الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةُ أَهْلِ الْمَقَالَةِ الْأُولَى أَنَّا نَدَّعِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ لَا أَنَّهُ مُحْكِمٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ مُحْتَمَلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ فَيَصْلُحُ تَوْكِيدُهُ بِمَا يَحْسِمُ بَابَ الِاحْتِمَالِ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا كَالْخَاصِّ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فَتَوْكِيدُهُ بِمَا يَقْطَعُهُ لَا بِمَا يُفَسِّرُهُ فَيُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَجِيءِ مَجَازًا.
(بَابُ الْعَامِّ إذَا لَحِقَهُ الْخُصُوصُ)
فَإِنْ لَحِقَ هَذَا الْعَامَّ خُصُوصٌ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ لَا يَبْقَى حُجَّةً أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَقَالَ غَيْرُهُ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ عَلَى مَا كَانَ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُمُومِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَجْهُولًا فَإِنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يَسْقُطُ، فَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال
ــ
[كشف الأسرار]
سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّكِ تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ بِالْإِخْبَارِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَكَذَا هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْعِلْمَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ أَصْلٌ وَالْعَمَلُ يَقُومُ بِالْجَوَارِحِ وَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْقَلْبِ فَلَمَّا سَقَطَ فِي حَقِّ التَّبَعِ فَفِي حَقِّ الْأَصْلِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الِاحْتِمَالِ فِيهِمَا سَاقِطٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ ثُمَّ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ الْعِلْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا هَهُنَا.
قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى) يَعْنِي الْوَاقِفِيَّةَ (أَنَّا نَدَّعِي أَنَّهُ) أَيْ الْعَامَّ (مُوجِبٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ) وَهُوَ الْعُمُومُ قَطْعًا عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (لَا أَنَّهُ مُحْكِمٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ) أَيْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ صَلَاحِيَّتُهُ لِإِرَادَةِ الْخُصُوصِ (فَكَانَ مُحْتَمَلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ) أَيْ صَالِحًا فِي ذَاتِهِ لِذَلِكَ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي (أَوَّلِ بَابِ أَحْكَامِ الْخَاصِّ) بِمَا يَحْسِمُ أَيْ يَقْطَعُ بِالْكُلِّيَّةِ.
(بَابُ الِاحْتِمَالِ) أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ الْآنَ يُرَادُ بِهِ بَعْضُهُ (لِيَصِيرَ مُحْكَمًا) أَيْ غَيْرَ قَابِلٍ لِمَعْنًى آخَرَ يَعْنِي إنَّمَا صَلُحَ تَوْكِيدُهُ مَعَ أَنَّهُ بِدُونِ التَّوْكِيدِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالْإِحَاطَةَ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا لَا لِمَا ظَنَّهُ الْخَصْمُ أَنَّهُ مُجْمَلٌ أَوْ مُشْتَرَكٌ فَيَصِيرُ بِهَذَا التَّوْكِيدِ مُفَسَّرًا وَيَكُونُ هَذَا التَّوْكِيدُ إزَالَةً لِخَفَائِهِ وَتَعْيِينًا لِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ (كَالْخَاصِّ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فَتَوْكِيدُهُ بِمَا) يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ (لَا بِمَا يُفَسِّرُهُ) فَيُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ (لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَجِيءِ) أَيْ غَيْرَ مَجِيءِ زَيْدٍ بَلْ يَحْتَمِلُ مَجِيءَ خَبَرِهِ وَكِتَابِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَوَابِ أَصْحَابِ الْخُصُوصِ لِأَنَّ فِيمَا ذُكِرَ جَوَابًا عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا سَوَّيْنَا فِي مُوجِبِ الْعَامِّ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُلِّ فَلَا وَجْهَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ الْفَارِقِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكَالِيفِ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ عَامَّةٍ قُلْنَا فَكَذَا الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكْلِيفِ بِأَخْبَارٍ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَكَذَلِكَ عُمُومَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذْ بِمَعْرِفَتِهَا يَتَحَقَّقُ الِانْزِجَارُ عَنْ الْمَعَاصِي وَالِانْقِيَادُ لِلطَّاعَاتِ وَمَعَ التَّسَاوِي فِي التَّكْلِيفِ لَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الْعَامِّ إذَا لَحِقَهُ الْخُصُوصُ]
اعْلَمْ أَنَّ التَّخْصِيصَ لُغَةً تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِحُكْمٍ وَلِهَذَا يُقَالُ خُصَّ فُلَانٌ بِكَذَا وَفِي اصْطِلَاحِ هَذَا الْعِلْمِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ فَقِيلَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَقِيلَ هُوَ إخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ عَنْهُ. وَقِيلَ هُوَ تَعْرِيفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْعُمُومِ إنَّمَا هُوَ الْخُصُوصُ وَقِيلَ هُوَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كَلَامٌ وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنْ يُقَالَ هُوَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقْتَرِنٍ وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا مُسْتَقِلٍّ عَنْ الصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا إذْ لَا بُدَّ عِنْدَنَا لِلتَّخْصِيصِ مِنْ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وَلَيْسَ فِي الصِّفَةِ ذَلِكَ وَلَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الصَّدْرِ وَلِهَذَا يَجْرِي الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَا يَجْرِي التَّخْصِيصُ حَقِيقَةً إلَّا فِي الْعَامِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
مُوجِبُ الْعَامِّ بِاسْتِثْنَاءٍ مَعْلُومٍ بِالِاتِّفَاقِ وَيَتَغَيَّرُ بِاسْتِثْنَاءٍ مَجْهُولٍ بِلَا خِلَافٍ وَبِقَوْلِنَا مُقْتَرِنٌ عَنْ النَّاسِخِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَاخَى دَلِيلُ التَّخْصِيصِ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا وَسَتَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُلِّ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَجُوزُ فِي جَمْعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا وَذَهَبَ شُذُوذٌ لَا يُؤْبَهُ بِهِمْ إلَى امْتِنَاعِهِ فِي الْخَبَرِ كَامْتِنَاعِ النَّسْخِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْكَذِبَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا احْتَمَلَ فِي نَفْسِهِ التَّخْصِيصَ كَانَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ رَافِعًا لِلْوَهْمِ وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِي الْخَبَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا وَقَعَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وَقَدْ أَتَتْ تِلْكَ الرِّيحُ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ تَجْعَلْهُمَا كَالرَّمِيمِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ لَمْ تُؤْتَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ فِي فَصْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ هَلْ يَبْقَى عَامًّا فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ يَصِيرُ مَجَازًا وَالثَّانِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَمْ لَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْعَامِّ الِاسْتِيعَابُ أَمْ نَفْسُ الِاجْتِمَاعِ فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ الِاجْتِمَاعَ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ قَالَ إنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ التَّخْصِيصُ إلَى مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَجَازًا وَمَنْ قَالَ شَرْطُهُ الِاسْتِيعَابُ قَالَ يَصِيرُ مَجَازًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَإِنْ خُصَّ مِنْهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ فَلَا يَبْقَى عَامًّا ضَرُورَةً فَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مَجَازًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَامًّا وَقِيلَ بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ سَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا لِعُمُومِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ الِاسْتِيعَابِ لِأَنَّ عَامَّةَ شَارِطِي الِاسْتِيعَابِ جَعَلُوهُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِيعَابَ إلَى اجْتِمَاعِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةِ الْمَجَازِ فِيهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوَلَ بَقِيَّةَ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا تَنَاوَلَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ كَانَ حَقِيقَةً فِيهَا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اخْتَصَّ بِهَا وَقَصَرَ عَمَّا عَدَاهَا كَانَ مَجَازًا وَفِي أَقْوَالِ هَذَا الْفَصْلِ كَثْرَةٌ تَعْرِفُ شَرْحَهَا وَبَيَانَ وُجُوهِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ أَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عُقِدَ الْبَابُ لِبَيَانِهِ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ حُجَّةً فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا كَمَا يُقَالُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ مَجْهُولًا كَمَا لَوْ قِيلَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ أَخُصُّ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وَقَالَ عَامَّتُهُمْ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُمُومِ حَتَّى لَا يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ وَيُتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ مُوجِبَهُ قَطْعِيٌّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عِنْدَهُ قَطْعِيًّا حَتَّى لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ مُوجِبَهُ ظَنِّيٌّ يَبْقَى عِنْدَهُ ظَنِّيًّا.
وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْلُومِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَامِّ أَصْلًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَيَبْقَى الْعَامُّ مُوجَبًا حُكْمَهُ فِي
بِعَامَّةِ الْعُمُومَاتِ لِمَا دَخَلَهَا مِنْ الْخُصُوصِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِآيَةِ السَّرِقَةِ وَآيَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ خُصَّ مِنْ آيَةِ السَّرِقَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَخُصَّ الرِّبَا مِنْ قَوْلِهِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْحُدُودِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ وَفِيهَا ضَرْبُ جَهَالَةٍ وَاخْتِلَافُ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْعَامَّ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الْخُصُوصِ مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ مَجْهُولًا إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُمُومِ قَبْلَ الْخُصُوصِ، وَدَلَالَةُ صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعُمُومِ وَدَلَالَةُ أَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ وَالْآحَادِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْكُلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ لُحُوقِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بِهِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي طَرِيقَتِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ صَفَحْنَا عَنْ ذِكْرِهَا كَمَا أَعْرَضَ الْمُصَنِّفُ عَنْهَا قَوْلُهُ (بِعَامَّةِ الْعُمُومَاتِ) أَيْ بِأَكْثَرِهَا (مَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ) وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَلِهَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَقِيلَ رُبْعُ دِينَارٍ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَقِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَخَصَّ الرَّبَّا وَهُوَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَبَعْدَمَا الْتَحَقَ خَبَرُ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بَيَانًا بِهِ لَمْ تَزُلْ الْجَهَالَةُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِ أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُقْتَصِرٌ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خَرَجَ النَّبِيُّ عليه السلام مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَبْوَابَ الرِّبَا وَإِذَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَآيَةِ السَّرِقَةِ وَالْبَيْعِ نُصُوصُ الْحُدُودِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا (لِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ) بِقَوْلِهِ عليه السلام «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ.
(وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا خُصَّ وَهُوَ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ (ضَرْبُ جَهَالَةٍ) أَيْ لَا يُعْرَفُ أَيَّةُ شُبْهَةٍ تُعْتَبَرُ وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا ظَاهِرًا لَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِكُلِّ عَامٍّ سَوَاءٌ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخُصَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لِظُهُورِهِ.
قَوْلُهُ (وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا إلَى آخِرِهِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله اسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ «بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَهَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ خُصُوصٌ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ قَدْ خُصَّ مِنْهُ وَاحْتَجَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِالْجَوَارِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» وَهَذَا عَامٌّ قَدْ دَخَلَهُ خُصُوصٌ فَإِنَّ الْجَارَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرِيكِ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِصَقَبِهِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ «بِنَهْيِهِ عليه السلام عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ بَيْعُ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ الْمِيرَاثِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ بَدَلِ الصُّلْحِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله خَصَّ هَذَا الْعَامَّ بِالْقِيَاسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا قَطْعًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا قَطْعًا فَكَيْفَ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا يَكُونُ مُوجِبًا قَطْعًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَمَا ذَكَرَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ لَا فِي الْمَجْهُولِ، إذْ لَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مَخْصُوصٌ مَجْهُولٌ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ ذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَلَكِنْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا فَرُوِيَ الْمَذْهَبُ فِي الْفَصْلَيْنِ فَيَثْبُتُ الْمَذْهَبُ بِهِ.
قَوْلُهُ (إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعُمُومِ) أَيْ بِالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ فَإِنَّ فَاطِمَةَ احْتَجَّتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فِي مِيرَاثِهَا مِنْ أَبِيهَا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةَ مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمَا خُصُّوا مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ احْتِجَاجَهَا بِهِ مَعَ ظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِي حِرْمَانِهَا إلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» وَعَلِيٌّ رضي الله عنه احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فَقَالَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ مَعَ كَوْنِ
وَذَلِكَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى صَحَّتْ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ، أَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ احْتَجَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْجَبَ جَهَالَةً فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الْخُصُوصَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ نَصٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَصَلُحَ تَعْلِيلُهُ وَلَا يُدْرَى أَيُّ الْقَدْرِ مِنْ الْبَاقِي صَارَ مُسْتَثْنًى فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ جَهَالَةِ الْمَخْصُوصِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا فَعَلَى مَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ مُوجِبًا فِي الْبَاقِي لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قُلْنَا فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ فَكَذَلِكَ هَذَا
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ مَخْصُوصَةً مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ.
وَكَذَا الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصُ مِنْهَا مَشْهُورٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِحَيْثُ يُعَدُّ إنْكَارُهُ مِنْ الْمُكَابَرَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا قَوْلُهُ (وَذَلِكَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ) أَيْ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدَّرَجَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حَتَّى رَجَّحْنَا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَرَجَّحْنَا خَبَرَ الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ عَلَى الْقِيَاسِ وَرَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله خَبَرَ النَّبِيذِ عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ إنَّهُ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْعَامِّ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ حَتَّى صَحَّ تَخْصِيصُهُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَالتَّخْصِيصِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ كَمَا سَتَعْرِفُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى صَحَّتْ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ هَذَا الْعَامُّ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ضَرُورَةً.
قَوْلُهُ (أَمَّا الْكَرْخِيُّ) احْتَجَّ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْجَبَ تَخْصِيصُهُ جَهَالَةً فِي الْبَاقِي لِأَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عُيِّنَ مِنْ الْبَاقِي لِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْكَلَامِ فِيهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ فَارَقَهُ فِي الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَالِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِهَذَا عَدَّ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ إلَّا مُقَارِنًا كَالِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ طَارِيًا يَكُونُ دَلِيلَ النَّسْخِ لَا دَلِيلَ الْخُصُوصِ وَإِذَا صَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ أَوْجَبَ جَهَالَتُهُ جَهَالَةَ الْبَاقِي كَاسْتِثْنَاءِ الْمَجْهُولِ بِأَنَّهُ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا شَيْئًا يُتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ.
وَإِذَا صَارَ مَجْهُولًا لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً بِنَفْسِهِ كَالْمُجْمَلِ بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى تَبَيُّنِ الْمُرَادِ وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا لِاسْتِقْلَالِهِ وَإِفَادَتِهِ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ لَا يَفْتَقِرُ فِي إفَادَتِهِ إلَى صَدْرِ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَالدَّلَائِلُ الَّتِي يُوجِبُ كَوْنُهَا مَعْلُولَةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ لَا يُدْرَى أَيُّ قَدْرٍ مِنْ الْبَاقِي يَصِيرُ مَخْصُوصًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مُسْتَثْنًى فَيُوجِبُ جَهَالَةَ الْبَاقِي أَيْضًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ خُصِّصَ مِنْهُ بَعْضٌ مَعْلُومٌ وَبَعْضٌ آخَرُ مَجْهُولٌ بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ اسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومِ جَهَالَةَ الْبَاقِي فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا كَمَا لَوْ رَفَعَ مِنْ عَشَرَةٍ خَمْسَةً يَبْقَى الْبَاقِي خَمْسَةً قَطْعًا وَلِأَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَصِيرُ مَجَازًا وَجِهَاتُ الْمَجَازِ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جُمُوعٍ كَثِيرٍ، وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَثُّرِ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى إحْدَاهَا أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهَا لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا فَكَانَ مُجْمَلًا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ.
(وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي) احْتَجَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ تَخْصِيصِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا بَعْدَهُ وَأَنَّ الْقَدْرَ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُولِ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ إلَى الْبَيَانِ فَكَذَا تَخْصِيصُهُ أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومِ فَلَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْبَاقِي بِوَجْهٍ فَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ قَطْعِيًّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لَمَّا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ تَرَاخَى كَانَ نَاسِخًا سَقَطَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْأَوَّلِ فَأَوْجَبَ جَهَالَةً فِيهِ وَهَذَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُعَارِضٌ لِلْأَوَّلِ وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَارِنًا، وَيُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ لِأَنَّهُ نَصٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بَلْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بِنَظِيرِهِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَظَنِّيًّا عِنْدَ آخَرِينَ قَالُوا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَحْتَمِلْ التَّعْلِيلَ فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْدُومٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِالْكَلَامِ أَصْلًا وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ وَلَا لِمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا يَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ مَوْضُوعِهِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا تَتَنَاوَلُهُ قَبْلَهُ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كُلِّهِ لَا بَعْضِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِجَاجِ الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومَاتِ الْمُخَصِّصَةِ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا بَقِيَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ.
وَقَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ قُلْنَا هَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ.
قَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) احْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَّصِلٍ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَامُّ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَ كَانَ نَاسِخًا فَإِذَا كَانَ مُقَارِنًا كَانَ بَيَانًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ كَمَا فِي النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَوْ طَرَأَ الْمُجْمَلُ عَلَى ظَاهِرٍ نَاسِخًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ النَّسْخُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَامَّ مُوجِبُ الْحُكْمِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِمْ الْمُعَارَضَةُ لِكَوْنِ الْمُعَارِضِ مَجْهُولًا سَقَطَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْعَامِّ عَلَى مَا كَانَ فِي جَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ قَائِمٍ بِالْأَوَّلِ لِعَدَمِ انْفِصَالِهِ عَنْهُ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إلَّا زَيْدًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَإِذَا كَانَ دَاخِلًا عَلَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَاعْتُبِرَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامًا وَاحِدًا أَوْجَبَ الْجَهَالَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَصِيرُ الْأَصْلُ مَجْهُولًا مُجْمَلًا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ قَوْلُهُ (وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَفْعَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَخْصُوصِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ اسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَارِنًا) يَعْنِي شَرَطَ فِيهِ الْمُقَارَنَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ طَارِئًا يُجْعَلُ نَسْخًا لَا خُصُوصًا وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الْمُقَارَنَةِ إلَّا لِتَحَقُّقِ شَبَهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ وَيُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ صِيغَةَ الْعَامِّ وَحُكْمُ النَّاسِخِ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ فِي الْأَوَّلِ إذَا كَانَ مَا تَنَاوَلَهُ مَجْهُولًا بَلْ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا يُعْمَلُ بِهِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ قَطْعًا (فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ) أَيْ إلْحَاقُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ) أَيْ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى النَّسْخِ فِيهِ وَلَا بِالنَّاسِخِ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ لِأَنَّ فِي الْإِلْحَاقِ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا إبْطَالَ الشَّبَهِ الْآخَرِ.
(بَلْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ) أَيْ اعْتِبَارُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (فِي كُلِّ بَابٍ) أَيْ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ (بِنَظِيرِهِ) فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَخَذَ حَظًّا مُعْتَبَرًا مِنْ