المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌ الْعِلْمُ نَوْعَانِ:

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ]

- ‌النَّوْعُ الثَّانِي عِلْمُ الْفُرُوعِ وَهُوَ الْفِقْهُ

- ‌ أُصُولَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ

- ‌ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوهِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً

- ‌[مَا يَعْرِف بِهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ أَرْبَعَة أَقْسَام]

- ‌[تَعْرِيف الْخَاصُّ]

- ‌[تَعْرِيف الْعَامُّ]

- ‌[تَعْرِيف الْمُشْتَرَكُ]

- ‌[تَعْرِيف الْمُؤَوَّلُ]

- ‌[الفرق بَيْن التَّفْسِير وَالتَّأْوِيل]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ بَيَانِ النَّظْم]

- ‌[تَعْرِيف الظَّاهِرَ وَالنَّصّ]

- ‌[تَعْرِيف الْمُفَسَّرُ]

- ‌[تَعْرِيف المحكم]

- ‌[تَعْرِيف الخفي]

- ‌[تَعْرِيف الْمُشْكِلُ]

- ‌[تَعْرِيف الْمُجْمَلُ]

- ‌[تَعْرِيف الْمُتَشَابِه]

- ‌[بَيَان الْحِكْمَة فِي إنْزَال الْآيَات الْمُتَشَابِهَات]

- ‌[الْقِسْمِ الثَّالِثِ وُجُوه اسْتِعْمَال النَّظْم]

- ‌[تَعْرِيف الْحَقِيقَةَ]

- ‌[أَقْسَام الْحَقِيقَة]

- ‌ تَعْرِيفِ الْمَجَازِ

- ‌[تَعْرِيف الصَّرِيحُ]

- ‌[تَعْرِيف الْكِنَايَةُ]

- ‌ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ

- ‌[الْقَسْم الرَّابِع وُجُوه وُقُوف السَّامِع عَلَى مُرَاد الْمُتَكَلِّم ومعانى الْكَلَام]

- ‌[الِاسْتِدْلَال بِإِشَارَةِ اللَّفْظِ]

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ

- ‌ الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ

- ‌بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْخُصُوصِ:

- ‌(بَابُ الْأَمْرِ)

- ‌[تَعْرِيف الْأَمْر]

- ‌(بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ)

- ‌[الْأَمْر إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

- ‌ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ

- ‌(بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ) :فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ

- ‌[بَابٌ بَيَانِ صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ]

- ‌[الْقَضَاءِ هَلْ يَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ]

- ‌[الْقَضَاءُ نَوْعَانِ إمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ]

- ‌ الْقَضَاءُ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَدَاءِ

- ‌الْأَدَاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ

- ‌[الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ نَوْعَانِ]

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل كَامِلٌ]

- ‌[النَّوْع الثَّانِي قَاصِر]

- ‌ الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ

- ‌ الْقَضَاءُ الَّذِي فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ

- ‌[حُكْمَ الْأَمْرِ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ]

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل مَا حَسَن لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ]

- ‌الصَّلَاةِ حَسُنَتْ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا

- ‌[النَّوْع الثَّانِي مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ]

- ‌[الْجِهَادُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ حَسَنَيْنِ لِمَعْنَى فِي غَيْرهمَا]

- ‌[الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْطُ لِلْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ]

- ‌[الْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ وَالْمُمَكَّنَة]

- ‌(بَابٌ) تَقْسِيمُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حُكْمِ الْوَقْتِ

- ‌[الْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ أَنْوَاعٌ]

- ‌[النَّوْع الْأَوَّل جُعِلَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى وَشَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ]

- ‌ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ

- ‌[النَّوْع الثَّالِث الْوَقْتُ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا]

- ‌ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ

- ‌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ الْوَقْتِ فَعَلَى التَّرَاخِي

- ‌(بَابُ النَّهْيِ) :

- ‌[النَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ]

- ‌[النَّهْي عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ]

- ‌ النَّهْيُ الْمُطْلَقُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ

- ‌[صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ]

- ‌ الصَّلَاةُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَدُلُوكِهَا

- ‌[النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ]

- ‌ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ

- ‌ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ

- ‌ اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ

- ‌ الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ

- ‌[الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ]

- ‌ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ لِمَعْنًى فِيهِ

- ‌(بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَام الْعُمُومِ) :

- ‌ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ

- ‌ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ

- ‌[الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْيَقِينِ]

- ‌(بَابُ الْعَامِّ إذَا لَحِقَهُ الْخُصُوصُ)

- ‌ كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَجْهُولًا

الفصل: ‌[الاستدلال بإشارة اللفظ]

هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ

وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِشَارَتِهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ لُغَةً لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا سِيقَ لَهُ النَّصُّ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَسَمَّيْنَاهُ إشَارَةً

ــ

[كشف الأسرار]

فِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ حَتَّى كَانَ التَّمَسُّكُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِظَاهِرٍ أَوْ مُفَسَّرٍ أَوْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ أَوْ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِهَا اسْتِدْلَالًا بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا غَيْرُ، هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَمَلِ عَمَلُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لَا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ كَمَا إذَا قِيلَ الصَّلَاةُ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ، وَالزِّنَا حَرَامٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالُ بِعِبَارَتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ النَّظْمِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، إحْدَاهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ كَالْعَدَدِ فِي قَوْله تَعَالَى، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى وَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فِيهِ كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَالثَّالِثَة أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى هُوَ مِنْ لَوَازِمِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعِهِ كَانْعِقَادِ بَيْعِ الْكَلْبِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام، «إنَّ مِنْ السُّحْتِ ثَمَنَ الْكَلْبِ» ، الْحَدِيثَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَسُوقٌ لَيْسَ إلَّا وَالْقِسْمُ الْأَخِيرُ لَيْسَ بِمَسُوقٍ أَصْلًا وَالْمُتَوَسِّطُ مَسُوقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ إلَى التَّلَفُّظِ بِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى غَيْرِ مَسُوقٍ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا سَاقَهُ لِإِتْمَامِ بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ إذْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فِي السُّوقِ بِأَنْ انْفَرَدَ عَنْ الْقَرِينَةِ وَالْقِسْمُ الْأَخِيرُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ هَهُنَا مِنْ كَوْنِ الْكَلَامِ مَسُوقًا لِمَعْنًى أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْهُومِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَفِيمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ النَّصِّ وَالظَّاهِرُ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ مَسُوقًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْهُومِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فَيَدْخُلُ الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ هَهُنَا فِي السَّوْقِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ، فَإِذَا تَمَسَّكَ أَحَدٌ فِي إبَاحَةِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، أَوْ فِي إبَاحَةِ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كَانَ اسْتِدْلَالًا بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا بِإِشَارَتِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعَيْنِ النَّصِّ أَيْ بِعِبَارَتِهِ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ بِنَفْسِهِ وَسِيَاقُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَعَيْنُ النَّصِّ يُوجِبُ إبَاحَةَ الْبَيْعِ وَحُرْمَةَ الرِّبَا وَالتَّفْرِقَةَ، فَسَوَّى بَيْنَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ، وَهُوَ الْفَرْقُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ وَحُرْمَةُ الرِّبَا فَجَعَلَهُمَا ثَابِتَيْنِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا بِإِشَارَتِهِ

[الِاسْتِدْلَال بِإِشَارَةِ اللَّفْظِ]

قَوْلُهُ (وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِشَارَتِهِ) الْإِشَارَةُ الْإِيمَاءُ فَكَأَنَّ السَّامِعَ غَفَلَ عَنْ الْمَعْنَى الْمَضْمُونِ فِي النَّصِّ لِإِقْبَالِهِ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ فَالنَّصُّ يُشِيرُ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ وَلَا سِيقَ لَهُ النَّصُّ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ اللَّفْظِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَكِنَّهُ وَلَهُ رَاجِعٌ إلَى مَا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسَقْ لَهُ الْكَلَامُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَوْعُ غُمُوضٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ تَأَمُّلٍ وَلِهَذَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِشَارَةُ مِنْ الْعِبَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضُ مِنْ الصَّرِيحِ أَوْ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُمُوضُ بِحَيْثُ يَزُولُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ يُقَالُ هَذِهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ فِكْرَةٍ يُقَالُ هَذِهِ إشَارَةٌ غَامِضَةٌ.

(قَوْلُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) لَيْسَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ

ص: 68

كَرَجُلٍ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ إلَى شَيْءٍ وَيُدْرِكُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إنَّمَا سَبَقَ النَّصُّ لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ لِمَا سَبَقَ وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ

ــ

[كشف الأسرار]

بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلَى تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ إشَارَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ فَسَمَّيْنَاهُ إشَارَةً بِالْفَاءِ.

وَقَوْلُهُ كَرَجُلٍ إلَى آخِرِهِ تَشْبِيهٌ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّظْمِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِمَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِ الْبَلَاغَةِ كَمَا أَنَّ إدْرَاكَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالنَّظَرِ مَعَ إدْرَاكِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ، وَاللَّحْظُ النَّظَرُ بِمُؤَخِّرِ الْعَيْنِ وَيُدْرِكُ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ أَيْ بِلَحَظَاتِهِ وَكَأَنَّهَا تُشِيرُ النَّاظِرَ إلَى مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لِيُدْرِكَهُ، الضَّمِيرُ فِي نَظِيرِهِ رَاجِعٌ إلَى مَا فِي قَوْلِهِ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ لُغَةً، عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ التَّفْسِيرِ وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ وَضَمِّهِمَا لِمَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ الْغَيْرِ، لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ، لَا لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ، {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [الحشر: 8] بَدَلٌ مِمَّا ذَكَرْنَا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لَا مِنْ قَوْلِهِ {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَرَسُولُهُ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَقِيرِ كَيْفَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ رَسُولَهُ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8] ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكَشَّافِ.

وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ لِبَكْرٍ لِعَمْرٍو كَذَا فِي التَّيْسِير فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ تَرْجَمَةً لِمَا سَبَقَ بَلْ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفٍ آخَرَ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّوْقُ لِبَيَانِ مَصَارِفِ الْخُمُسِ، وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ أَيْ وَذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ دُونَ غَيْرِهِ إشَارَة إلَى أَنَّ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ قَدْ زَالَتْ أَمْلَاكُهُمْ عَمَّا خَلَفُوا بِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَيَاسِيرَ بِمَكَّةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] ، وَالْفَقْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ لَا يُبْعِدُ الْيَدَ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ضِدَّهُ الْغِنَى، وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ لَا قُرْبُ الْيَدِ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ غَنِيٌّ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ حَقِيقَةً وَلَوْ أَصَابَ مَالًا عَظِيمًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً؛ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ بِشَرْطِ الْأَحْرَارِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَسَمَّاهُمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله لَمْ يَعْمَلْ بِهَا، وَقَالَ إنَّمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمْ يُسَمِّهِمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ وَيَطْمَعُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ تَوَطَّنُوا بِهَا وَانْقَطَعَتْ أَطْمَاعُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُسَمَّوْا بِابْنِ السَّبِيلِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُحْتَاجِينَ حَقِيقَةً وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ ثَمَرَاتُ أَمْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُمْ فُقَرَاءَ تَجَوُّزًا كَأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُمْ أَصْلًا كَمَا صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْكَافِرِ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ وَعَدِيمَ الْعَقْلِ فِي قَوْله تَعَالَى عز وجل، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] .

بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ قَوْله تَعَالَى، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ السَّبِيلِ الْحِسِّيِّ بِالْإِجْمَاعِ فَيَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى السَّبِيلِ الشَّرْعِيِّ وَالتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ أَقْوَى جِهَاتُ السَّبِيلِ،

ص: 69

وَقَوْلُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِثْبَاتِ النَّفَقَةِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَغَارَ عَلَى سَرْحٍ بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرَ امْرَأَةَ الرَّاعِي قَالَتْ الْمَرْأَةُ فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ الْعَضْبَاءَ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتهَا وَقُلْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ عليه السلام، بِئْسَ مَا جَازَيْتِهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي ارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ سَبِيلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَنَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْضًا إنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَمْوَالِ، أَوْ الْمُرَادُ نَفْيُ السَّبِيلِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِدَلِيلِ قَوْلِهِ، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] ، أَوْ نَفْيُ الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ السُّدِّيَّ وَلَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَلَا تَنْزِلْ دَارَك يَعْنِي الدَّارَ الَّتِي وَرِثَهَا النَّبِيُّ عليه السلام مِنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها وَقَدْ كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» .

وَلَا يُقَالُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَرَّبَهَا وَلَمْ تَبْقَ صَالِحَةً لِلنُّزُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَلَا تَنْزِلْ دَارَك يَأْبَى ذَلِكَ، وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ عُيَيْنَةَ لَمْ يُحْرِزْهَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ؛ فَلِهَذَا اسْتَرَدَّهَا مِنْهَا وَجَعَلَ نَذْرَهَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ فَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقَرَائِنِ صَارِفًا لِلَفْظِ الْفُقَرَاءِ إلَى الْمَجَازِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمُوجِبِهَا قَطْعًا مَثَلُ الْعِبَارَةِ مَثَلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، وَقَدْ لَا تُوجِبَ قَطْعًا وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِرَاكِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُرَادًا بِالْكَلَامِ، فَأَمَّا كَوْنُهَا حُجَّةً فَلَا خِلَافَ فِيهِ.

قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ عز وجل إمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ وَقَوْلُهُ سِيقَ لِكَذَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَسِيقَ خَبَرُهُ فَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَأَشَارَ عُطِفَ عَلَى سِيقَ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِيهِمَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ، وَكَذَا الْبَارِزُ فِي بِقَوْلِهِ أَيْ سِيقَ هَذَا الْقَوْلُ لِكَذَا وَأَشَارَ هَذَا الْمَسُوقُ بِقَوْلِهِ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ إلَى كَذَا فَكَأَنَّهُ قَدَّرَ الْمَسُوقَ قَائِلًا هَذَا الْكَلَامَ، أَوْ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي أَشَارَ وَالْبَارِزُ فِي بِقَوْلِهِ يَرْجِعَانِ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سِيقَ مِنْ السَّائِقِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَازَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَيْ سِيقَ هَذَا الْقَوْلُ لِكَذَا وَأَشَارَ السَّائِقُ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى كَذَا، أَوْ الْبَاءُ فِي بِقَوْلِهِ زَائِدَةٌ وَأَشَارَ مُسْنَدٌ إلَى الْقَوْلِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ أَيْ سِيقَ قَوْلُ اللَّهِ، وَهُوَ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى آخِرِهِ لِكَذَا وَأَشَارَ قَوْلُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى كَذَا وَفِي الْكُلِّ بُعْدٌ.

وَلَوْ قِيلَ أُشِيرَ لَكَانَ أَحْسَنَ. قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] أَيْ وَعَلَى الَّذِي وُلِدَ لَهُ، وَهُوَ الْأَبُ، وَلَهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ نَحْوُ عَلَيْهِمْ فِي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ طَعَامُ الْوَالِدَاتِ وَلِبَاسُهُنَّ، {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] أَيْ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، أَوْ تَفْسِيرُهُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ

ص: 70

وَإِلَى قَوْلِهِ عليه السلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَقَوْلُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الْمُطَلَّقَاتُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ فَالْمُرَادُ إيجَابُ أَصْلِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إلَى مَا يُقِمْنَ بِهِ أَبْدَانَهُنَّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَغْتَذِي بِاللَّبَنِ؛ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا ذَلِكَ بِالِاغْتِذَاءِ وَتَحْتَاجُ هِيَ إلَى التَّسَتُّرِ فَكَانَ هَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الضَّرُورِيَّةِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ.

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمَنْكُوحَاتُ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ دُونَ الْأَجْرِ فَالْمُرَادُ إيجَابُ فَضْلِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ الَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الرَّضَاعِ لَا أَصْلُ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالنِّكَاحِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ إيجَابِ أَصْلِ النَّفَقَةِ أَوْ فَضْلِهَا عَلَى الْأَبِ، وَفِي ذِكْرِ الْمَوْلُودِ لَهُ دُونَ ذِكْرِ الْوَالِدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ بِحَرْفِ الِاخْتِصَاصِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ قُرَشِيًّا وَالْأُمُّ أَعْجَمِيَّةً يُعَدُّ الْوَلَدُ قُرَشِيًّا فِي بَابِ الْكَفْأَةِ وَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَفِي الْعَكْسِ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا قِيلَ:

وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ

مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءُ

وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى عِلَّةِ إيجَابِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى الْآبَاءِ أَيْ الْوَالِدَاتِ لَمَّا وَلَدْنَ لَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْزُقُوهُنَّ وَيَكْسُوهُنَّ إذَا أَرْضَعْنَ أَوْلَادَهُمْ كَالْأَظْآرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاسْمِ الْوَالِدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33] ، الْآيَةَ.

قَوْلُهُ (وَإِلَى قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» ، رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ عليه السلام فَقَالَ إنَّ لِي مَالًا؛ وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إلَى مَالِي قَالَ أَنْتَ وَمَالُك لِوَالِدِك، وَفِي رِوَايَةٍ لِوَالِدَيْك» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ «شَكَا رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَبَاهُ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَهُ فَدَعَا بِهِ، فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ إنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا وَأَنَا قَوِيٌّ، وَفَقِيرًا وَأَنَا غَنِيٌّ فَكُنْت لَا أَمْنَعُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِي وَالْيَوْمَ أَنَا ضَعِيفٌ. وَهُوَ قَوِيٌّ، وَأَنَا فَقِيرٌ وَهُوَ غَنِيٌّ وَيَبْخَلُ عَلَيَّ بِمَالِهِ فَبَكَى عليه السلام وَقَالَ مَا مِنْ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ يَسْمَعُ هَذَا إلَّا بَكَى ثُمَّ قَالَ لِلْوَلَدِ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك»

، وَذَكَرَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْبُخَارِيُّ فِي فَوَائِدِهِ «أَنَّ شَيْخًا أَتَى النَّبِيَّ عليه السلام وَقَالَ إنَّ ابْنِي هَذَا لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ؛ وَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيَّ مِنْ مَالِهِ فَنَزَلَ جَبْرَائِيلُ عليه السلام وَقَالَ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ قَدْ أَنْشَأَ فِي ابْنِهِ أَبْيَاتًا مَا قُرِعَ سَمْعٌ بِمِثْلِهَا فَاسْتَنْشَدَهَا فَأَنْشَدَهَا الشَّيْخُ وَقَالَ:

غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا

تُعَلُّ بِمَا أَحْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ

إذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْك بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ

لِسُقْمِك إلَّا بَاكِيًا أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي

طُرِقْت بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تَهْمُلُ

فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي

إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ

جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً

كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي

فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ

تَرَاهُ مُعِدًّا لِلْخِلَافِ كَأَنَّهُ

بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُؤَكَّلُ

فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ؛ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَهُ لَكِنَّهُ لَمَّا تَخَلَّفَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ عليه السلام، «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، ثَبَتَ بِهِ حَقُّ التَّمَلُّكِ لَهُ فِي مَالِهِ فَيَتَمَلَّكُهُ

ص: 71

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] سِيقَ لِإِثْبَاتِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إذَا رُفِعَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الثَّابِتُ بِعَيْنِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

عِنْدَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْ كَانَتْ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَبِعِوَضٍ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّ لَهُ تَأْوِيلًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ وَلَدِهِ كَمَا لَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ عَبْدِهِ وَقَدْ عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ بِإِشَارَتِهِ أَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَآزَرَهُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَدِيثِ الْكِتَابَ مِنْ دَلَائِلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ عليه السلام، «وَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ» .

فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَأَشَارَ إلَى قَوْلِهِ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] الْمُرَادُ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَا الْفِطَامِ وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْ الرَّضَاعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ يَلِيه الْفِصَالُ وَيُلَابِسُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ وَالْغَرَضُ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الرَّضَاعِ التَّامِّ الْمُنْتَهِي بِالْفِصَالِ وَوَقْتِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ إنْ كَانَ هُوَ الْحَمْلُ بِالْأَيْدِي إذْ الطِّفْلُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا وَلَا تَعَرُّضَ لِلْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ حِينَئِذٍ فِي الْآيَةِ، فَلَا يَكُونُ الْإِشَارَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَابِتَةً فِيهَا، وَيَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْله تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، عَلَى بَيَانِ مُدَّةِ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَمْلُ فِي الْبَطْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْإِشَارَةُ ثَابِتَةٌ وَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَلْ يُتَمَسَّكُ لَهُ بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيه بَعْدَهُمَا وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَيْبَسَ اللَّبَنُ وَيَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ الطَّعَامَ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى حَوْلَيْنِ لِمُدَّةِ الْفِطَامِ، فَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ مَسُوقٌ لِبَيَانِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي جَانِبِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] أَيْ ذَاتَ كُرْهٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ حَمْلًا ذَا كُرْهٍ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالْكُرْهُ الْمَشَقَّةُ.

ثُمَّ زَادَ فِي الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، أَيْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ لَمْ تَكُنْ مُقْتَصِرَةً عَلَى زَمَانٍ قَلِيلٍ بَلْ هِيَ مَعَ مَشَقَّاتِ الرَّضَاعِ مُمْتَدَّةٌ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فِيمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى عُثْمَانَ رضي الله عنهما فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصِمَتكُمْ أَيْ غَلَبَتْكُمْ فِي الْخُصُومَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فَبَقِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَأَخَذَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: رحمه الله وَهَذِهِ إشَارَةٌ غَامِضَةٌ وَقَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَقَدْ اخْتَفَى هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الصَّحَابَةِ فَلَمَّا أَظْهَرَهُ قَبِلُوا مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ لَا بُدَّ فِي الْإِشَارَةِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْت بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ ثَلَاثُونَ يَشْمَلُ أَفْرَادَهُ مُطَابَقَةً فَيَكُونُ السِّتَّةُ بَعْضَ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَالْإِشَارَةِ فَلْيَكُنْ بَيَانَ ضَرُورَةٍ أَيْضًا

ص: 72