا يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ أَيْ هَذَا الْقِسْمُ يَتَأَتَّى فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ إنَّمَا صَارَ جَامِعًا لِلْحُسْنِ الذَّاتِيِّ وَالْحُسْنِ الْإِضَافِيِّ بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ وَهِيَ مَشْرُوطَةٌ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ دُونَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَلَا يَتَأَتَّى فِي الْقَضَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُسْنَيْنِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْأَدَاءِ ضَرُورَةً، ثُمَّ الْحُسْنُ بِاعْتِبَارِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَعَ كَوْنِهِ حُسْنًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا إلَّا بِقَدْرٍ مِنْ الْمُخَاطَبِ فَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ تَوَقُّفَ وُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْغَيْرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَتِهِ هِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ أَيْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْقُدْرَةُ، شَرْطُ الْأَدَاءِ أَيْ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، شَرْطُ الْأَدَاءِ أَيْ شَرْطُ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ، دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ لَا حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ وَعَلَيْهِ دَلَّ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ قَوْله تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أَيْ طَاقَتَهَا وَقُدْرَتَهَا أَيْ لَا يَأْمُرُهَا بِمَا لَيْسَ فِي طَاقَتِهَا فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ شَرْعًا وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ إنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْوُقُوعِ وَالْخِلَافُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ فَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِغَيْرِهِ كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِثْلِ فِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَقَدْ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَعَلَى وُقُوعِهِ شَرْعًا، فَالْأَشْعَرِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْهُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
تَصَرُّفٌ فِي عِبَادِهِ وَمَمَالِيكِهِ فَيَجُوزُ سَوَاءٌ أَطَاقَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يُطِقْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ التَّكْلِيفِ إمَّا أَنْ كَانَ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَصَوُّرِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُمْتَنِعِ لِلْعَبْدِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُبْحَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ وَالْقَدِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَرَضِ، وَتَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ يُعَدُّ سَفَهًا فِي الشَّاهِدِ كَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِالنَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى الْحَكِيمِ جل جلاله، تَحْقِيقُهُ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ هِيَ الِابْتِلَاءُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يَتْرُكُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا فِي الِامْتِنَاعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَيُعْرَفُ بَاقِي الْكَلَامِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هَهُنَا مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُونِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ الْمُكْنَةَ الْأَصْلِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَالْمَيْسَرَةُ مَشْرُوطَةٌ فِي بَعْضِهَا تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مُكْنَةَ الْعَبْدِ مِنْهُ حِكْمَةً وَعَدْلًا يُشِيرُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ إعْطَاءَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهَا أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ تَشْرِيفٌ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَمِنَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلَحِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَبِنَاءُ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَاشْتِرَاطُهَا لَهُ فِيهِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ وَهَذَا كَاشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ الْخِطَابِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِي الْإِنْسَانِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ لَا لِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَخَلْقِهَا فِي الْمُكَلَّفِ فَالْأَوْجَهُ أَنْ تُصْرَفَ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا فَضْلٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ دُونَ إعْطَائِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُوجَدُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْبِقْ الْفِعْلَ وَلَا بُدَّ لِلتَّكْلِيفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ نُقِلَ الْحُكْمُ عَنْهَا إلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْدُثُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بِهَا عِنْدَ إرَادَةِ الْفِعْلِ عَادَةً فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ بِهَا لَا مَحَالَةَ، فَاشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ مَعَ أَنَّ التَّكْلِيفَ صَحِيحٌ بِدُونِهَا بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ وُجُودِ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عِنْدَ الْفِعْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ.
وَعَلَيْهِ دَلَّ سِيَاقُ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ قَالَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْأَدَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا وَقْتَ الْأَمْرِ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ وَعَدَمُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَمْرِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ
وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى أَجْمَعُوا أَنَّ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ وَعَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِنُقْصَانٍ يَحِلُّ بِهِ أَوْ بِمَالِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ وَفِي مَرَضٍ يَزْدَادُ بِهِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ السَّفَرِ الْمَخْصُوصِ بِهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِمَا فِي الْغَالِبِ وَلَا يَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا بِقُدْرَةٍ مَالِيَّةٍ حَتَّى إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِالْإِجْمَاعِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَأْمُورِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ رَسُولًا إلَى النَّاسِ كَافَّةً ثُمَّ صَحَّ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَهُ وَيَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغَهُمْ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْأَدَاءِ فَكَمَا يَحْسُنُ الْأَمْرُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ يَحْسُنُ قَبْلَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الْأَدَاءِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ لَا يُعْدِمُ صِفَةَ الْحُسْنِ فِي الْأَمْرِ فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا بَرِئَ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ إذَا أَمِنْتُمْ مِنْ الْخَوْفِ فَصَلُّوا بِلَا إيمَاءٍ وَلَا مَشْيٍ فَثَبَتَ بِمَا ذُكِرَ رحمه الله أَنَّ التَّكْلِيفَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهَا عِنْدَ الْفِعْلِ فَاشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ عِنْدَ التَّكْلِيفِ يَكُونُ فَضْلًا لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُلِّ أَمْرٍ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقُدْرَةِ بِسَلَامَةِ الْآلَاتِ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَاءِ مَا ثَبَتَ بِكُلِّ أَمْرٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا لَعَيْنه أَوْ لِغَيْرِهِ، حَتَّى أَجْمَعُوا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ حَقِيقَةً، وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ رحمه الله إنْ كَانَ الْمُعِينُ حُرًّا أَوْ امْرَأَتُهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا إعَانَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْفَرْقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْعَبْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَعَنْ هَذَا قِيلَ إنْ كَانَ الْمُعِينُ يُعِينُهُ بِبَدَلٍ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْكُلِّ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَجْمَعُوا مُؤَوَّلٌ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله إنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَعَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ حُكْمًا بِأَنْ حَلَّ نُقْصَانٌ بِبَدَنِهِ بِأَنْ ازْدَادَ مَرَضُهُ بِالتَّوَضُّؤِ أَوْ بِمَالِهِ بِأَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ إلَّا بِثَمَنٍ غَالٍ.
، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَالِي فَقِيلَ إنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ إلَّا بِضَعْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ غَالٍ وَقِيلَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ غَالٍ وَيُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَاءِ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعِزُّ فِيهِ الْمَاءُ كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ رحمه الله، وَقَوْلُهُ فِي مَرَضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الزِّيَادَةِ، وَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ أَيْ الْمُكْنَةِ وَلِهَذَا كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِحَسَبِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ بِالْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ السَّفَرِ الْمَخْصُوصِ بِهِ أَيْ بِالْحَجِّ، لَا يَحْصُلُ دُونَهُمَا أَيْ دُونَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْغَالِبِ فَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّفَرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ الزَّادَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوتِهِ وَالرَّاحِلَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَحْمِلُهُ وَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا عَنْهُمَا وَلَا يُشْتَرَطُ زِيَادَةُ الْمَالِ وَالْخَدَمِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ح يَتَعَلَّقُ بِالْمُكْنَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِهِمَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الرَّاحِلَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لَا يَصِحُّ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ أَدْنَى الْقُدْرَةِ فِيهِ صِحَّةُ الْبَدَنِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَاكْتِسَابِ الزَّادِ فِي الطَّرِيقِ وَلِهَذَا صَحَّ النَّذْرُ بِهِ مَاشِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ
وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ فِي الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا أَوْ الْكَافِرِ يُسْلِمُ أَوْ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَنْ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يُدْرِكُوا وَقْتًا صَالِحًا لِلْأَدَاءِ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحْسَنُوا بَعْدَ تَمَامِ الْحَيْضِ أَوْ دَلَالَةِ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ بِإِدْرَاكِ وَقْتِ الْغُسْلِ أَنَّهَا تَجِبُ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ الْوَقْتِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْقُدْرَةِ لَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ حَرَجٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ فِي الْغَالِبِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا فِي الصَّلَاةِ الْقُدْرَةَ الْمُتَوَهَّمَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ بِهَا لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لَا لِعَيْنِ الْأَدَاءِ وَلَا خُلْفَ لِلْحَجِّ يَنْتَفِي بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَرَجُ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْتَبَرْ، إلَّا بِقُدْرَةٍ مَالِيَّةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَدَائِهَا بِأَنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ قَادِرًا عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ لَهُ التَّمَكُّنُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِأَنْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ حَيْثُ ثَبَتَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ الطَّهَارَةُ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ وَهَهُنَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَقْصُودٌ مَعَ ذَلِكَ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمُؤَدَّى مُعْتَبَرٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْإِبَاحَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ مَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَجِدُ الْمَصْرِفَ لَا يَثْبُتُ التَّمَكُّنُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِالْإِجْمَاعِ.
، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ خِلَافًا كَمَا سَيَأْتِي قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ إلَى آخِرِهِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَهِيَ تُسَمَّى قُدْرَةً لِحُدُوثِ الْقُدْرَةِ فِيهَا عِنْدَ قَصْدِ الْفِعْلِ فِي الْمُعْتَادِ.
وَالثَّانِي حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّكْلِيفُ يَعْتَمِدُ الْأُولَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ الثَّانِيَةَ غَيْرَ أَنَّ تَعَذُّرَ تَقَدُّمِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ مَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَنَقَلَ الشَّرْطِيَّةَ إلَى الْأُولَى لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِهَا عَادَةً عِنْدَ الْفِعْلِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ حَقِيقَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ لَوَجَدَ الْفِعْلَ بِالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَكَانَتْ حَالَةُ وُجُودِ الْفِعْلِ حَالَةَ وُجُودِ الْقُدْرَتَيْنِ جَمِيعًا، فَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ رحمه الله إذَا صَارَ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ حَقِيقَةً لِفَوَاتِ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ التَّكْلِيفُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ.
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ ثَابِتٌ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ وَهُوَ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ احْتِمَالَ سَفَرِ الْحَجِّ بِدُونِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَاحْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي وَاحْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِلْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ وَالْمُقْعَدِ بِزَوَالِ الْمَرَضِ وَالزَّمَانَةِ وَاحْتِمَالَ الْإِبْصَارِ لِلْأَعْمَى بِزَوَالِ الْعَمَى أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ فَهَذَا أَوْلَى.
قَوْلُهُ (لَكِنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحْسَنُوا) أَيْ عَمِلُوا بِالدَّلِيلِ الْخَفِيِّ الْأَقْوَى وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ زُفَرُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَيْضِ بِأَنْ انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى الْعَشَرَةِ، أَوْ دَلَالَةُ انْقِطَاعِهِ أَيْ الْحَيْضِ قَبْلَ تَمَامِهِ بِأَنْ انْقَطَعَ الدَّمُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ بِإِدْرَاكِ وَقْتِ الْغُسْلِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ عَلَى الْعَشَرَةِ أَيْ تَمَّ الْحَيْضُ بِتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ وَقْتَ الْغُسْلِ، وَإِنْ انْقَطَعَ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ
يَصْلُحُ لِلْإِحْرَامِ بِهَا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّا نَحْتَاجُ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ وَنَحْتَاجُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ إلَى احْتِمَالِ وُجُودِ الْقُدْرَةِ لَا إلَى تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ وُجُودًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَأَمَّا سَابِقًا عَلَيْهِ فَلَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ إلَّا فِي الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ لَكِنَّ تَوَهُّمَ الْقُدْرَةِ يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَصْلِ مَشْرُوعًا ثُمَّ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ دَلِيلُ النَّقْلِ إلَى الْبَدَلِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، وَقَدْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ بِوَقْفِ الشَّمْسِ كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه
ــ
[كشف الأسرار]
وَتَتَحَرَّمُ لِلصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ زَمَانَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لَا يُحْكَمُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ لِجَوَازِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَإِذَا اغْتَسَلَتْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا فَلَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْحَيْضِ وَجَبَ أَنْ يُدْرَكَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ مُدَّةِ الِاغْتِسَالِ لِيَجِبَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ.
وَقَوْلُهُ يَصْلُحُ لِلْإِحْرَامِ لِمُبَالَغَةِ جَانِبِ الْقِلَّةِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا حَتَّى لَوْ أَدْرَكَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ أَيْ كَمَا اسْتَحْسَنُوا فِي الْحَيْضِ اسْتَحْسَنُوا فِي إيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ وَالْمَجْنُونِ إذْ أَفَاقَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُلَخَّصِ فِي الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ الْمُسْقِطُ لِلْقَضَاءِ كَالْجُنُونِ وَالصِّبَا وَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ فِي قَدْرِ تَكْبِيرَةٍ مِنْ الْوَقْتِ لَزِمَهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَوْ زَالَ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ لَزِمَهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَلَوْ زَالَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْعِشَاءُ وَالْمَغْرِبُ وَكَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَهْلِ فَيَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ إذْ هُوَ لَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَكَذَا شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ لِامْتِنَاعِ تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ وَاسْتِحَالَةِ تَقَدُّمِ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ بَلْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ وَقَدْ وُجِدَا لِتَوَهُّمٍ هَهُنَا لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ امْتِدَادٌ بِتَوَقُّفِ الشَّمْسِ فَيَسَعُ الْأَدَاءَ فَيَثْبُتُ بِهَذَا الْقَدْرِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ثُمَّ بِالْعَجْزِ الْحَالِيِّ عَنْ الْأَدَاءِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى خَلْفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ.
يُوضِحُهُ أَنَّ فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ يَثْبُتُ لُزُومُ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاءً غَدًا يَكُونُ أَمْرًا صَحِيحًا مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَالِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ غَدًا لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ أَوْ يَظْهَرَ عَارِضٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ بِهَذَا الْقَدْرِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله.
(فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: قُدْرَةُ سَلَامَةِ الْآلَةِ وَالْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةِ فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ إذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ وَوُجُودِهَا حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ حُدُوثِ الْآلَةِ وَسَلَامَتِهَا كَافٍ لِصِحَّتِهِ فَإِنَّ تَوَهُّمَ حُدُوثِ آلَةِ الطَّيَرَان لِلْإِنْسَانِ ثَابِتٌ وَكَذَلِكَ تَوَهُّمُ حُدُوثِ سَلَامَةِ آلَةِ الْأَبْصَارِ وَالْمَشْيِ لِلْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ ثَابِتٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِالطَّيَرَانِ وَالْإِبْصَارِ وَالْمَشْيِ وَالتَّوَهُّمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ كَالْيَدِ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلِ لِلْمَشْيِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ.
(قُلْنَا) تَوَهُّمُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ إنَّمَا لَا يَصْلُحُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَيْنَ مَا كُلِّفَ بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ غَيْرَهُ فَهُوَ كَافٍ لِصِحَّتِهِ كَالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حَقِيقَةَ التَّوَضُّؤِ لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ حَقِيقَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ خَلَفُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَتَوَهُّمُ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَافٍ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ خَلَفِهِ وَيَشْتَرِطُ ح سَلَامَةَ آلَاتِ الْخَلَفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا سَلَامَةُ آلَاتِ الْأَصْلِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا
وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسِّ السَّمَاءِ فَصَارَ مَشْرُوعًا ثُمَّ وَجَبَ النَّقْلُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ كَمَنْ هَجَمَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ فِي السَّفَرِ أَنَّ خِطَابَ الْأَصْلِ عَلَيْهِ يَتَوَجَّهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ ثُمَّ بِالْعَجْزِ الْحَالِيِّ يَنْتَقِلُ إلَى التُّرَابِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ إيجَابُ خَلَفِهِ لَا حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ فَيُشْتَرَطُ سَلَامَةُ الْآلَاتِ فِي حَقِّ الْخَلَفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لَا سَلَامَةُ آلَاتِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ بَلْ يَكْفِي فِيهِ تَوَهُّمُ الْحُدُوثِ.
قَوْلُهُ (بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ) كَلِمَةُ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ الْبَيَانِيَّةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ، وَالْبَاءُ فِي بِوَقْفِ الشَّمْسِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتَتَعَلَّقُ بِالِامْتِدَادِ أَيْ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ وَقْفِ الشَّمْسِ، كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، رُوِيَ «أَنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام لَمَّا عُرِضَ لَهُ الْخَيْلُ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ وَفَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَوْ وِرْدٌ لَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاشْتِغَالِهِ بِهَا وَأَهْلَكَ تِلْكَ الْخَيْلَ بِالْعَقْرِ وَضَرْبِ الْأَعْنَاقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] تَشَؤُّمًا بِهَا حَيْثُ شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقَهْرًا لِلنَّفْسِ بِمَنْعِهَا عَنْ حُظُوظِهَا جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَكْرَمَهُ بِرَدِّ الشَّمْسِ إلَى مَوْضِعِهَا مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْوَرْدِ وَبِتَسْخِيرِ الرِّيحِ بَدَلًا عَنْ الْخَيْلِ فَتَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ» ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي كِتَابِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَكِتَابِ حِصَصِ الْأَتْقِيَاءِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسِّ السَّمَاءِ) أَيْ اعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِخَلَفِهِ نَظِيرُ اعْتِبَارِنَا تَوَهُّمَ الْبِرِّ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَمَسُّ السَّمَاءَ أَوْ لَيُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَمِينِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهَا هَتْكُ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِاسْتِعْمَالِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ، وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا.
وَلَكِنَّنَا نَقُولُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَإِنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ الْجِنِّ {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] وَالْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ إلَيْهَا وَلَوْ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صُعُودِهَا لَصَعِدَهَا كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ لَوْ حَوَّلَهُ اللَّهُ عز وجل فَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَذَلِكَ كَافٍ لِلْحِنْثِ وَلَا يُؤَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى حِينِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ بِمَرَّةٍ فَلَا يَنْعَقِدُ لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُقَالُ: إعَادَةُ الزَّمَانِ الْمَاضِي فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا وَقَدْ فَعَلَهُ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ يَمِينُ الْغَمُوسِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ إعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلٍ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ كَاذِبًا فَيَسْتَحِيلُ فِيهِ الصِّدْقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ أَعَادَ الزَّمَانَ لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ الْحَالِفِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْغَمُوسُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (فَصَارَ مَشْرُوعًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَقَدْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي فَصَارَ رَاجِعٌ إلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ أَيْ فَصَارَ وُجُوبُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ مَشْرُوعًا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، ثُمَّ وَجَبَ النَّقْلُ يَعْنِي إلَى خَلَفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ.
قَوْلُهُ (كَمَنْ هَجَمَ) أَيْ دَخَلَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْهُجُومِ دُونَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِتْيَانُ بَغْتَةً وَالدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِتْيَانُ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ فِي هَذِهِ
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ الْحُسْنِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عِبَادَةً يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبَ الثَّانِيَ بِدَلِيلٍ وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لَمَّا تَنَاوَلَ الْأَمْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجُمُعَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِفَةِ حُسْنِهِ وَعَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى قَالَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ مِنْ الْمُقِيمِ مَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ
ــ
[كشف الأسرار]
الْحَالَةِ أَكْثَرُ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بِاسْتِئْذَانٍ رُبَّمَا يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ فَأَمَّا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَغْتَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّهَيُّؤُ لِذَلِكَ فَهُجُومُ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِتَعَبِ السَّفَرِ وَعَدَمِ مَنْ يُعْلِمُهُ بِالْوَقْتِ مِنْ مُؤَذِّنٍ وَنَحْوِهِ يُحَقِّقُ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِعَدَمِ تَهْيِئَتِهِ الْمَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الْأَصْلِ أَيْ الْوُضُوءُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، لِاحْتِمَالِ حُدُوثِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِالْعَجْزِ الظَّاهِرِيِّ إلَى خَلَفِهِ وَهُوَ التُّرَابُ
قَوْلُهُ (وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ) أَيْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ تَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ مَا حَسُنَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا فَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَقْسَامِ، أَوْ مَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ أَيْ النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَيْ مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبَ الثَّانِيَ أَيْ مَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْكُتُبِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَيْضًا فَقَالَ، وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي الْعِبَادَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ مِثْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالصَّلَاةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَثْبُتُ بِهِ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ لِعَيْنِهِ وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَثْبُتُ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَسَنِ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَا وَرَاءَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ أَقْوَى أَنْوَاعِ الطَّلَبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَالَ صِفَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الطَّلَبِ مِنْ الْحَكِيمِ لَمَّا اقْتَضَى نَفْسَ الْحُسْنِ فَكَمَالُهُ يَقْتَضِي كَمَالَ الْحُسْنِ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ إذْ هُوَ الْحُسْنُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُسْنُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْغَيْرِ لَهُ شَبَهٌ بِالْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْرِ بِفِعْلٍ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِعْبَادًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِهِ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ اُعْبُدُونِي بِهَا وَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا.
، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عِبَادَةً يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُمْ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى قُلْنَا ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعُمُومِ وَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ الْكَمَالِ فِيهِ وَكَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَمَنْ قَالَ الْحُسْنُ عَقْلِيٌّ قَالَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْحُسْنَ رَاجِعٌ إلَى ذَاتِهِ أَوْ إلَى غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِهِ وَمَنْ قَالَ هُوَ شَرْعِيٌّ فَالْحُسْنُ عِنْدَهُمْ مَا أَمَرَ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ حَسَنًا إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَمَّا تَنَاوَلَ الْأَمْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْجُمُعَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، دَلَّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى صِفَةِ حُسْنِهِ أَيْ عَلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْجُمُعَةُ حَسَنًا لِعَيْنِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ أَيْ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ صَلَّى الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الظُّهْرَ فِي مَنْزِله وَلَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ
وَقَالَا لَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ بِالْجُمُعَةِ بَلْ بِالظُّهْرِ صَارَ الظُّهْرُ حَسَنًا مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ فَإِذَا أَدَّوْهَا لَمْ تُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ مِنْ بَعْدُ، وَقُلْنَا نَحْنُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ الظُّهْرِ كَمَا قُلْتُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ يُقْضَى الظُّهْرُ وَلَا يَصْلُحُ قَضَاءٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَا تُقْضَى الْجُمُعَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَوْدٌ إلَى الْأَصْلِ
ــ
[كشف الأسرار]
لَا يُجْزِيهِ إلَّا إذَا أَعَادَ الظُّهْرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا هِيَ الْجُمُعَةُ فِي حَقِّهِ إذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ شَرْعِيَّةِ الظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ السُّلْطَانَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَوْتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَا) أَيْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنَّ الْمَعْذُورَ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ الظُّهْرُ وَهُوَ الْقِيَاسُ حَتَّى لَوْ شَرَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَقَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الظُّهْرِ، وَعِنْدَنَا يُنْتَقَضُ الظُّهْرُ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الظُّهْرِ وَصَارَ الظُّهْرُ حَسَنًا مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاءُ الظُّهْرِ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ إسَاءَةٍ وَإِذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ كَمَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ كَمَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَدَّى الْعَصْرَ وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا كَمَا لَوْ أَدَّى غَيْرُ الْمَعْذُورِ الظُّهْرَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ وَقَدْ تَعَيَّنَ الظُّهْرُ فِي حَقِّهِ فَانْدَفَعَ غَيْرُهُ ضَرُورَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْذُورَ لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ يَجُوزُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ، فَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ وَأَجْمَعْنَا أَنَّ الْمَعْذُورَ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَيْنًا بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ، فَإِذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا انْدَفَعَ الْآخَرُ كَالْمُكَفِّرِ عَنْ الْيَمِينِ إذَا كَفَّرَ بِنَوْعٍ بَطَلَ سَائِرُ الْأَنْوَاعِ وَلَمْ تَرَخَّصْ نَقْضُ مَا أَدَّى بِالْآخَرِ كَمَا إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ لَمْ يُنْتَقَضْ بِالظُّهْرِ.
قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْأَصْلِ) يَعْنِي فِي كَوْنِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ مُقْتَضِيًا لِكَمَالِ الْحُسْنِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ فَيَقُولُ الْفَرْضُ الْأَصْلِيُّ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ مَا يُخَاطَبُ الْآحَادُ بِإِقَامَتِهِ تُرَخِّصُ شَرَائِطَ لَا يَتَمَكَّنُ الْوَاحِدُ مِنْ إقَامَتِهَا بِنَفْسِهِ فَبَقِيَ الْفَرْضُ كَمَا كَانَ مَشْرُوعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ أَصْلًا يَنْوِي قَضَاءَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ الظُّهْرَ لِمَا صَحَّ نِيَّةُ قَضَاءِ الظُّهْرِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ فَثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ لِلظُّهْرِ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَبَقَاءِ الْوَقْتِ يُؤَدَّى الظُّهْرُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ قَضَاءً لِلْجُمُعَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا اسْمًا وَمِقْدَارًا وَشُرُوطًا كَيْفَ وَلَا قَضَاءَ لِلْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ لَيْسَ نَسْخَ الظُّهْرِ بَلْ قَضِيَّتُهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ بِفِعْلِنَا غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتْمٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ بَلْ رُخِّصَ لَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ الْجُمُعَةَ مَقَامَ الظُّهْرِ بِفِعْلِهِ وَيَأْتِي بِالْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ الظُّهْرِ كَانَ ذَلِكَ فَرْضَ وَقْتِهِ.
وَكَذَا الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضَ وَقْتِهِ وَفَرْضُ الْوَقْتِ مَا عُلِّقَ إلَّا بِالْوَقْتِ فَأَمَّا الْفَوْتُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ
وَثَبَتَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْأَمْرِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُقَرِّرًا لَا نَاسِخًا فَصَحَّ الْأَدَاءُ وَأَمَرَ بِنَقْضِهِ بِالْجُمُعَةِ كَمَا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْ الْمَعْذُورِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ رُخْصَةً فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَزِيمَةُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الضَّرْبَ الثَّالِثَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، أَمَّا إذَا فَاتَ الْأَدَاءُ بِحَالِ الْقُدْرَةِ بِتَقْصِيرِ الْمُخَاطَبِ فَقَدْ بَقِيَ تَحْتَ عُهْدَتِهِ وَجُعِلَ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ حُكْمًا لِتَقْصِيرِهِ وَأَمَّا إذَا فَاتَ لَا بِتَقْصِيرِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ كَانَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْفَائِتِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظُّهْرَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ كَمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَصَارَ كَأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الدُّلُوكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَبَبًا لِلظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ الْعَبْدُ الْجُمُعَةَ وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الظُّهْرِ إذَا أُدِّيَتْ، وَمِثَالُهُ وَقْتُ رَمَضَانَ عُلِّقَتْ شَرْعِيَّةُ الصَّوْمِ بِالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَيَسْقُطُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بِعِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إذَا صَلَّى الْمُقِيمُ الظُّهْرَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ وَقْتِهِ وَلَمْ يُنْسَخْ بِالْجُمُعَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِ الظُّهْرِ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ فِي حَقِّهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ الشَّهْرَ صَحَّ كَالْمُقِيمِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي أَنَّ الشَّهْرَ سَبَبُ شَرْعِ هَذَا الصَّوْمِ فِي حَقِّهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُقِيمُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ بَعْدَ الظُّهْرِ فَقَدْ انْتَقَضَ ظُهْرُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُسَاوِي الْمُقِيمَ فِي شَرْعِيَّةِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ فِي أَنْ ثَبَتَ لَهُ رُخْصَةُ التَّرْكِ وَهَذِهِ رُخْصَةٌ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةُ تَرْفِيهٍ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مُحَقِّقَةٌ لِلْعَزِيمَةِ لَا نَافِيَةٌ لَهَا فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْعَزِيمَةِ صَارَ مُعْرِضًا عَنْ الرُّخْصَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ فَالْتَحَقَ بِالْمُقِيمِ وَالْمُقِيمُ يَفْسُدُ ظُهْرُهُ بِجُمُعَتِهِ كَذَا هَذَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ.
(وَثَبَتَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْأَمْرِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] .
أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ أَيْ إقَامَتُهَا مَقَامَ الظُّهْرِ بِالْفِعْلِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ الذِّمَّةِ بِأَدَائِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ الْأَمْرُ بِالْجُمُعَةِ مُقَرِّرًا لِلظُّهْرِ لَا نَاسِخًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ فِدَاءِ إسْمَاعِيلَ عليه السلام بِالْكَبْشِ حَيْثُ وَقَعَ الذَّبْحُ عَنْ إسْمَاعِيلَ وَلِهَذَا سُمِّيَ ذَبِيحًا، وَأَمَرَ بِنَقْضِهِ أَيْ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ بَعْدَمَا أُدِّيَ كَمَا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] يَتَنَاوَلُ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّهِ وَلِأَنَّهُ وَقَعَ مَكْرُوهًا وَسَبِيلُهُ النَّقْضُ بِالْإِعَادَةِ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَمْرِ بِالنَّقْضِ إبْطَالُ الْعَمَلِ وَهُوَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِلْإِكْمَالِ جَائِزٌ وَلِأَنَّهُ إبْطَالٌ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ.
(وَإِنَّمَا وُضِعَ عَنْ الْمَعْذُورِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمَعْذُورَ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ فَإِذَا تَرَخَّصَ وَأَدَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ اسْتَوْفَى مُوجِبَ الرُّخْصَةِ فَلَا يَكُونُ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ مِنْهُ نَقْضًا لِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَبْدِيلُ الرُّخْصَةِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ مِنْ بَعْدُ، فَقَالَ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ لَا يُوجِبُ إبْطَالَ الْعَزِيمَةِ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا لِبَقَاءِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ جُمُعَتُهُ بَعْدَمَا حَضَرَ وَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَكَانَ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ حَرَجٍ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلُهُ.
(يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ) حَتَّى إذَا قَدَرَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ زَالَتْ الْقُدْرَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، حُكْمًا لِتَقْصِيرِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَلَمْ يُشْرَطْ الْبَقَاءُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ غَيْرُ وُجُودِهِ وَلِهَذَا صَحَّ إثْبَاتُ الْوُجُودِ
وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الْحَجُّ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا
ــ
[كشف الأسرار]
وَنَفْيُ الْبَقَاءِ بِأَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْوُجُودِ شَرْطَ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ؛ لِأَنَّهُ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ لَا أَنَّهُ تَكْلِيفٌ ابْتِدَائِيٌّ فَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْقُدْرَةُ.
، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِالنَّصِّ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَدَاءُ فَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْقُدْرَةَ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنْ الْعُمُرِ يَلْزَمُهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامَاتِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى تَدَارُكِهَا وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي خَلْفِهِ وَلَا خَلَفَ لِلْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَقَدْ بَقِيَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقُدْرَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَدَاءِ.
وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَضَاهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُومِيًا حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقُدْرَةَ فِي الْقَضَاءِ لِمَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ كَانَتْ وَاجِبَةً وَلَمْ يَأْتِ بِهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ قَضَاهَا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأَدَاءِ أَصْلُ الْقُدْرَةِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنْ الْأَدَاءِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا لَا قُدْرَةً مُكَيِّفَةً فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ مَا كَانَتْ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ شَرَطْنَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَا أَنْ يَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ مَشْرُوطَةً فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ عَلَى مَا يَسْتَطِيعُهُ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ مُطْلَقُ الْقُدْرَةِ لَا الْقُدْرَةُ الْمُكَيِّفَةُ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِمَا أَمْرًا عَارِضًا زَائِدًا، كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي هَذَا الْجَوَابُ وَقَوْلُهُ.
(وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ عَجْزًا كُلِّيًّا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَيَبْقَى تَحْتَ عُهْدَتِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ دَوَامَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَثَرُ عَدَمِ السُّقُوطِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ وُجُوبِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْفِعْلَ سَاقِطٌ عَنْ الْمَيِّتِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ لِبَقَائِهِ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا فَرَّطَ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ يَبْقَى الْوَاجِبُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال.
، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَقَاءَ الْوُجُوبِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْقُدْرَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَيَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ ثَانِيًا أَثِمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَوْتِ بِتَأْخِيرِهِ مُخْتَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقُدْرَةُ قَائِمَةً عِنْدَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَقْدِرْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ مَثَلًا بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ حَالَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَإِنْ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَقْدِرْ بَعْدُ حَتَّى مَاتَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ أَصْلًا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ حَالَةَ الْبَقَاءِ مَطْلُوبًا مِنْهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبًا مِنْهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ حَالَةَ الْفِعْلِ فَيَجِبُ الْفِعْلُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فِي