الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ مَا لَهُ مَصْرُوفًا إلَى مَا عَلَيْهِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ لَمَّا تَعَدَّدَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ إلَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ التَّعْيِينُ لِمَا قُلْنَا يَسْقُطُ بِضِيقِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ التَّوْسِعَةَ أَفَادَتْ شَرْطًا زَائِدًا وَهُوَ التَّعْيِينُ فَلَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِالْعَوَارِضِ وَلَا بِتَقْصِيرِ الْعِبَادِ
وَأَمَّا
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ
مِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مِعْيَارٌ لَهُ لِأَنَّهُ قُدِّرَ وَعُرِفَ بِهِ وَسَبَبٌ لَهُ وَذَلِكَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَابِ السَّبَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ صَارَ مَنْفِيًّا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ شَغْلَ الْمِعْيَارِ بِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وَصْفٌ انْتَفَى غَيْرُهُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي مِعْيَارِهِ فَانْتَفَى غَيْرُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ مَشْرُوعًا لَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنْ الْمُسَافِرِ لِأَنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ فِيهِ عَامٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ عَنْ الْفَرْضِ يُجْزِيهِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمَالِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ مَلَكَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْخِيَاطَةِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي فِعْلًا آخَرَ كَذَا هُنَا.
قَوْلُهُ (النِّيَّةُ شَرْطٌ لِيَصِيرَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَا عَلَيْهِ) أَيْ لِيَصِيرَ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ صَالِحَةً لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ مَصْرُوفَةً إلَى مَا عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ هَذَا تَفْسِيرُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ صَرْفُ مَالِهِ مِنْ الْمَشْرُوعِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ إلَى مَا عَلَيْهِ وَهَذَا صَرْفُ الْمَنَافِعِ فِي الْوَقْتِ إلَى مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَهُوَ إنْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْوَقْتِ لِتَعَدُّدِ الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ بِأَنْ يَقُولَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ إلَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ فَرْضَ الظُّهْرِ أَوْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ ذَلِكَ، وَذِكْرُ فَرْضِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَهِيَ لَا تُعَارِضُ الْأَصْلَ كَالْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالدَّارِ لَا تَسْقُطُ بِعَارِضِ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ وَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الْعِصْمَةُ لَمْ يَبْطُلْ بِهَذَا الْعَارِضِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَجَبَ التَّعْيِينُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِعَارِضِ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعَدُّدَ بَاقٍ فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى فَرْضًا آخَرَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ أَدَّى نَفْلًا جَازَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّوْمَ وَالْإِغْمَاءَ وَنَحْوَهُمَا أَيْ لَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِأَنْ نَامَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَسِيَ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَوَارِضِ وَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِتَقْصِيرِ الْعِبَادِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ
[النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ]
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مِعْيَارٌ) أَيْ الْوَقْتُ مِعْيَارٌ لِأَنَّهُ قُدِّرَ أَيْ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُدِّرَ بِالْوَقْتِ حَتَّى ازْدَادَ بِازْدِيَادِهِ وَانْتَقَصَ بِنُقْصَانِهِ كَالْمَكِيلِ بِالْكَيْلِ وَعُرِفَ بِهِ أَيْ الصَّوْمُ عُرِفَ بِالْوَقْتِ فَقِيلَ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ النَّهَارُ فِي تَعْرِيفِهِ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ فَكَانَ مُقَدَّرًا بِهِ وَكَانَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ ضَرُورَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَيَكُونُ تَأْكِيدًا لَقُدِّرَ أَيْ قُدِّرَ الصَّوْمُ بِالْوَقْتِ وَعُرِفَ مِقْدَارُ الصَّوْمِ بِهِ فَكَانَ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبٌ لَهُ عُطِفَ عَلَى مِعْيَارٍ أَيْ الْوَقْتُ سَبَبٌ لِلصَّوْمِ كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَيْ حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ شَغْلُ الْمِعْيَارِ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ بِهِ وَهُوَ أَيْ الْمِعْيَارُ وَاحِدٌ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ أَيْ لِلْمِعْيَارِ وَصْفٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِوَاجِبٍ يَعْنِي " الْمِعْيَارُ وَاحِدٌ " فَإِذَا صَارَ مِعْيَارًا لِلْفَرْضِ لَا يَسَعُ فِيهِ غَيْرَهُ مَعَ قِيَامِ الْفَرْضِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ تَعَيُّنِ الْفَرْضِ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ صَوْمَيْنِ بِإِمْسَاكٍ وَاحِدٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا إمْسَاكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مَشْرُوعًا فِيهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ شَرْعًا كَذَا قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لِأَنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَلِهَذَا لَوْ صَامَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ يَجْزِيه وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْعَهُ يَنْفِي شَرْعِيَّةَ
رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ وَهَذَا لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا نَوَى النَّقْلَ أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ فِي هَذَا كُلِّهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله الْوُجُوبُ وَاقِعٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ بِلَا تَوَقُّفٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ التَّرْكُ قَضَاءً لِحَقِّهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَسَاغَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ بَدَنِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَهُوَ قَضَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْلَى وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ مُتَعَلِّقًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ جِهَةِ الرُّخْصَةِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْغَيْرِ فَثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَإِذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءً فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَوْلُهُ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّرَخُّصَ مُخْتَصٌّ بِالْفِطْرِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ الصَّوْمَ لَا عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ صَارَ مُتَرَخِّصًا بِمَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا نَصْبَ الْمَشْرُوعِ لِلشَّرْعِ لَا انْقِيَادًا لِلشَّرْعِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ أَيْ أَدَاؤُهُ الْوَاجِبَ الْآخَرَ أَوْ التَّطَوُّعَ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ أَيْ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا كَالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَاقِّ.
وَمَعْنَى التَّرَخُّصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِفَرْضِ الْوَقْتِ وَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ الْوَاجِبِ وَلَمَا جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَنَافِعِ بَدَنِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ كَانَ أَوْلَى قَوْلِهِ.
(وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ) وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّهِ مُضَافٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» وَقَالَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَهَذَا يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ ثُمَّ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185] لِبَيَانِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَيُنْفَى بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ وَفِي حَدِيثِ «أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ» وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام مَرَّ بِرَجُلٍ مَغْشِيٍّ عَلَيْهِ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَقِيلَ إنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يَعْنِي لِمَنْ هَذَا حَالُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (بِلَا تَوَقُّفٍ) احْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْمُؤَدِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِنْدَهُمْ وَاحْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ السَّاعِي إنْ كَانَ قَائِمًا لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ وَإِنْ وُجِدَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّ وَصْفَهُ وَهُوَ النَّمَاءُ لَمْ يُوجَدْ. فَلَوْ وُجِدَ أَصْلُ السَّبَبِ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَلِفَوَاتِ وَصْفِهِ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ وَهَهُنَا السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَيَصِحُّ الْأَدَاءُ بِلَا تَوَقُّفٍ كَأَدَاءِ الْحَجِّ مِنْ الْفَقِيرِ لِكَمَالِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِلَا تَرَدُّدٍ وَشَكٍّ قَوْلُهُ.
(وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ)
وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ بَقِيَ مَشْرُوعًا فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ فِي سَفَرِهِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّ تَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شَعْبَانَ فَقُبِلَ سَائِرُ الصِّيَامَاتِ، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ النَّقْلُ بَلْ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَالثَّانِي يُوجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَالتَّرْكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا فِيهِ أَنْ يَقَعَ صَوْمُهُ بِكُلِّ حَالٍ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ فَيَظْهَرُ بِنَفْسِ الصَّوْمِ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فَيُلْحَقُ بِالصَّحِيحِ
ــ
[كشف الأسرار]
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ لَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَبْقَ غَيْرَهُ مَشْرُوعًا أَيْ صَارَ كَوْنُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامَاتِ مُتَعَلِّقًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ الرُّخْصَةِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَيْ لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الرُّخْصَةِ لِمَا ذَكَرْنَا بَقِيَ أَيْ غَيْرُ صَوْمِ الْوَقْتِ مَشْرُوعًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ كَمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى الرُّخْصَةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ إذْ هُوَ يَتَجَشَّمُ لِلْحَالِ مَرَارَةَ الْجُوعِ وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي الثَّانِي وَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْلِ إلَّا الثَّوَابُ وَهُوَ فِي فَرْضِ الْوَقْتِ أَكْثَرُ فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ لَا إلَى الْأَخَفِّ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّرَخُّصُ بَقِيَ صَوْمُ الْوَقْتِ مَشْرُوعًا فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ النَّفْلِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأَدَاءِ بِمَنَافِعِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ مِنْ حُكْمِ تَعَيُّنِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ فِيهِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَلَا يَنْتَفِي صِحَّةُ أَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ مِنْهُ بِهَذَا الْإِمْسَاكِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسَافِرَ ابْتِدَاءً بِصَوْمِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَتَأَجَّلَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ بِالْإِضَافَةِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبًا وَهُوَ فِي غَيْرِ رَجَبٍ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ رَمَضَانُ فَرْضًا إلَّا أَنْ يُعَجِّلَهُ وَلَمَّا نَوَى صَوْمًا آخَرَ مَا عَجَّلَهُ فَبَقِيَ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ مَا لَمْ يُعَجِّلْ الْفَرْضَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ.
وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ مُتَرَخِّصٌ بِأَدَاءِ النَّفْلِ أَيْضًا كَمَا أَنَّهُ مُتَرَخِّصٌ بِأَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ وَإِنَّ تَرَخُّصَهُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِصَوْمِ الْوَقْتِ وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ نِيَّةُ النَّفْلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِمَا وَقَعَ عَنْ صَوْمِ الْوَقْتِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَرْضَ فَبِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُهُ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ عَنْهُ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقَعُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عَنْ النَّفْلِ قِيلَ إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ رَمَضَانَ لَمَّا صَارَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ حَتَّى قِيلَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا فِي الظُّهْرِ الْمُضَيَّقِ وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ وَالْوَقْتُ يَقْبَلُهُمَا فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّفْلِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى أَوْلَى كَمَا فِي خَارِجِ رَمَضَانَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَتَرْكَ الْعَزِيمَةِ وَهِيَ صَوْمُ الْوَقْتِ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ بِنِيَّةِ صَرِيحِ النَّفْلِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ وَاجِبًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْلَى وَلَيْسَتْ بِنِيَّةِ صَرِيحِ النَّفْلِ أَيْضًا بَلْ هِيَ تَحْتَمِلُهُ كَمَا تَحْتَمِلُ فَرْضَ الْوَقْتِ وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ التَّرَخُّصُ الْتَحَقَ بِالْمُقِيمِ فَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ مِنْهُ يَنْصَرِفُ إلَى صَوْمِ الْوَقْتِ وَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الرُّخْصَةَ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ تَرْفِيهٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ لَا غَيْرُ قَوْلُهُ.
(أَمَّا الْمَرِيضُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا) إلَى آخِرِهِ احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا رَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ
فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّخْصَةَ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ بِقِيَامِ سَبَبِهِ وَهُوَ السَّفَرُ فَلَا يَظْهَرُ بِنَفْسِ الصَّوْمِ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فَلَا يَبْطُلُ التَّرَخُّصُ فَيَتَعَدَّى حِينَئِذٍ
ــ
[كشف الأسرار]
رحمه الله فَقَالَ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَصَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ صَائِمًا عَمَّا نَوَى وَلَوْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَصِيرُ صَائِمًا عَنْ رَمَضَانَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ صَائِمًا عَمَّا نَوَى وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْوَلْوَالِجِيِّ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْبُخَارِيِّ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ رحمهم الله فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ فِي الْإِيضَاحِ وَكَانَ مَشَايِخُنَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ قَالَ وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَصًّا أَنَّهُ إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا قُلْت وَكَشْفُ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَعْبَأُ فِيهِ بِقَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ مُتَنَوِّعٌ نَوْعٌ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوُ الْحُمَّيَاتِ الْمُطْبِقَةِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا ثَبَتَ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ تَرْفِيهًا فَمِنْ الْبَعِيدِ أَنْ يَثْبُتَ فِيمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى دَفْعِ ضَرَرٍ.
فَلِذَلِكَ شُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ بِكُلِّ حَالٍ فَتَعَلَّقَ التَّرَخُّصُ بِنَفْسِ السَّفَرِ وَأُقِيمَ السَّفَرُ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ لِمَا عُرِفَ ثُمَّ عِنْدَنَا يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ كَمَا يَثْبُتُ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَإِنَّ مَنْ ازْدَادَ وَجَعُهُ أَوْ حُمَّاهُ بِالصَّوْمِ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَإِنْ لَمْ يَعْجَزْ عَنْ الصَّوْمِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَرِيضُ إنْ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَصَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ بِوَجْهٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ إلَّا بِتَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَرَضَ لَمَّا تَنَوَّعَ كَمَا ذَكَرْنَا تَعَلَّقَ التَّرَخُّصُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَجْزُ الْحَقِيقِيُّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَتَعَلَّقَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ لَكِنْ لَمَّا آلَ أَمْرُ الْمَرِيضِ إلَى الضَّعْفِ الَّذِي عَجَزَ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ التَّرَخُّصُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَثْبُتُ بِالْإِكْرَاهِ إذْ مَعْنَى الْعَجْزِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ لَهَلَكَ غَالِبًا فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَلَمْ يَهْلِكْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ.
فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ قَوْلِهِ الْجَوَابُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ الْمَرِيضُ الَّذِي أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَتَعَلَّقَ تَرَخُّصُهُ بِازْدِيَادِ الْمَرَضِ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَتَعَلَّقَ تَرَخُّصُهُ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ.
وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا كَذَا أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ رِوَايَةَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أُجْرِيَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ لَأَوْجَبَتْ تَعْمِيمَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ مَرِيضٍ كَعُمُومِهِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فَالشَّيْخُ نَظَرَ إلَى عُمُومِهَا الظَّاهِرِيِّ وَأَشَارَ إلَى الْفَسَادِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا كَذَا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ
بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ إلَى حَاجَتِهِ الدِّينِيَّةِ قَالَ زُفَرُ رحمه الله وَلَمَّا صَارَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِهَذَا الْمَشْرُوعِ صَارَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَاعِلِ فَيَقَعُ لِلْمُسْتَحِقِّ بِكُلِّ حَالٍ كَصَاحِبِ النِّصَابِ إذَا وَهَبَهُ مِنْ الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَكَأَجِيرِ الْوَحْدِ يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ قُلْنَا لَيْسَ التَّعْيِينُ بِاسْتِحْقَاقٍ لِمَنَافِعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ قُرْبَةً وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ عَنْ اخْتِيَارٍ بِلَا جَبْرٍ بَلْ الشَّرْعُ لَمْ يُشَرَّعْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً إلَّا وَاحِدًا فَانْعَدَمَ غَيْرُ الْفَرْضِ الْوَقْتِيِّ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لَا بِاسْتِحْقَاقِ مَنَافِعِهِ كَمَا يَنْعَدِمُ فِي اللَّيْلِ أَصْلًا وَلَا اسْتِحْقَاقَ ثَمَّةَ فَإِذَا بَقِيَتْ الْمَنَافِعُ لَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّعْيِينِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَزِيمَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ هِبَةِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصْلُحُ مَجَازًا عَنْ الصَّدَقَةِ اسْتِحْسَانًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله
ــ
[كشف الأسرار]
ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله إنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ فَهَذَا يَدُلُّك بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ) التَّنْبِيهُ الْإِعْلَامُ يَعْنِي جَوَازَ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ لِحَاجَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِهِ بِأَدَاءِ الصَّوْمِ لِحَاجَتِهِ الدِّينِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَهَمُّ فَيَتَعَدَّى التَّرَخُّصُ أَوْ الْحُكْمُ مِنْ الْفِطْرِ إلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لِلْحَاجَةِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ.
قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَارَ مُتَعَيَّنًا) إلَى آخِرِهِ، الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ إذَا أَمْسَكَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُحْضِرْهُ النِّيَّةَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مَتَى تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ بِعَيْنِهِ أَخَذَ حُكْمَ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فَعَلَى أَيِّ وَصْفٍ وُجِدَ وَقَعَ عَنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالْأَمْرِ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إلَّا عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ كَالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَحَلِّ عَيْنٍ وَهُوَ النِّصَابُ كَانَ الصَّرْفُ إلَى الْفَقِيرِ وَاقِعًا عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا كَانَ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّعَ أَوْ أَدَاءَ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَالْفِقْهُ الْجَامِعُ لِلْكُلِّ أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ تَعَلُّقًا بِمَحَلِّ عَيْنٍ كَانَ مُتَعَيَّنًا عَلَى اعْتِبَارِ الْوُجُودِ فَإِذَا وُجِدَ وَقَعَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ إيجَادُهُ وَلَنَا حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ أُمِرَ الْعَبْدُ بِتَحْصِيلِهِ وَإِيجَادِهِ فِي وَقْتٍ عُيِّنَ وَالْإِيجَادُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَصُورَتُهُ الْإِمْسَاكُ وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ عِبَادَةً.
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَزِيمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يَقَعُ عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَهُ بِخِلَافِ هِبَةِ النِّصَابِ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَمَّ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَكَذَا الْفِعْلُ فِي الْإِجَارَةِ تَمَّ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنَافِعَهُ مَعَ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ لِلْفَرْضِ وَاسْتِحْقَاقِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَنَعْنِي بِهَا الصَّلَاحِيَّةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤَدِّيَ بِهَا مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ بِأَدَاءٍ يَكُونُ مِنْهُ عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَعْزِمْ لَا يَكُونُ صَارِفًا مَالَهُ إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يُقَالُ الْإِمْسَاكُ وُجِدَ مِنْهُ اخْتِيَارًا فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِيَحْصُلَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا شَرَطْنَا الِاخْتِيَارَ فِي صَرْفِ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ الْعَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ وَإِنَّمَا لَا يُمْكِنُهُ صَرْفُ مَنَافِعِهِ إلَى أَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَا لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجِيرِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَنَافِعُهُ إنْ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا وَالْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ إنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَزْمٍ يَكُونُ مِنْهُ وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ صَرْفَ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَالْهِبَةُ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْمُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْعِوَضِ مِنْ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الْهِبَةِ حَتَّى مَلَكَ الْمُتَصَدِّقُ الرُّجُوعَ بِدَلَالَةٍ فِي الْمَحَلِّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ النِّصَابِ مَعْنَى الْقَصْدِ حَصَلَ
لَمَّا كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَجَبَ التَّعْيِينُ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَارًا لَا مَجْبُورًا وَلَوْ وَضَعْنَا عَنْهُ تَعْيِينَ الْجِهَةِ لَصَارَ مَجْبُورًا فِي صِفَةِ الْعِبَادَةِ وَلَخَلَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَنْ الْإِقْبَالِ وَالْعَزِيمَةِ وَقُلْنَا الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْت إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ الْمَشْرُوعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَعَيَّنَ فِي زَمَانِهِ فَأُصِيبَ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ وَلَمْ يُفْقَدْ بِالْخَطَإِ فِي الْوَصْفِ كَالْمُتَعَيَّنِ فِي مَكَانِهِ فَصَارَ جَوَازُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِينٌ لَا عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ عَنْهُ مَوْضُوعٌ فَكَانَ هَذَا مِنَّا قَوْلًا بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله
ــ
[كشف الأسرار]
بِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ لِحَاجَةِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِفَقِيرٍ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَصْمَ نَظَرَ إلَى الْإِمْسَاكِ فَقَالَ هُوَ الْوَاجِبُ لَا غَيْرُ وَجَعَلَ تَأْثِيرَ النِّيَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ عُيِّنَ وَنَحْنُ جَعَلْنَا تَأْثِيرَهَا فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَهُوَ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَوَقَفْنَا الْحُصُولَ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى كَمَا وَقَفْنَا عَلَى حُصُولِ الصُّورَةِ أَوْ جَعَلْنَا تَأْثِيرَهَا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي تَحْصِيلِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْنَى أَوْ حُصُولِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَنْ اخْتِيَارٍ أَعْرَضْنَا عَنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا نَذْكُرُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبَ لِزُفَرَ وَيَقُولُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله وَهَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا مَا لَمْ يَبْقَ.
وَالْفَرْقُ لِزُفَرَ رحمه الله أَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَقُلْنَا إنَّمَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ قُرْبَةً وَفِي هَذَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَقَوْلُهُ كَصَاحِبِ النِّصَابِ أَدَاءً وَهِبَةً مِنْ الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ مَقِيسًا عَلَيْهِ لِزُفَرَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْفَقِيرِ غِنًى بِهَذِهِ الْهِبَةِ بِأَنْ كَانَ مَدْيُونًا أَوْ وَهَبَهُ مُتَفَرِّقًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا لِأَنَّ إيتَاءَ مَأْتِيِّ دِرْهَمٍ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ فَمَا ظَنُّك فِي الْهِبَةِ بِدُونِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِلْزَامَ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً أَيْ مِنْ فَرْضِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ وَالْمَنْذُورُ وَالْكَفَّارَةُ وَالنَّفَلُ إلَّا وَاحِدًا وَهُوَ فَرْضُ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّعْيِينِ أَيْ تَعْيِينِ الْمَنَافِعِ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ عِبَارَةٌ وَالْعِبَارَةُ شَيْءٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ عَدَمِ الْعَزِيمَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ
1 -
قَوْلُهُ (لِمَا بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ) أَيْ إلَى آخِرِهِ يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَنِيَّةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا عَنْ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ بِنِيَّةٍ مَا إلَّا بِنِيَّةِ فَرْضَ رَمَضَان لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمَّا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَجَبَ التَّعْيِينُ أَيْ تَعْيِينُ الْجِهَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ صَرْفُ مَالِهِ إلَى مَشْرُوعِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فِي عَزِيمَتِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ مُتَنَوِّعٌ فِي أَوْصَافِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا كَأَصْلِ الْإِمْسَاكِ مُتَنَوِّعٌ إلَى عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الْوَصْفِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ ثَوَابٍ وَيَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ زِيَادَةَ تَغْلِيظٍ فِي الْعِقَابِ فَكَانَ الْوَصْفُ بِنَفْسِهِ عِبَادَةً كَأَصْلِ الصَّوْمِ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ حُصُولُ عِبَادَةٍ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْ الْعَبْدِ فَكَمَا شُرِطَتْ الْعَزِيمَةُ لِلْأَصْلِ نَفْيًا لِلْجَبْرِ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلْوَصْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُقَالُ تَعَيَّنَ الْمَحَلِّ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ دُونَ غَيْرِهِ قَدْ أَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ الْوَصْفِ لِأَنَّا نَقُولُ تَعَيُّنُ الْوَصْفِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ لِيَقَعَ عَنْ اخْتِيَارٍ وَلَا يُغْنِي تَعَيُّنُ الْمَحَلِّ عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا إذْ نَحْنُ مَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ لِلتَّمْيِيزِ حَتَّى يَسْقُطَ اعْتِبَارُ التَّمَيُّزِ بِالنِّيَّةِ بِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِلتَّحْصِيلِ عَلَى مَا حَقَّقْنَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْفَرْضِ حَيْثُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدِي لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.
وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
عليه السلام أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ وَمَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي فَقَالَ أَحَجَجْت عَنْ نَفْسِك قَالَ لَا فَقَالَ عليه السلام حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» فَأُمِرَ بِالْحَجِّ لِنَفْسِهِ بِإِحْرَامٍ انْعَقَدَ لِغَيْرِهِ فَجَوَّزْنَا عَنْ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا دَلَالَةً وَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الصَّوْمِ بِالْحَجِّ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَجِّ عَظِيمُ الْخَطَرِ لِمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي مَعْنَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْت أَيْ لَا بُدَّ لِلْوَصْفِ مِنْ التَّحْصِيلِ بِالنِّيَّةِ نَفْيًا لِلْجَبْرِ كَمَا لَا بُدَّ لِلْأَصْلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ الْمَوْجُودَةَ شَامِلَةٌ لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ حَتَّى إذَا نَوَى بِهَذَا الْوَصْفِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَهُوَ بِنِيَّةِ أَصْلِ الصَّوْمِ نَوَى مَشْرُوعُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِيهِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفَرْضُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْوَاحِدُ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَمَا يُنَالُ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ فَإِنَّ زَيْدًا لَوْ نُودِيَ يَا إنْسَانُ أَوْ يَا رَجُلُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِي الدَّارِ كَانَ كَمَا قِيلَ يَا زَيْدُ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قَدْ وُجِدَ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا رحمهم الله إنَّهُ صَوْمٌ عُيِّنَ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا صَوْمَ مَعَ النَّفْلِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ غَيْرُهُ بِعَوَارِضَ وَكَذَلِكَ إذَا نَوَى النَّفَلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ نَفْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مُطْلَقًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا نَوَى الْفَرْضَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْلًا لِأَنَّ الْوَصْفَ لَغَا فَبَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ.
(فَإِنْ قِيلَ) الْوَاحِدُ فِي الْمَكَانِ إنَّمَا يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَهَهُنَا الصَّوْمُ مَعْدُومٌ يُوجَدُ بِتَحْصِيلِهِ فَكَيْفَ يُنَالُ الْمَعْدُومُ بِاسْمِ جِنْسِهِ (قُلْنَا) كَوْنُهُ مَعْدُومًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ نَوَى الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ بِاسْمِ جِنْسِهِ لِأَنَّ اسْمَ جِنْسِهِ اسْمُهُ كَمَا أَنَّ اسْمَ نَوْعِهِ اسْمُهُ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُتَوَحِّدَ فِي الْمَكَانِ يُنَالُ بِاسْمِهِ وَلَا يُنَالُ بِاسْمِ غَيْرِهِ فَإِنَّ زَيْدًا لَا يُنَالُ بِاسْمِ عَمْرٍو وَإِنْ كَانَ يُنَالُ بِاسْمِ إنْسَانٍ وَرَجُلٍ كَيْفَ وَأَنَّهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الثَّقِيلَ إلَى الْخَفِيفِ فَإِنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي النَّفْلِ أَوْ فِي الْقَضَاءِ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ لِتَضَادٍّ بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ.
(قُلْنَا) إنَّهُ قَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَوَصْفَهُ وَالْوَقْتُ لَا يَقْبَلُ وَصْفَهُ فَلَغَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِالْوَصْفِ وَأَصْلُ الصَّوْمِ جِنْسُهُ لَا اسْمُ غَيْرِهِ بِخِلَافِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَيْسَ بِاسْمِ جِنْسٍ أَصْلًا وَالْأَعْرَاضُ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ النَّفْلِ وَقَدْ لَغَتْ الِاتِّفَاقَ فَيَلْغُو مَا فِي ضِمْنِهَا وَنَظِيرُهُ الْحَجُّ عَلَى مَذْهَبِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ اسْمٌ لِفِعْلٍ أَلْزَمهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِقْدَارَهُ وَأَظْهَرَ لَنَا إلْزَامَهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِطَرِيقٍ لَا رِيبَةَ فِيهِ فَلَوْلَا الْإِلْزَامُ الظَّاهِرُ لَمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ فَرِيضَةً وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَحْصُلُ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ
لَمَّا وَجَبَ التَّعْيِينُ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ مِنْ أَوَّلِهِ لِأَنَّ أَوَّلَ أَجْزَائِهِ فِعْلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَزِيمَةِ فَإِذَا تَرَاخَى بَطَلَ فَإِذَا اعْتَرَضَتْ الْعَزِيمَةُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ لِأَنَّ إخْلَاصَ الْعَبْدِ فِيمَا قَدْ عَمِلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَا لَمْ يَعْمَلْهُ بَعْدُ فَإِذَا فَسَدَ ذَلِكَ الْجُزْءُ فَسَدَ الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَا يَنْجَزِئُ وَوَجَبَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا
ــ
[كشف الأسرار]
لِغَيْرِهِ شَرِكَةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مَشْرُوعَةً بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مُوَافَقَةِ الْهَوَى لَتَسَارَعَ إلَيْهَا الْمُكَلَّفُونَ لِمَا فِيهَا مِنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى وَاسْتِلْذَاذِ النَّفْسِ لِذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّرِكَةُ فَيَزُولُ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَتْ الْعِبَادَةُ اسْمًا لِلْفِعْلِ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِوُجُودِ فِعْلٍ آخَرَ مِنْ الْفَاعِلِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ تَوْجِيهَ فِعْلِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَإِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ هَهُنَا كَانَ الْإِمْسَاكُ عِبَادَةً فَبَعْدَ ذَلِكَ اتِّسَامُهُ بِسِمَةِ الْفَرْضِيَّةِ لَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الْإِلْزَامِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقٍ ظَهَرَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ فَتَتَّسِمُ هَذِهِ الْعِبَادَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَشَأْ كَالْمَوْلُودِ إذَا وُلِدَ وَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ وَلَدَتْ قَبْلَهُ آخَرَ يَتَّسِمُ هَذَا بِسِمَةِ الْأُخُوَّةِ لِوُجُودِ مَنْ يُقَابِلُهُ.
فَكَذَا هَذَا غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا آخَرَ ظَنَّ أَنْ لَا أَمْرَ بِتَحْصِيلِ عِبَادَةِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ وَحَصَلَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَّسِمْ بِسِمَةِ الْفَرْضِ لِزَوَالِ الْأَمْرِ بِالْإِمْسَاكِ الْمُعَيَّنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَهَذَا الظَّنُّ مِنْهُ فَاسِدٌ كَمَا ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ لَا يُسَمَّى أَخًا لِأَنَّ أُمَّهُ مَا وَلَدَتْ قَبْلَهُ وَقَدْ كَانَتْ وَلَدَتْ كَانَ الظَّنُّ بَاطِلًا وَالْإِثْمُ ثَابِتًا كَذَا هَذَا قَالَ وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا شَكَّ إنْسَانٌ فِيهِ وَشَرَعَ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَكُونَ هَذَا الظَّنُّ مَعْفُوًّا فَأَمَّا لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ فَيُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَا أَمْرَ بِالْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِمْسَاكِ وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ يُخْشَى مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَرَفَ جَيِّدَ الْخُصُومِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ بِتَعَلُّقِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَإِنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً بِدُونِ النِّيَّةِ لَكِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْجَبْرِ حَيْثُ أَخْرَجَ عَمَلَهُ الْمَقْرُونَ بِالْإِخْلَاصِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً وَكَذَا قَوْلُهُ عليه السلام «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ ثُمَّ يَكُونُ الصَّوْمُ فَرْضَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ الْإِلْزَامِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
1 -
قَوْلُهُ (لَمَا وَجَبَ التَّعْيِينُ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ وَجَبَ تَعْيِينُ مَشْرُوعِ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا أَمَّا بِتَعْيِينِ الْوَصْفِ كَمَا قُلْت أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَصْلِ كَمَا قُلْتُمْ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْ أَوَّلِهِ فَإِذَا صَامَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا خَلَا أَوَّلُهُ عَنْ النِّيَّةِ فَسَدَ لِفَقْدِ شَرْطٍ وَلَا وَجْهَ إلَى تَصْحِيحِهِ بِأَعْمَالِ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي الْمَاضِي بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِأَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّ الْعَزْمَ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَيْثُ تَحْقِيقُهُ وَإِيجَادُهُ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَلَمْ يَبْقَ قَادِرًا وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِهِ فِي الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَرُدُّهُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكُلِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنْزَالُهُ مُوجِدًا فِي الْكُلِّ بِالْإِيجَادِ فِي الْبَعْضِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالْإِمْسَاكِ فِي الْأَكْثَرِ وَلَا يُقَامُ مُقَامَ الْكُلِّ فَكَذَا فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا يُوجَدُ مَعْنَى الصَّوْمِ وَإِذَا فَسَدُوا لَهُ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَسَدَ الْبَاقِي ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي.
وَلَا يُقَالُ لَمَّا صَحَّ الْبَاقِي بِوُجُودِ الْعَزِيمَةِ فِيهِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ تَرْجِيحُ الْفَسَادِ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ إذْ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ
وَهَذَا بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَاقِعٌ عَلَى جُمْلَةِ الْإِمْسَاكِ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ فَبَقِيَ فَأَمَّا الْمُعْتَرِضُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّقَدُّمَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ وَأَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّوْمِ الدَّيْنُ وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
ــ
[كشف الأسرار]
تَرْجِيحُ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّفَلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَائِمًا مِنْ حِينَ نَوَى لِمَا بَيَّنَهُ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ) أَيْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ عَنْ أَوَّلِ الْإِمْسَاكَاتِ يُخَالِفُ تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ حَيْثُ جَازَ التَّقْدِيمُ مَعَ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَوَّلِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَاقِعٌ عَلَى جُمْلَةِ الْإِمْسَاكِ يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ فِي اللَّيْلِ أَنَّهُ يُمْسِكُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ فَصَحَّتْ النِّيَّةُ بِوَضْعِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا عَزْمًا فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ مَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُضَادُّهُ مِنْ تَرْكِ الْعَزِيمَةِ وَالْإِفْطَارِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُوَاقَعَةُ فِي اللَّيْلِ لَا يُنَافِي الْعَزِيمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُنَافَاةِ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ أَصْلًا فَالْأَكْلُ وَمَا يُشْبِهُهُ لَا يُنَافِي عَزِيمَتَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ يُحْكَمُ بِبَقَائِهَا إلَى حِينِ الشُّرُوعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِهَا مُقْتَرِنَةً بِحَالَةِ الشُّرُوعِ وَلِهَذَا عَمَّ الْجَوَازُ أَنْوَاعَ الصِّيَامَاتِ مِنْ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُهُ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ حُكْمًا إذَا تُصُوِّرَ حَقِيقَةً وَهَذَا كَالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ جُعِلَتْ بَاقِيَةً حُكْمًا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ.
أَمَّا النِّيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِاقْتِرَانِهَا بِأَوَّلِ الصَّلَاةِ لِلتَّعَذُّرِ كَذَا هُنَا ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الشَّيْخُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بِمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ جَازَ الْحُكْمُ بِاقْتِرَانِ هَذِهِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْإِمْسَاكِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ هُنَاكَ بَيْنَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ وَأَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّوْمِ الدَّيْنِ وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَيْ بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا حَيْثُ جَازَ التَّقْدِيمُ وَلَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ فَإِنَّ الْإِفْطَارَ فِيهِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ دُونَ غَيْرِهِ وَعِنْدَنَا إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ يُجْزِيهِ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ وَفِي الْجَوَازِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَرْطًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْمَشْرُوطِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ مُقَارَنَتُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَلَا بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِهَا وَتَعَذُّرِ تَحْصِيلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَفُوتُ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجْوِيزِ التَّقْدِيمِ لِيَحْصُلَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالتَّأْخِيرُ يُسَاوِي التَّقْدِيمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ التَّأْخِيرَ لَأَدَّى إلَى التَّفْوِيتِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْشِئُ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ أَمْرٌ غَالِبٌ وَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ رَأْسُ الشَّهْرِ وَهُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَقَدْ تَطْهُرُ الْمَرْأَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَلَا تَشْعُرُ إلَّا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ.
وَكَذَا الصَّبِيُّ قَدْ يَبْلُغُ فِي اللَّيْلِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَكَذَا الْكَافِرُ قَدْ يُسْلِمُ فِي اللَّيْلِ وَلَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ النَّهَارِ وَإِذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَاجَةِ وَجَبَ إلْحَاقُ التَّأْخِيرِ بِالتَّقْدِيمِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الصَّوْمِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحَاجَتَيْنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَإِلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ خَاصَّةً فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَابِتَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَحْوَالُ الدَّهْمَاءِ لَا عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْأَشْخَاصُ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ مَحَلًّا لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحَائِضِ النَّائِمَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُحْتَلِمِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْحَاجَةَ الْخَاصَّةَ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى
وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لَأَنْ يَصِيرَ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالثَّبَاتُ عَلَى الْعَزِيمَةِ حَالَ الْأَدَاءِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ لِلْعَجْزِ وَحَالَ الِابْتِدَاءِ سَاقِطٌ أَيْضًا لِلْعَجْزِ وَصَارَ حَالُ الِابْتِدَاءِ هُنَا نَظِيرَ حَالِ الْبَقَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَحَالُ الْبَقَاءِ نَظِيرَ حَالِ الِابْتِدَاءِ فِي صَلَاةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
أَنَّ الْجَوَازَ لَوْ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَثَبَتَ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْحَاجَةُ لَا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِحَاجَةٍ عَامَّةٍ سَقَطَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَاجَةِ وَوَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَا ثَبَتَ لِحَاجَةٍ خَاصَّةٍ اُقْتُصِرَ عَلَى مَوْضِعِهَا لِكَوْنِهَا عَارِضَةً وَفِي اعْتِبَارِهَا تَغْلِيبُ الْعَارِضِ عَلَى الْأَصْلِ وَلِهَذَا لَمْ يَبْقَ لِلْحَاجَةِ عِبْرَةٌ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنْ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْحَوَائِجِ لِكَوْنِهَا عَامَّةً وَاعْتُبِرَتْ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ حَتَّى اُقْتُصِرَ عَلَى مَنْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهَا خَاصَّةً إذْ الْأَصْلُ وُجُودُ الْمَاءِ وَكَوْنُ الْعَوَزِ وَالْعَدَمِ فِيهِ عَارِضًا.
(قُلْنَا) إنَّا إنَّمَا سَوَّيْنَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْحَاجَةِ لَا بِاعْتِبَارِ قَدْرِهَا فَنَطْلُبُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَصْلِ الْحَاجَةِ لَا فِي قَدْرِهَا وَقَدْ وُجِدَتْ كَمَا بَيَّنَّا فَيَفْسُدُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِالدَّوَامِ وَعَدَمِهِ وَكَذَا بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ إذْ الْخَاصَّةُ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهَا كَالْعَامَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْحَاجَةُ إلَى تَجْوِيزِ الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ خَاصَّةٌ فِيمَا يُشْرَعُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَاخْتَصَّ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ فِيهِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّ بِنَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا عُمِّمَ وَغَلَبَ دُونَ مَا شَذَّ وَنَدَرَ كَلَامٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا كَانَ مِنْ الْخَاصِّ فِي حَيِّزِ النُّدْرَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فَلَهُ الْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ كَعَدَمِ الْمَاءِ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ الْوُجُودُ هُنَا هُوَ الْغَالِبَ لِدُخُولِ الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ وَخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ النُّدْرَةِ وَهَهُنَا الْأَعْذَارُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ لِكَثْرَةِ جَهَالَتِهَا إذْ مِنْ ضَرُورَةِ كَثْرَةِ الْجِهَاتِ كَثْرَتُهَا عَلَى أَنَّ الْجِهَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا جِهَةَ النِّسْيَانِ لَدَخَلَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى طَبْعِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ فَكَيْفَ وَقَدْ كَثُرَتْ الْجِهَاتُ عَلَى مَا سَبَقَ وَقَوْلُهُمْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ الْقَاصِرَةِ لَمْ يَعْدُ مَوْضِعُهَا قُلْنَا فَجَوَّزُوا فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَخَالَفُونَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْعُذْرُ فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ بَلْ يُوجَدُ مِنْهُ النِّيَّةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي اللَّيْلِ بِأَكْلِ زِيَادَةٍ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ شُرْبِ زِيَادَةِ شُرْبِهِ وَإِنْ تُصُوِّرَ وَوُجِدَ فَهُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ.
أَوْ نَقُولُ إذَا تَحَقَّقَ فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا عِنْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ عَنْ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَصَارَ كَالْمَعْذُورِينَ وَإِذَا حَقَّقْتَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فَاصْغَ لِشَرْحِ مَا فِي الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَأَنْ يَصِيرَ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً مَعْنَاهُ النِّيَّةُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِغَيْرِهَا لَا لِذَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَاحِدٌ أَيْ الْكَفُّ إلَى آخِرِ النَّهَارِ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا أَرْكَانٌ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ صِحَّةً وَفَسَادًا حَتَّى لَوْ فَسَدَ جُزْءٌ مِنْهُ فَسَدَ الْكُلُّ وَلَوْ حُكِمَ بِصِحَّةِ جُزْءٍ بَعْدَمَا تَمَّ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْكُلِّ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ كَانَ مُتَرَكِّبًا مِنْ جِنْسِ الْإِمْسَاكِ الدَّائِمِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ إلَى آخِرِهِ وَلَكِنْ جُعِلَ جِنْسُ الْإِمْسَاكِ كُلِّهِ فِي حَقِّ كَوْنِهِ صَوْمًا كَشَيْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُتَعَدِّدَةَ إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ خِطَابٍ وَاحِدٍ صَارَتْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] لَمَّا دَخَلَ جَمِيعُ الْبَدَنِ تَحْتَ الْخِطَابِ صَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَازَ نَقْلُ الْبَلَّةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَمَّا دَخَلَتْ الْإِمْسَاكَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] صَارَتْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَجَزَّأُ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالثَّبَاتُ عَلَى
ثُمَّ الْعَجْزُ أَطْلَقَ التَّقْدِيمَ مَعَ الْفَصْلِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَجُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا فَصَارَ لَهُ فَصْلُ الِاسْتِيعَابِ.
وَنُقْصَانُ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ وَالْعَجْزُ الدَّاعِي إلَى التَّأْخِيرِ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُقِيمُ بَعْدَ الصُّبْحِ أَوْ يُفِيقُ عَنْ إغْمَائِهِ وَفِي يَوْمِ الشَّكِّ ضَرُورَةٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ حَرَامٌ وَنِيَّةُ النَّفْلِ عِنْدَك لَغْوٌ فَقَدْ جَاءَتْ الضَّرُورَةُ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَا التَّأْخِيرُ مَعَ الْوَصْلِ بِالرُّكْنِ أَوْلَى وَلِهَذَا رُجْحَانٌ فِي الْوُجُودِ عِنْدَ الْفِعْلِ وَهُوَ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ وَنُقْصَانُ الْقُصُورِ عَنْ الْجُمْلَةِ بِقَلِيلٍ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ فَاسْتَوَيَا فِي طَرِيقِ الرُّخْصَةِ بَلْ هُوَ أَرْجَحُ وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْفِطْرِ فِيهِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْعَزِيمَةِ حَالَ أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعَزْمِ إلَى حَالَةِ الِانْتِهَاءِ سَاقِطٌ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ وَرُبَّمَا لَا يَكُونُ فِي الْوُسْعِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْعَجْزِ وَلِهَذَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ الصَّوْمُ بَعْدَمَا وَجَدَ الْعَزْمَ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَوَّلِهَا لِاسْتِدَامَةِ النِّيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا وَحَالَ الشُّرُوعِ فِي الْأَدَاءِ أَيْ الثَّبَاتِ عَلَى الْعَزِيمَةِ فِي حَالَةِ الشُّرُوعِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَاقِطٌ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَسْتَدِيمَ تِلْكَ النِّيَّةَ إلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْعَزِيمَةِ بِأَوَّلِ حَالِ الْأَدَاءِ أَيْضًا لِلْعَجْزِ وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ مُشْتَبِهٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالنُّجُومِ وَمَعْرِفَةِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فِي حَقِّ عَامَّةِ الْخَلْقِ الَّذِينَ ثَبَتَ أُمُورُ الشَّرَائِعِ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَلَمْ يَحْرُمْ النَّوْمُ فِيهِ شَرْعًا أَيْضًا بَلْ سُنَّ لِمَنْ قَامَ بِاللَّيْلِ وَبَعْدَمَا كَانَ مُتَيَقِّظًا وَلَمْ يَشْتَبِهْ أَوَّلُ الْفَجْرِ بِاللَّيْلِ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِهِ وَصَارَ حَالُ الِابْتِدَاءِ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَخْرُجُ فِي قِرَانِ النِّيَّةِ وَبِهَا نَظِيرُ حَالِ الْبَقَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَخْرُجُ فِيهَا عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْعَزِيمَةِ وَحَالُ الْبَقَاءِ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ نَظِيرَ حَالِ الِابْتِدَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِابْتِدَاءِ الصَّوْمِ مُتَعَذِّرٌ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْعَزِيمَةِ حَالَ بَقَائِهِ كَذَلِكَ وَقِرَانُ أَصْلِ النِّيَّةِ بِهِ حَالَ الْبَقَاءِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً بِرُكْنِ الْعِبَادَةِ كَالنِّيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ أَوْلَى بِاعْتِبَارٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا الْعَجْزُ وَهُوَ تَعَذُّرُ قِرَانِ النِّيَّةِ بِابْتِدَائِهِ أَطْلَقَ التَّقْدِيمَ أَيْ أَجَازَهُ مَعَ فَصْلِ النِّيَّةِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ الصَّوْمُ إلَى الْغُرُوبِ جَازَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ حَالَ الشُّرُوعِ وَلَا حَالَ الْبَقَاءِ حَقِيقَةً وَجُعِلَ أَيْ الْعَزْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا فَصَارَ لَهُ أَيْ لِمَا قَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ فَضْلُ اسْتِيعَابٍ أَيْ هُوَ مُسْتَوْعِبٌ لِجَمِيعِ الْإِمْسَاكَاتِ تَقْدِيرًا لِأَنَّهُ نَوَى الْإِمْسَاكَ مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْغُرُوبِ وَنُقْصَانُ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ حَقِيقَةً حَالَةَ الْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ أَيْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَلِمَةُ عَلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَدَاءِ لَا بِالْوُجُودِ وَالْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالْأَدَاءِ لِيَمْتَازَ الْعِبَادَةَ عَنْ الْعَادَةِ وَقَدْ عُدِمَتْ هُنَا حَقِيقَةً وَإِنْ وُجِدَتْ تَقْدِيرًا وَالْعَجْزُ الدَّاعِي إلَى التَّأْخِيرِ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْعَجْزَ الَّذِي ذَكَرْنَا كَمَا هُوَ دَاعٍ إلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ وَمُرَخِّصٌ لَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ دَاعٍ إلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَأَمْثَالِهِ وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ بِتَجْوِيزِ التَّقْدِيمِ فِي الْجِنْسِ لِأَنَّ فِيهِمْ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ بِالْكُلِّيَّةِ بِتَجْوِيزِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ وَفِي يَوْمِ الشَّكِّ ضَرُورَةٌ لَازِمَةٌ أَيْ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ أَيْ فَرْضِ الْوَقْتِ حَرَامٌ وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ أَدَاءَ صَوْمِ فَرْضِ رَمَضَانَ غَدًا وَبَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
فَثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ لَازِمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِتَأْخِيرِ النِّيَّةِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ مَعَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ هَذَا الْعَجْزُ أُطْلِقَ التَّقْدِيمُ مَعَ الْفَصْلِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ يَعْنِي لَمَّا جَازَ الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَعَ فَصْلِهَا عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالٍ أُخَرَ مُنَافِيَةٍ لِلصَّوْمِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِهَا مَعَ وَصْلِهَا بِالرُّكْنِ كَانَ أَوْلَى (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إنْ لَوْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُتَأَخِّرَةِ تَقْدِيرًا كَالْمُتَقَدِّمَةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَتَى تَقَدَّمَتْ وَصَحَّتْ بِمَوْضُوعِهَا عَزْمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَقِيَتْ كَذَلِكَ وَاقْتَرَنَتْ بِكُلِّ جُزْءٍ لِأَنَّ نِيَّتَهُ انْتَظَمَتْ أَجْزَاءَ الْوَقْتِ وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْبَعْضِ لَمْ يَصِحَّ فَمَتَى تَأَخَّرَتْ صَارَتْ كَمَا نَوَى صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ إذْ هِيَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ مَا (قُلْنَا) لَا حَاجَةَ إلَى الْقَوْلِ بِبَقَائِهِ حُكْمًا لِأَنَّهُ قَامَ دَلِيلُ سُقُوطِ الِامْتِدَادِ حَقِيقَةً فَلَئِنْ سَاغَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاقْتِرَانِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ حُكْمًا مَعَ انْعِدَامِهِ حَقِيقَةً جَازَ لِآخَرَ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ الِاقْتِرَانَ بِجُزْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةً كَالِاقْتِرَانِ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ صَوْمًا جُمْلَةً الْإِمْسَاكَاتِ فِي الْيَوْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الِاقْتِرَانُ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةً اقْتِرَانًا بِالْكُلِّ حُكْمًا كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ.
ثُمَّ شَرَعَ الشَّيْخُ فِي بَيَانِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا أُخِّرَ مِنْ النِّيَّةِ رُجْحَانٌ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْوُجُودِ عِنْدَ الْفِعْلِ أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْفِعْلِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ أَيْ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالْعَمَلِ فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ حَقِيقَةً كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ الْأَصْلِ وَالِاقْتِرَانُ بِهِ تَقْدِيرًا لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَكَانَ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِرَانُ حَقِيقَةً لَا تَقْدِيرًا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فِي الْمُتَأَخِّرَةِ دُونَ الْمُتَقَدِّمَةِ وَنُقْصَانُ الْقُصُورِ أَيْ وَلَهُ نُقْصَانٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي أَوَّلِهِ وَلَكِنَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ الْعَدَمُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْعَزِيمَةُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مَحَلُّ الْعَفْوِ كَالنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ وَالِانْكِشَافِ الْقَلِيلِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَابْتِلَاعِ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ مِمَّا بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالًا وَنُقْصَانًا فَالْكَمَالُ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ الِاسْتِيعَابُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا عَدَمُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ وَالْكَمَالُ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا قُصُورُهَا عَنْ الْجُمْلَةِ حَقِيقَةً فَكَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي طَرِيقِ الرُّخْصَةِ أَيْ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ بِهَا بَلْ هَذَا رَاجِحٌ أَيْ التَّأْخِيرُ أَوْلَى بِالتَّرَخُّصِ بِهِ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ فِيهِ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ أَقَمْنَا النِّيَّةَ فِي الْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ كَمَا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ ثَابِتٌ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَصَارَ جِهَةُ النُّقْصَانِ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ مُعَارِضَةً لِجِهَةِ الْكَمَالِ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ فَسَلَّمَ جِهَةَ الْكَمَالِ وَهِيَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ لِلْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ التَّعَارُضِ فَصَارَ التَّأْخِيرُ أَرْجَحَ.
(فَإِنْ قِيلَ) يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ أَفْضَلَ عِنْدَكُمْ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ إذْ النِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ اللَّيْلِ بِالْإِجْمَاعِ (قُلْنَا) إنَّمَا كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِيهَا الْمُسَارَعَةَ إلَى الْأَدَاءِ وَالتَّأَهُّبَ لَهُ أَوْ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ لِإِكْمَالٍ فِي الصَّوْمِ كَمَا أَنَّ الِابْتِكَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى مِنْ السَّعْيِ بَعْدَ النِّدَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ لَا لِتَعَلُّقِ
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَلَمَّا صَحَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ لِلضَّرُورَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَالَهُ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ وَجْهٍ خَلَفًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوُجُودَ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ فِي مُقَابَلَتِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ تَقْدِيرًا فَلَمْ نُجَوِّزْهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُودِ رَاجِحٌ وَبَطَلَ التَّرْجِيحُ عَلَى مَا قُلْنَا بِصِفَةِ الْعِبَادَة لِأَنَّهُ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَالْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ مِنْ بَابِ الْوُجُودِ وَالْوُجُودُ قَبْلَ الْحَالِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا دَرَكَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْعِبَادِ وَاجِبٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا
ــ
[كشف الأسرار]
كَمَالِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ إلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ
قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَحَّ الِاقْتِصَارُ) إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ أَيْ لَمَّا صَحَّ اقْتِصَارُ النِّيَّةِ عَلَى بَعْضِ الْإِمْسَاكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْبَعْضِ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَكُونَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِهِ كَقِرَانِهَا بِالْكُلِّ تَقْدِيرًا وَذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ إذْ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بِخِلَافِ الرُّبْعِ وَالثُّلُثِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْكُلِّ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ الِاحْتِيَاطِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ لَكَانَتْ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ الَّتِي تُقَابِلُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَغَلَبَ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَقَرُبَ إلَى الْكُلِّ فَكَانَ الْحُكْمُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى وِفَاقِ الدَّلِيلِ خَلَفًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ وَهَذَا كَالْمِثْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقِيمَةُ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمِثْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوُجُودَ فِي الْأَكْثَرِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَصِيرِ إلَى مَالَهُ حُكْمُ الْكُلِّ أَنْ يَشْتَرِطَ وُجُودَ النِّيَّةِ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ الَّذِي لَمْ يُصَادِفْهُ النِّيَّةُ فِي مُقَابِلَةِ الْأَكْثَرِ الَّذِي صَادَفَتْهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ الثَّابِتِ تَقْدِيرًا يَعْنِي إنَّمَا وَجَبَ تَرْكُ اعْتِبَارِ الْكُلِّ الْحَقِيقِيِّ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ التَّقْدِيرِيِّ وَاعْتِبَارِ مَا دُونَهُ فَلِهَذَا لَمْ نُجَوِّزْ الصَّوْمَ بِالنِّيَّةِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا يُقَالُ قَدْ يَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ أَيْضًا فِي حَقِّ الَّذِي أَقَامَ أَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَاَلَّذِي بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي اللَّيْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبُلُوغِ أَوْ وُجُوبِ الصَّوْمِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَا الضِّرْوَةَ فِي تَرْكِ اعْتِبَارِ الْكُلِّ لِوُجُودِ خَلَفِهِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَهَهُنَا قَدْ فَاتَ الْأَكْثَرُ وَبِفَوَاتِهِ فَاتَ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْأَقَلَّ الَّذِي صَادَفَتْهُ النِّيَّةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ الَّذِي لَمْ تُصَادِفْهُ النِّيَّةُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَكَانَ وُجُودُ الضَّرُورَةِ هَهُنَا كَوُجُودِهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا يُعْبَأُ بِهَا.
قَوْلُهُ (وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَوَجَبَ تَرْجِيحُ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ رَاجِحٌ عَلَى الْقَلِيلِ فَالْكَثْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَوْصَافِ كَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَثْبُتُ لِلشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ ازْدِيَادٍ فِي أَجْزَاءِ ذَاتِهِ فَكَانَتْ الْكَثْرَةُ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ بِخِلَافِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوُجُودِ فَإِنَّهُمَا يَطْرَآنِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ وَبِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ رَاجِعًا إلَى الْحَالِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الذَّاتَ أَصْلٌ وَالْحَالُ تَبَعٌ وَعِبَارَةُ الشَّيْخِ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَمَّا وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْأَكْثَرِ فَقَدْ وُجِدَ بَعْضُ الْعِبَادَةِ وَعُدِمَ الْبَعْضُ فَالشَّافِعِيُّ رَجَّحَ جَانِبَ الْعَدَمِ عَلَى جَانِبِ الْوُجُودِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ وَنَحْنُ رَجَّحْنَا الْمَوْجُودَ عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ وَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله رَاجِعٌ إلَى الْعَدَمِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُودِ رَاجِحٌ يَعْنِي وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ الْمَوْجُودَ فِيهِ النِّيَّةُ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ النِّيَّةُ فِيهِ لِأَنَّ الْكَثِيرَ فِي الْوُجُودِ أَيْ فِي وُجُودِهِ وَذَاتِهِ رَاجِحٌ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا دَرَكَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْعِبَادِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَبِفَوَاتِهِ يَفُوتُ
إنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا مَعَ النُّقْصَانِ أَوْلَى فَصَارَ هَذَا التَّرْجِيحُ مُتَعَارِضًا وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَدَاءُ لَا إلَى خَلَفٍ فِي حَقِّ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ احْتِرَازًا عَنْ الْفَوَاتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ عليه السلام بِقَوْلِهِ «مَنْ فَاتَهُ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ» وَلَا وَجْهَ إلَى الصِّيَانَةِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورِينَ إلَّا بِتَجْوِيزِ هَذَا الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ إذْ التَّجْوِيزُ مَعَ خَلَلٍ تَمَكَّنَ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْعِبَادَةِ مِنْ التَّفْوِيتِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الشَّرْطِ وَإِسْقَاطُهُ لِفَوَاتِ الْفَضِيلَةِ كَمَنْ عَلَيْهِ الْفَجْرُ لَوْ خَافَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّرْتِيبُ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْفَائِتَ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَجَازَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْفَائِتَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ وَهَهُنَا الْفَائِتُ الْفَضِيلَةُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الشَّرْطِ وَإِسْقَاطُهُ لِفَوَاتِهَا (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نَقُولُ بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ وَتَغْيِيرِهِ لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ وَلَكِنْ نَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى اسْتِدْرَاكِهَا كَمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَصْلِ الصَّوْمِ إذْ الْحَاجَةُ تُدْفَعُ مَا أَمْكَنَ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ هَذِهِ الْفَضَائِلِ إلَّا بِفَوْتِ فَضِيلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَدَائِهَا بِالتَّيَمُّمِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةٍ بِتَفْوِيتِ فَضِيلَةٍ أُخْرَى وَكَذَا لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِفَوْتِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ عليه السلام وَإِنَّمَا وَقْتُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَفِي قَوْلِهِ لَأَدْرَكَ لَهُ أَصْلًا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَنَحْوِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِأَنَّا إنَّمَا جَوَّزْنَاهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِصِيَانَةِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْفَوَاتِ أَصْلًا عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَلَا حَاجَةَ فِي الْقَضَاءِ إلَى صِيَانَةِ الْوَقْتِ لِأَنَّ كُلَّ الْأَوْقَاتِ فِيهِ سَوَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ (إنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا مَعَ النُّقْصَانِ أَوْلَى) أَيْ مِنْ الْقَضَاء لِأَنَّهُ أَقْرَب إلَى صِيَانَة حَقِّ الْعِبَادَةِ مِنْ التَّفْوِيتِ كَأَدَاءِ الْعَصْرِ وَقْتَ الِاحْمِرَارِ أَوْلَى مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ قَوْلُهُ (فَصَارَ هَذَا التَّرْجِيحُ مُتَعَارِضًا) أَيْ صَارَ تَرْجِيحُ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ لِصِحَّةِ التَّأْخِيرِ مُتَعَارِضًا لِأَنَّ مَا يُوجَبُ تَرْجِيحُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِرُكْنِ الْعَمَلِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيمِ وَأَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ إذَا أَفْطَرَ وَالثَّانِي صِيَانَةُ الْوَقْتِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ دُونَ التَّقْدِيمِ وَأَنْ لَا يَجِبَ الْكَفَّارَةُ بِالْفِطْرِ لِتَمَكُّنِ خَلَلٍ فِيهِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَعَارِضًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَرْجِيحَنَا الْكَثِيرَ فِي صُورَةِ التَّأْخِيرِ بِكَوْنِ الْعِبَادَةِ مُؤَدَّاةً فِي الْوَقْتِ يُعَارِضُهُ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ النَّهَارِ عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّرْجِيحَيْنِ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ فَلَمْ يُعَارِضْهُ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْحَالِ وَلِهَذَا دُلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ إذَا أَفْطَرَ بِخِلَافِ التَّرْجِيحِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ضَعُفَ بِالْمُعَارِضِ فَصَارَ لَهُ شُبْهَةُ عَدَمِ وُجُودِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ.
قَوْلُهُ (وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَكَلَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ
وَلَمْ نَقُلْ بِالِاسْتِنَادِ وَلَا بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَعَ احْتِمَالِ طَرِيقِ الصِّحَّةِ وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قُرْبَةٌ مَعَ قُصُورِ مَعْنَى الطَّاعَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَصَارَ إثْبَاتُ الْعَزِيمَةِ فِيهِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا وَفَاءً لِحَقِّهِ وَتَوْفِيرًا لِحَظِّهِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَيَتَكَامَلُ جِنَايَتُهُ بِالْفِطْرِ كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى بِاللَّيْلِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه السلام «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يَنْفِي كَوْنَهُ صَائِمًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ يَبْقَى شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا مُوَافِقٌ لِلْمَنْظُومَةِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رحمه الله فِي طَرِيقَتِهِ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بَيْنَ مَا إذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَبَيْنَ مَا إذَا نَوَى مِنْ النَّهَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا إذَا نَوَى مِنْ النَّهَارِ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نَظِيرَ لِمَا اخْتَرْتُمْ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ فِي الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فَأَمَّا لِجَوَازِ التَّقْدِيمِ فَنَظَائِرُ جَمَّةٌ كَتَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَتَقْدِيمِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَدَاءِ وَغَيْرِهِمَا (قُلْنَا) نَحْنُ مَا جَعَلْنَا النِّيَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ مُتَقَدِّمَةَ لَكِنْ جَعَلْنَا الْإِمْسَاكَاتِ مَوْقُوفَةً عَلَى النِّيَّةِ فَبَعْدَ وُجُودِهَا يَنْقَلِبُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَتَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يُوجَدُ بَعْدَ مَوْجُودٍ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّ الرَّمْيَ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِصَابَةِ وَتَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالتَّعْلِيقَاتُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الشَّرْطِ وَكَذَا الظُّهْرُ الْمُؤَدَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُود السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَعَدَمِهِ وَكَذَا الْوَقْتِيَّةُ الْمُؤَدَّاةُ مَعَ تَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ حُكْمُهَا مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ تَوَقُّفُ الْإِمْسَاكَاتِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي الْأَكْثَرِ طَرِيقًا مَسْلُوكًا.
قَوْلُهُ (وَلَمْ نَقُلْ بِالِاسْتِنَادِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النِّيَّةَ الْمُعْتَرِضَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ فَقَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَوْجُودِ لَا فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهَلَكَتْ ثُمَّ أُجِيزَ الْبَيْعُ حَتَّى اسْتَنَدَ حُكْمُهُ إلَى أَوَّلِ الْمُدَّةِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ الِاسْتِنَادِ فِي ذَلِكَ الْهَالِكِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَهَهُنَا مَا تَقَدَّمَ عَلَى النِّيَّةِ قَدْ عُدِمَ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ بِطَرِيقِ اسْتِنَادِ النِّيَّةِ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله النِّيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي بَلْ الصَّحِيحُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ إقَامَةِ الْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قَوْلُهُ (وَلَا بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ) رَدٌّ لِقَوْلِهِ أَوَّلَ الْجُزْءِ الْفِعْلُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَزِيمَةِ فَيَفْسُدُ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ وَمِنْ فَسَادِهِ يَلْزَمُ فَسَادُ الْبَاقِي فَقَالَ نَحْنُ لَا نَقُولُ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَعَ احْتِمَالِ طَرِيقِ صِحَّتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُ صَوْنُ الْعِبَادَةِ عَنْ الْفَوَاتِ فَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ كَحُصُولِهَا فِي الْجَمِيعِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ عِبَادَةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَاتِ فِي كَوْنِهَا صَوْمًا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّى فَاقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِجُزْءٍ مِنْهَا كَانَ اقْتِرَانًا بِجَمِيعِهَا ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ النِّيَّةُ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِمْسَاكِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ الَّذِي أَمْكَنَ الِاسْتِدْرَاكُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ مُقْتَرِنٌ بِالنِّيَّةِ تَقْدِيرًا كَمَا فِي النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَاسِدٌ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِ الْفَسَادِ وَهُوَ انْعِدَامُ النِّيَّةِ قَوْلُهُ (وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قُرْبَةٌ) إلَى آخِرِهِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا إنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ حَتَّى فَسَدَ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ إلَّا مِنْ أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ بِالنِّيَّةِ فِي الْآخِرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عُرِفَ قُرْبَةً بِمِعْيَارِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مِعْيَارُهُ إلَّا بِيَوْمٍ كَامِلٍ فَلَمْ يَجُزْ شَرْعُ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُشْرَعْ صَوْمًا وَلَكِنْ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ التَّنَاوُلِ مِنْ الْقَرَابِينِ كَرَاهِيَةً لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ غَيْرِ طَعَامِ الضِّيَافَةِ قَبْلَ طَعَامِهَا
ــ
[كشف الأسرار]
بَيَانَ احْتِمَالِ طَرِيقِ الصِّحَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْأَكْلِ هُوَ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُمَا فَمِنْ السَّرَفِ وَالشَّرَهِ وَلِهَذَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ فَيَكُونُ تَرْكًا لِلْمُعْتَادِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ وَلَيْسَ فِيهِ تَرْكُ الْعَشَاءِ بَلْ تَأْخِيرُهُ إلَى الْغُرُوبِ فَكَانَ مَعْنَاهُ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ وَتَرْكَ الْغَدَاءِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ عِنْدَ الضَّحْوَةِ وَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْكِ فَخَارِجٌ عَلَى الْعَادَةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الرُّكْنِ مِنْ الضَّحْوَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ لِلرُّكْنِيَّةِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِمْسَاكِ الْمُعْتَادِ فَكَانَ هُوَ وَاجِبَ التَّحْصِيلِ ضَرُورَةَ صَيْرُورَةِ هَذَا الْإِمْسَاك رُكْنًا فَكَانَ هَذَا أَصْلًا وَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ إلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَوَى فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى النِّيَّةِ وَكَانَتْ مُقْتَرِنَةً حَقِيقَةً بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ أَصْلٌ فَيُسْتَتْبَعُ تَبَعُهُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ كَالْأُمِّ يُسْتَتْبَعُ وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْعَتَاقِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَكَالْأَمِيرِ وَالْمَوْلَى يَسْتَتْبِعُ الْعَسْكَرَ وَالْعَبْدُ فِي نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَثْبُتُ النِّيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْقِيقًا وَكَانَ إثْبَاتُ النِّيَّةِ فِيهِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا وَفَاءً لِحَقِّهِ وَتَوْفِيرًا لِحَظِّهِ وَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فَكَالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لَهُمَا الصَّوْمُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُجْزِيهِمَا وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُجْزِيهِمَا وَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَالْقَضَاءِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا كَمَا فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لَهُمَا التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصَا صَحَّتْ مِنْهُمَا النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ وَكَالنَّفَلِ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ مِعْيَارٌ قُلْنَا النَّفَلُ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ الْمِعْيَارُ لِيُوجَدَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ أَهْلًا لِلصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ فَيَفْسُدُ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينَ نَوَى لِأَنَّ «النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَهِيَ كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ الْإِخْبَارِ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى النَّشَاطِ فَيَتَأَدَّى بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيه أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالنُّزُولِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاجِبَةُ مُقَدَّرَةً وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي قَوْلٍ وَكَذَا مَعَ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ كَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ فِي قَوْلٍ وَلَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّ رُكْنَهُ إمْسَاكٌ يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَلَا يَحْصُلُ
وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَمَّا انْقَلَبَ بِالنَّذْرِ صَوْمُ الْوَقْتِ وَاجِبًا لَمْ يَبْقَ نَفْلًا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَصَارَ وَاحِدًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأُصِيبَ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ وَمَعَ الْخَطَإِ فِي الْوَصْفِ وَتَوَقَّفَ مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ فِيهِ عَلَى صَوْمِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْمَنْذُورُ لَكِنَّهُ إذَا صَامَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ صَحَّ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ التَّعْيِينَ حَصَلَ بِوِلَايَةِ النَّاذِرِ وَوِلَايَتُهُ لَا تَعْدُوهُ فَصَحَّ التَّعْيِينُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى النَّفَلُ مَشْرُوعًا فَأَمَّا فِي مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى الْوَقْتُ مُحْتَمِلًا لِحَقِّهِ فَلَا فَاعْتُبِرَ فِي احْتِمَالِ ذَلِكَ الْعَارِضُ بِمَا لَوْ لَمْ يَنْذُرْ.
ــ
[كشف الأسرار]
ذَلِكَ مَعَ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بِخِلَافِ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِمْسَاكَ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَمْنَعُ عَنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِي بَاقِيهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْقَاشَانِيُّ وَقَدْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ إمْسَاكُ بَعْضِ الْيَوْمِ قُرْبَةً كَمَا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ أَيْضًا وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً إلَّا بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يُعْرَفْ مِعْيَارُهُ فِي الشَّرْعِ إلَّا يَوْمٌ كَامِلٌ فَاَلَّذِي يَخْتَرِعُهُ الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ مِعْيَارًا لَهُ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْفَرْضِ لِفَوَاتِ أَكْثَرِ الرُّكْنِ بِلَا نِيَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي يَوْمٍ لَمْ يَأْكُلْ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ صَوْمًا لَصَحَّ كَالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ وَإِنْ قُلْت لِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْمَشْرُوعِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَلَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَيَكُونُ مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَنَافِلَةِ الصَّلَاةِ مُقَدَّرَةٌ بِرَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدْنَى مَقَادِيرِ الْفَرْضِ وَيَجُوزُ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا لِأَنَّ الْفَرْضَ يَجُوزُ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ بِالْقَلِيلِ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ حَتَّى لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَأَدَّى دَانِقًا سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَهُنَا الْإِمْسَاكُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ قَصْدًا لَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ بِحَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ النَّفَلُ بِهِ وَلَا تَمَسُّكَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ عليه السلام إنِّي إذَا لَصَائِمٌ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةِ الْعَزْمِ فَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ وَكَانَ فِيهِ بَيَانُ جَوَازِ الْعَزْمِ دُونَ تَغْيِيرِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَكَانَ قَوْلُهُ لَصَائِمٌ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّوْمِ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى النَّشَاطِ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِنَشَاطِهِ فِي التَّقْدِيرِ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أَوْ يَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ تَقَدَّمَ السُّجُودُ عَلَى الرُّكُوعِ وَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ أَوَّلَ النَّهَارِ دُونَ آخِرِهِ بِأَنْ نَوَى أَنْ يَصُومَ إلَى الْعَصْرِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَثَرُ نَشَاطِهِ فِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ الْمَشْرُوعَ الْمُقَدَّرَ الشَّرْعِيَّ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهِ عِقَابٍ عَلَيْهِ لَا فِي تَغْيِيرِ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَيْسَ بِصَوْمٍ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنَّمَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ التَّنَاوُلِ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ أَهْلِ السَّوَادِ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يُضَحُّوا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ
1 -
قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ) أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا صَارَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لَهُ كَشَهْرِ رَمَضَانَ لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَيْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ نَذَرْت أَنْ أَصُومَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَمَّا انْقَلَبَ صَوْمُ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَسَائِرِ الصِّيَامَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْيِينُ وَالتَّبْيِيتُ وَاجِبًا أَيْ بِالنَّذْرِ لَمْ يَبْقَ نَفْلًا لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَيْ مُتَنَافِيَيْنِ أَوْ مُتَغَايِرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُمَا نَفْلًا وَوَاجِبًا لِأَنَّ النَّفَلَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ الْعُقُوبَةَ بِتَرْكِهِ وَالْوَاجِبُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهَا بِتَرْكِهِ فَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ انْتَفَى النَّفَلُ ضَرُورَةً فَصَارَ