الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ
(بَابُ الْأَمْرِ)
ــ
[كشف الأسرار]
تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَسْئِلَةِ.
ثُمَّ هَذَا الِانْتِقَالُ ضَرُورِيٌّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ لِلسَّارِقِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ صَحَّ وَلَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُ السَّارِقِ يَضْمَنُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرُ السَّرِقَةِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّ هَذَا الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَظْهَرَ الِانْتِقَالُ فِي الضَّمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْدَفَعَتْ بِإِثْبَاتِهِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْقَطْعِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَالُهَا وَإِبْطَالُهَا فِي حَقِّ أَحَدِ الضَّمَانَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الضَّمَانِ الْآخَرِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَكْرَارِ الضَّمَانِ بِإِزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامٌ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ فَيَظْهَرُ سُقُوطُ حَقِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِتْمَامٍ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ آخَرُ ابْتِدَاءً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ انْتَقَلَتْ الْعِصْمَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْخَمْرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ كَمَا فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ (قُلْنَا) إنَّمَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ قَبْلَ السَّرِقَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَحَشِيشِهِ وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَأَمَّا الْمَالُ الْمَسْرُوقُ فَقَدْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ السَّرِقَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ مُفْتَقِرًا إلَى الصِّيَانَةِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ (فَإِنْ قِيلَ) الْقَطْعُ شُرِعَ لِصِيَانَةِ حَقِّ الْعَبْدِ وَفِي الْقَوْلِ بِسُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَبُطْلَانِ الضَّمَانِ إبْطَالُ حَقِّهِ فَيَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِهِ.
(قُلْنَا) إنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ صُورَةً فَفِيهِ تَكْمِيلُ مَعْنَى الْحِفْظِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْقَطْعُ أَنْفَعَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ الْحِفْظِ حَالَةَ السَّرِقَةِ بِجَعْلِ الْمَحَلِّ مُحَرَّمَ التَّنَاوُلِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ تَنَاوُلُهُ مَضْمُونًا بِالْقَطْعِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، وَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حِفْظِ مَالِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ كَمَا أَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ إيجَابِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ وَصِيَانَةَ النَّفْسِ فِيهِ أَتَمُّ وَلِهَذَا سُمِّيَ حَيَاةً، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُفْتِي بِالضَّمَانِ فِيمَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ قَدْ لَحِقَهُ النُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ مِنْ جِهَتِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ لَمَّا اُعْتُبِرَ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ فَلَا يَقْضِي بِالضَّمَانِ وَلَكِنْ يُفْتِي بِرَفْعِ النُّقْصَانِ وَالْخُسْرَانِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ:(وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ وَمِنْ الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِي بَيَانِهِ وَهُوَ الْخَاصُّ
[بَابُ الْأَمْرِ]
[تَعْرِيف الْأَمْر]
(بَابُ الْأَمْرِ)
ذَكَرَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَفْظَةَ ذَلِكَ، وَهُوَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْبَعِيدِ وَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ
فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ صِيغَةً لَازِمَةً وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ عليه السلام عِنْدَهُمْ مُوجِبَةٌ كَالْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
ــ
[كشف الأسرار]
وَبَعْدَ ذِكْرِ الْأَصْلِ ذَكَرَ لَفْظَ هَذَا، وَهُوَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْقَرِيبِ، وَكَذَا ذَكَرَ قُبَيْلَ بَابِ النَّهْيِ، وَكَانَ عَكْسُهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ فَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ وَهَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْغَائِبَ وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْحَاضِرَ فَصَحَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فَيَقُولُ السَّامِعُ سَمِعْت هَذَا أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ دُخُولِ الْأَمِيرِ، وَهُوَ مَا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْكِتَابُ وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْرِيفِ الْأَمْرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْقَوْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ تَعْرِيفَهُ كَمَا ذَكَرَ تَعْرِيفَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقِيلَ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِإِتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ لِاشْتِقَاقِهِمَا مِنْهُ، وَبِالطَّاعَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّاعِي إلَى تَحْصِيلِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْعُلُوِّ وَيَلْزَمُ عَلَى اطِّرَادِهِ وَاطِّرَادِ الْأَوَّلِ أَيْضًا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالشَّفَاعَةِ لَا تُسَمَّى أَمْرًا، وَعَلَى انْعِكَاسِهِمَا أَنَّهَا لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ تُسَمَّى أَمْرًا؛ وَلِهَذَا يُنْسَبُ قَائِلُهَا إلَى الْحُمْقِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ فَأَرَادَ بِالِاقْتِضَاءِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ وَالصِّيغَةُ سُمِّيَتْ بِهِ مَجَازًا، وَبِقَوْلِهِ: فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ احْتَرَزَ عَنْ النَّهْيِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ مَعْنًى قَائِمٌ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَلَامٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ عِبَارَةً عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ؛ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ قَوْلَهُ افْعَلْ حَقِيقَةً فِي الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ لَا تَفْعَلْ حَقِيقَةً فِي النَّهْيِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْمُرَادَ) الْفَاءُ فِي فَإِنَّ إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ الْخَاصُّ، الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَيْ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا الْوُجُوبُ، يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ أَيْ لَازِمَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِذَلِكَ الْمُرَادِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَقَدْ يَكُونُ عَامًا، وَالْمُرَادُ هُوَ الْخَاصُّ هُنَا لِمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى مُخْتَصًّا بِهِ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْعَكْسِ كَبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِصَاصُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَبَايِنَةِ فَالشَّيْخُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْجَانِبَيْنِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ تَعَرُّضِ جَانِبِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُصُوصِ الْمَعْنَى خُصُوصُ اللَّفْظِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيَسْتَقِيمَ التَّعْلِيلُ، وَمِنْ التَّعَرُّضِ لِجَانِبِ الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ يَخْتَصُّ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدُ فِي خُصُوصِ الْمَعْنَى لَا فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُونَا فِي أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ خَاصَّةٌ فِي الْوُجُوبِ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا إنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ أَيْضًا كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ الْخَاصِّ، وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ لَفْظَةِ الْمَخْصُوصَةِ إلَى لَفْظَةِ اللَّازِمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَمَّا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيْخَ جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ الْخَاصِّ بِاعْتِبَارِ اخْتِصَاصِ الْمَعْنَى بِالصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى جَانِبِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى.
وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَعَلَى هَذَا كَانَ ذِكْرُ اللَّازِمَةِ فِي قَوْلِهِ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ تَأْكِيدًا إذْ اللُّزُومُ يُسْتَفَادُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالصِّيغَةِ أَمَّا ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ لَيْسَ لِلْمُرَادِ بِالْأَمْرِ صِيغَةٌ لَازِمَةٌ فَلَازِمٌ إذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّازِمَةَ هَهُنَا لَمْ يُفْهَمْ نَفْيُ اخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِالصِّيغَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَيَخْتَلُّ الْكَلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مُوجِبٌ وَأَنَّ الْإِيجَابَ لَا يُسْتَفَادُ إلَّا بِالْأَمْرِ فَصَارَا مُتَلَازِمَيْنِ وَأَنَّ الصِّيغَةَ الْمَخْصُوصَةَ تُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً فَيَحْصُلُ بِهَا الْإِيجَابُ وَلَكِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْفِعْلَ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْإِيجَابُ فَعِنْدَنَا لَا يُسَمَّى أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْإِيجَابُ وَعِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَمْرًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَيُفِيدُ الْإِيجَابَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَيْ حَاصِلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ عليه السلام عِنْدَهُمْ أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ النَّاسِ مُوجِبَةٌ كَالْأَمْرِ أَيْ كَالْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ صِيغَةُ افْعَلْ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ عليه السلام الَّتِي لَيْسَتْ بِسَهْوٍ مِثْلُ الزَّلَّاتِ وَلَا طَبْعٍ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ مِثْلُ وُجُوبِ الضُّحَى وَالسِّوَاكِ وَالتَّهَجُّدِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ وَلَا بِبَيَانٍ لِمُجْمَلٍ مِثْلُ قَطْعِهِ يَدَ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَتَيَمُّمِهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] هَلْ يَسَعُنَا أَنْ نَقُولَ فِيهِ أَمَرَ النَّبِيُّ عليه السلام بِكَذَا وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا فَعِنْدَ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَيَجِبُ عَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ فِيهِ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجِبُ الِاتِّبَاعُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فَيَجِبُ الِاتِّبَاعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَجِبُ فِي الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظُ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْفِعْلِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْعَيْنِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِيجَابَ مَعَ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مُتَلَازِمَانِ يَثْبُتُ كُلُّ وَاحِدٍ بِثُبُوتِ الْآخَرِ وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْحِصَارِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّيغَةِ انْتِفَاءُ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مُسْتَفَادًا بِالْفِعْلِ لَمَا سُمِّيَ بِهِ وَقَالَ عليه السلام: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَجَعَلُوا الْمُتَابَعَةَ لَازِمَةً
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَمْرِ، وَمِنْ ثُبُوتِهِ بِغَيْرِ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الِاشْتِرَاكِ؛ فَلِهَذَا يَتَعَرَّضُ فِي الدَّلَائِلِ تَارَةً لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ وَإِثْبَاتِهِ وَتَارَةً لِنَفْيِ الْوُجُوبِ عَنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ وَإِثْبَاتِهِ فَافْهَمْ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلُهُ وَطَرِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالرُّشْدِ وَالْفِعْلُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهِ لَا الْقَوْلُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أَيْ فِعْلُهُمْ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] أَيْ فِيمَا تُقَدِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ إخْبَارًا {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] أَيْ صُنْعِهِ فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ رَاجِعٌ إلَيْهِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ أَيْ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِيجَابُ مُسْتَفَادًا بِالْفِعْلِ أَيْ حَاصِلًا بِهِ وَمَفْهُومًا مِنْهُ لَمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ بِالْأَمْرِ أَيْ لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا صُورَةً بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ الطَّلَبُ وَمَعْنَى الْفِعْلِ تَحْقِيقُ الشَّيْءِ وَلَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ ثَبَتَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ ثَبَتَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُوجِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَ الْإِطْلَاقِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَبِالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهَا مُرَتَّبَةً وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ» فَجَعَلَ الْمُتَابَعَةَ لَازِمَةً فَثَبَتَ بِالتَّنْصِيصِ أَنَّ فِعْلَهُ مُوجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَاتِهِ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّنْصِيصِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] إنَّ قَوْلَهُ مُوجِبٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَبِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْعُودَ بِمَعْنَى الْخَشَبِ يُجْمَعُ عَلَى عِيدَانِ وَبِمَعْنَى اللَّهْوِ عَلَى أَعْوَادٍ وَقَدْ يُجْمَعُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ وَبِمَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى أَوَامِرَ فَيَكُونُ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَخْصُوصَ وَالْفِعْلَ مُشْتَرِكَانِ فِي عَامٍّ كَالشَّيْئِيَّةِ وَالشَّأْنِ فَيَجِبُ جَعْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَمْرُ لِلْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ فِي نَفْيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ لَمَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا إلَى الْفَهْمِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمُشْتَرَكِ لِلْمَعَانِي عَلَى السَّوَاءِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَبِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَفِي نَفْيِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ لَمَا فَهِمَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا عَيْنًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ مُسَمَّاهُ حِينَئِذٍ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ كَمَا لَا دَلَالَةَ لِلْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَهُوَ تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ عَنْ الْأَمْرِ وَانْتِفَاءُ الْإِيجَابِ عَنْ الْفِعْلِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ رحمه الله تَعَرَّضَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ لِنَفْيِ الْإِيجَابِ مِنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ عَلَى عَكْسِ مَا
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا رحمهم الله بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ وَلَا يَجُوزُ قُصُورُ الْعِبَارَاتِ عَنْ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي، وَقَدْ وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مِثْلَ الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ وُضِعَتْ لَهَا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ فَهُوَ بِذَلِكَ الْأَوْلَى
ــ
[كشف الأسرار]
ذَكَرُوا لِيُطَابِقَ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَقَالَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِذِكْرِ كَلِمَةِ إنَّمَا حَصْرَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِبَارَاتِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَادُ لَهُ اللَّفْظُ وَأَرَادَ بِالْمَعَانِي مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ يَعْنِي الْمَوْضُوعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إلْقَاءَهَا إلَى السَّامِعِ، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَهَا لَهُ هِيَ الْعِبَارَاتُ لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ قُصُورُ الْعِبَارَاتِ عَنْ الْمَعَانِي أَيْ وَلَا يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يُوجَدَ مَعْنًى بِلَا لَفْظٍ فَيَحْتَاجُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ وَكَذَا فِي الْمُتَرَادِفَاتِ كَثْرَةٌ فَأَمَّا وُقُوعُ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ قُصُورِ الْعِبَارَةِ أَلَا يَرَى أَنَّ لِكُلِّ مَعْنًى مِنْ الْمُشْتَرَكِ اسْمًا عَلَى حِدَةٍ إذَا ضُمَّ إلَى الْمُشْتَرَكِ صَارَا مُتَرَادِفَيْنِ.
وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِبَارَاتِ هِيَ الْمَوْضُوعَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي إلَّا أَنَّ الْعِبَارَاتِ قَاصِرَةٌ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ حُرُوفٍ مُتَنَاهِيَاتٍ وَالْمَعَانِي غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعِبَارَةِ دَالًّا عَلَيْهَا أَيْضًا ضَرُورَةً فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَجِدُ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ وَلَا نَجِدُ مَعْنًى لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَعَقَّلَهَا الذِّهْنُ وَاحْتِيجَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِاسْتِحَالَةِ تَعَقُّلِ الذِّهْنِ مَا لَا يَتَنَاهَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَضْعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ مَحْصُورٌ عَلَى الْعِبَارَاتِ، وَأَنَّهَا لَا تَقْصُرُ عَنْ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَلَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ الْحَصْرُ فِي الْعِبَارَاتِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِدْلَال، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَدْرَجَ دَلِيلًا آخَرَ لِلتَّوْضِيحِ فَقَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مِثْلَ الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ وُضِعَتْ لَهَا مِثْلَ ضَرَبَ وَيَضْرِبُ وَسَيَضْرِبُ، قَالُوا وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَوْفَ أَوْ السِّينُ صَارَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ وَقَدْ تَعْرِفُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ الْمَعْنَى لَا فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ ضَرَبَ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي وَيَضْرِبُ بِالْحَالِ وَسَيَضْرِبُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ أَنَّ مَعْنَى الْمَاضِي مُخْتَصٌّ بِالصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ.
وَكَذَا مَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ نَفْيًا لِلتَّرَادُفِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِيجَابُ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ إذْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَبْنِيَّانِ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ بِهِ فَهُوَ بِالِاخْتِصَاصِ بِالصِّيغَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالصِّيَغِ وَثَبَتَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَثْبُتُ بِالصِّيغَةِ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِالصِّيغَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالْفِعْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ إنَّمَا لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلْحَصْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيَكُونُ الْكُلُّ دَلِيلًا وَاحِدًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِبَارَاتِ وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ وَالْعِبَارَةُ غَيْرُ قَاصِرَةٍ عَنْهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ فَيَكُونُ لِلْمَعْنَى الْمُثْبَتِ بِالْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مَقْصُودٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَإِذَا كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ
وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ كَانَ حَقِيقَةً فَتَكُونُ لَازِمَةً إلَّا بِدَلِيلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْحَقَائِقِ لَا تَسْقُطُ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا أَبَدًا أَوْ أَمَّا الْمَجَازُ فَيَصِحُّ نَفْيُهُ يُقَالُ لِلْأَبِ الْأَقْرَبُ أَبٌ لَا يَنْفِي عَنْهُ بِحَالٍ وَيُسَمَّى الْجَدُّ أَبًا وَيَصِحُّ نَفْيُهُ ثُمَّ هَهُنَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّ فُلَانًا لَمْ يَأْمُرْ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ مَعَ كَثْرَةِ أَفْعَالِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ لَمْ يَسْتَقِمْ نَفْيُهُ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حِينَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ» «وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُوَافَقَةَ فِي وِصَالِ الصَّوْمِ فَقَالَ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» فَثَبَتَ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَازِمَةٌ
ــ
[كشف الأسرار]
كَانَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مُخْتَصَّةً بِالْعِبَارَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَإِذَا صَارَ مُخْتَصًّا بِهَا لَا يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ كَانَ حَقِيقَةً) يَعْنِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا الْمَعْنَى عِبَارَةً مَوْضُوعَةً فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَهِيَ صِيغَةُ افْعَلْ مَثَلًا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ فَتَكُونُ لَازِمَةً لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ وَيَكُونُ عَائِدٌ إلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.
وَإِنَّمَا قَالَ لَازِمَةٌ دُونَ لَازِمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَوْضُوعَ هُوَ الصِّيغَةُ الْمَخْصُوصَةُ فَأَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الصِّيغَةِ وَإِذَا كَانَتْ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ لَازِمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَيُمْتَنَعُ ثُبُوتُهُ بِالْفِعْلِ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (إلَّا بِدَلِيلٍ) أَيْ لُزُومُ الصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَفَادُ بِغَيْرِ الصِّيغَةِ كَمَا يُسْتَفَادُ بِهَا فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِيَ اللُّزُومُ وَيَثْبُتَ بِدُونِ الصِّيغَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، ثُمَّ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْإِيجَابِ عَنْ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ التَّوْضِيحِ فَقَالَ أَلَا تَرَى إلَى آخِرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ: الْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْوُجُودِ مِنْ الْغَيْرِ وَالْفِعْلُ تَحْقِيقُ الْوُجُودِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ طَلَبِ الْوُجُودِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِطَلَبِ الْوُجُودِ؛ وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْوُجُودِ أَصْلًا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَثُرَ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرْضِيًّا مَحْمُودًا عِنْدَهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام) هَذِهِ مُعَارَضَةٌ لِمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «خَلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَعْلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَخَلَعَ مَنْ خَلْفَهُ فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى خَلْعِ نِعَالِكُمْ فَقَالُوا رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِي أَحَدَيْهِمَا قَذَرًا فَخَلَعْتُهُمَا لِذَلِكَ فَلَا تَخْلَعُوا نِعَالَكُمْ» كَذَا فِي شَرْحِ الْآثَارِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ رضي الله عنه يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا رَأَيْنَاك أَلْقَيْت نَعْلَيْك فَقَالَ إنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ.
وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام وَاصَلَ فَوَاصَلَ أَصْحَابُهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ وَأَيُّكُمْ مِثْلِي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» فَفِي إنْكَارِ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ إذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا كَالْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَامْتَثَلُوا بِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: رحمه الله إنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فَكَيْفَ صَارَ اتِّبَاعُهُمْ لِلْبَعْضِ دَلِيلًا وَلَمْ يَصِرْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلًا، وَقَوْلُهُ عليه السلام «يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَمَّا تَتَقَوَّى بِهِ الرُّوحُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَذِكْرُك لِلْمُشْتَاقِ خَيْرُ شَرَابٍ
…
وَكُلُّ شَرَابٍ دُونَهُ كَسَرَابِ