الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا
النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ
مِنْهُ وَهُوَ حَجُّ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ مُشْكِلٌ أَنَّ وَقْتَهُ الْعُمْرُ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهِ أَمْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقْتٌ مُتَعَيَّنٌ لِأَدَائِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْوَصْفِ الْأَوَّلِ حَتَّى إذَا أَخَّرَ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ كَانَ مُؤَدِّيًا فَأَمَّا الْوَصْفُ الثَّانِي فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَالِ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ الَّذِي لَحِقَهُ الْخِطَابُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِ الْأَوَّلِ لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بِشَرْطِ الْإِدْرَاكِ وَقَالَ
ــ
[كشف الأسرار]
يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لَا عَلَى رُؤْيَةِ إنْسَانٍ شُجَاعٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَوْضِعُ اللَّفْظِ وَالثَّانِي مُحْتَمَلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّوَقُّفَ إنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِدْرَاكِ فَضِيلَةِ صَوْمِ الْوَقْتِ الَّتِي لَا يُدْرَكُ أَصْلًا وَالضَّرُورَةُ فِيمَا هُوَ الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ لِلْوَقْتِ لَا فِيمَا هُوَ مُحْتَمَلُهُ فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ عَيْنًا لِفَرْضٍ كَرَمَضَانَ كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فَنَفَذَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَمَضَانَ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَلُ فَلَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا مِنْ أَوَّلِهِ لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِهِ مِنْ مُحْتَمَلِ الْوَقْتِ فَإِذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ صَوْمَ الْقَضَاءِ يَنْعَقِدُ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِمُحْتَمَلِ الْوَقْتِ فَيَجُوزُ وَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ الْإِمْسَاكُ لِمَوْضُوعِ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى مُحْتَمَلِ الْوَقْتِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الْقَضَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فَفَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا فَوَاتَ لَهُ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَحَكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَتَضَيَّقُ كَالْحَجِّ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ]
قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُوَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ) أَيْ الَّذِي لَا يُعْلَمُ أَنَّ وَقْتَهُ مُتَوَسِّعٌ أَمْ مُتَضَيَّقٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمُوَقَّتَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حَجُّ الْإِسْلَامِ إسْنَادُ الْإِشْكَالِ إلَى الْحَجِّ مَجَازٌ إذْ الْإِشْكَالُ فِي وَقْتِهِ لَا فِي نَفْسِهِ وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِأَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا يَسْتَغْرِقُ الْأَدَاءُ جَمِيعَ الْوَقْتِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَدَاءُ حِجَّةٍ وَاحِدَةٍ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّوْمِ وَالثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى سِنِي الْعُمْرِ فَإِنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ وَوَقْتُهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهِيَ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَيَّنُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ وَبِاعْتِبَارِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ السِّنِينَ الَّتِي يَتَأَتَّى يَفْضُلُ الْوَقْتُ عَنْ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ مُشْتَبِهًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَإِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَشَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَكَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَقَالَ وَقْتُ الْحَجِّ وَقْتٌ عُيِّنَ جُعِلَ ظَرْفًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ وَمَعْنَى إشْكَاله أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ الْحَجّ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لَهُ ظَرْفًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ فِي أَدَائِهِ فَإِنَّهُ إنْ عَاشَ أَدَّى وَإِنْ مَاتَ تَحَقَّقَ الْفَوَاتُ فَسَمَّيْنَاهُ مُشْكِلًا وَهَكَذَا فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَوْلُهُ (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَا يَدْرِي أَوَقْتُهُ مُتَوَسِّعٌ فِي الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْ مُتَضَيَّقٌ فَإِنْ عَاشَ سِنِينَ كَانَ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ عَامٍ صَالِحًا لِأَدَائِهِ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ مُتَوَسِّعًا وَإِنْ لَمْ يَعِشْ كَانَ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنًا لِأَدَائِهِ وَكَانَ الْوَقْتُ مُتَضَيَّقًا كَمَا بَيَّنَّا وَلَا خِلَافَ فِي الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عَامٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهِ حَتَّى إذَا أُخِّرَ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَأَدَّاهُ فِي عَامٍ آخَرَ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ ذَلِكَ عَامًا مِنْ عُمْرِهِ فَأَمَّا الْوَصْفُ الثَّانِي وَهُوَ تَعْيِينُ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ لِلْأَدَاءِ فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْ ثَابِتٌ مَعَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَعْنِي أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنٌ لِلْأَدَاءِ فِي الْحَالِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهُ يَعِيشُ إلَى الْقَابِلِ أَمْ لَا فَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّاهُ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ
مُحَمَّدٌ رحمه الله مُوَسَّعًا يَسَعُ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْفَوْرَ أَمْ لَا مِثْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى الْفَوْرِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله عَلَى التَّرَاخِي فَكَذَلِكَ الْحَجُّ فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْوَقْتِ فَلَا.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَمَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ إلَّا فِي وَقْتٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ وَقْتُهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عُمْرِهِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ وَقْتُهُ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِي وَإِلَى الْعَبْدِ تَعْيِينُهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا بِتَعْيِينِهِ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى أَدَّاهُ كَانَ مُؤَدِّيًا وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنًا لَصَارَ بِالتَّأْخِيرِ مُفَوِّتًا
ــ
[كشف الأسرار]
بِمَنْزِلَةِ يَوْمٍ أَدْرَكَهُ فِي حَقِّ قَضَاءِ رَمَضَانَ) يَعْنِي مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذْ لَوْ أَدْرَكَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ عَنْهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ جَمِيعُ الْعُمْرِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا النَّظِيرُ دُونَ أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ يَنْقَطِعُ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ إلَى الْغَدِ كَمَا أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْحَجِّ يَنْقَطِعُ بِانْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ هَذَا الْعَامِ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ مِنْ أَجْزَائِهِ مَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَدَاءِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ) أَيْ حَقِيقَةُ الْخِلَافِ فِي تَعَيُّنِ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ لِلْأَدَاءِ بِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ التَّضْيِيقِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَعَيُّنُ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ التَّوَسُّعِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ التَّأْخِيرِ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَعَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِلْأَدَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَهُ مُتَضَيَّقٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمْ يَبْقَ مُشْكِلًا كَوَقْتِ الصَّوْمِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَوَسِّعٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ زَالَ الْإِشْكَالُ عَنْهُ أَيْضًا كَوَقْتِ الصَّلَاةِ (قُلْنَا) إنَّمَا حَكَمَ أَبُو يُوسُفَ بِالتَّضَيُّقِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْعِبَادَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْقَطَعَ جِهَةُ التَّوَسُّعِ بِالْكُلِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ جَازَ أَدَاؤُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِالتَّوَسُّعِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّضَيُّقَ عِنْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الثَّانِي كَانَ الْأَشْهُرُ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنًا لِلْأَدَاءِ عِنْدَهُ.
فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ بِمَا قَالَاهُ قَوْلُهُ (مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ) جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ فَالزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْعَشْرُ نَظِيرُ الْأَوَّلِ وَالنَّذْرُ بِالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ أَيْ غَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِوَقْتِ نَظِيرُ الثَّانِي فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْوَقْتِ فَلَا أَيْ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ مُخْتَلَفًا فِيهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْحَجِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُتَعَيَّنٌ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لَا أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا ابْتِدَائِيٌّ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَمَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ) أَيْ غَيْرُ بِنَائِيَّةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِنَفْسِ التَّأْخِيرِ رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرٌ وَالْمُعَلَّى وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله قَالَ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ قَالَ بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ آثِمٌ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْفَوْتِ وَقَدْ فَوِّتْ فَيَأْثَمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ مَاتَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّأْثِيمِ بِالتَّأْخِيرِ فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَثَابِتٌ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْإِحْجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي تَأْخِيرِ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَيَجِبُ الْإِيصَاءُ بِالْفِدْيَةِ وَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهُ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ التَّأْخِيرَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَائِزٌ فِي حَقِّ الشَّابِّ الصَّحِيحِ دُونَ الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ غَالِبٌ فِي حَقِّ الشَّابِّ الصَّحِيحِ دُونَ الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ وَذَكَرَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِأَبِي فَضْلٍ الْكَرْمَانِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ مُوَسَّعًا يَحِلُّ فِيهِ التَّأْخِيرُ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَقِيَ وَقْتًا لِلنَّفْلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ تَعَيَّنَ لِلْفَرْضِ لِمَا بَقِيَ النَّفَلُ مَشْرُوعًا كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَمَتَى تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ لَمْ يَبْقَ النَّفَلُ فِيهِ مَشْرُوعًا وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْهَا كَوَقْتِ الظُّهْرِ لِلظُّهْرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَدَاءِ لِحَقِّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَهَذَا وَاحِدٌ لَا مُزَاحِمَ لَهُ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِدْرَاكِ وَقْتٍ آخَرَ وَهُوَ مَشْكُوكٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بِالْحَيَاةِ إلَيْهِ وَالْحَيَاةُ وَالْمَمَاتُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ سَوَاءٌ فِي الِاحْتِمَالِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِدْرَاكُ بِالشَّكِّ فَيَبْقَى هَذَا الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا بِلَا مُعَارَضَةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
يَفُوتُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ فَجْأَةً لَمْ يَلْحَقْهُ إثْمٌ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ إمَارَاتٍ يَشْهَدُ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ يَفُوتُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّأْخِيرُ وَيَصِيرُ مُتَضَيَّقًا عَلَيْهِ لِقِيَامِ الدَّلِيل فَإِنَّ الْعَمَلَ بِدَلِيلِ الْقَلْبِ وَاجِبٌ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتَ أَدَائِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ إلَّا فِي وَقْتٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَكُونُ وَقْتُهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَيْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهَا لَا أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ هَذَا الْعَامِ بِعَيْنِهَا.
وَمَا مِنْ سَنَةٍ يَمْضِي إلَّا وَيُتَوَهَّمُ إدْرَاكُ الْوَقْتِ بَعْدَهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعَجْزُ بِعَارِضِ الْمَوْتِ فَرَجَّحْنَا الْحَيَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُزِيلُ وَفِيهِ شَكٌّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعَيُّنِهِ فِعْلًا كَصَوْمِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْعُمْرِ وَوَقْتُ أَدَائِهِ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِي كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرُ الْحَجِّ دُونَ بَاقِي السَّنَةِ وَمَعَ هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعَيُّنِ الْعَبْدِ فِعْلًا فَكَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ بِهِ آخِرُ الْوَقْتِ فَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ كَمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ عُمْرِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ الدَّهْرِ وَالْأَشْهُرِ الَّتِي مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِعُمْرِهِ وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِعُمْرِهِ يَقِينًا وَاَلَّتِي لَمْ يَجِئْ بَعْدُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِعُمْرِهِ فَلَا تَصِيرُ وَقْتَ حَجِّهِ إلَّا بِالِاتِّصَالِ.
وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ وَالِانْفِصَالُ فِي الْحَالِ ثَابِتٌ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا يَبْقَى وَقْتٌ لِحَجِّهِ غَيْرُ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ فَيَكُونُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ تَفْوِيتًا كَالتَّأْخِيرِ عَنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ بِمُضِيِّ وَقْتِ عَرَفَةَ يَفُوتُ وَقْتُ الْحَجِّ فِي الْحَالِ وَلَا يُرْجَى عَوْدُهُ إلَّا بِالْعَيْشِ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ وَفِيهِ شَكٌّ لِأَنَّ الْعَيْشَ إلَى سَنَةٍ لَيْسَ بِأَرْجَحَ مِنْ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ الْعَوْدُ بِالشَّكِّ وَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْفَوْتِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ حَيْثُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِأَنَّ الْفَوْتَ فِيهِ بِالْمَوْتِ وَالْعُمْرُ ثَابِتٌ لِلْحَالِ وَالْمَوْتُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَرْتَفِعُ الثَّابِتُ بِالْمُحْتَمَلِ فَأَمَّا الثَّابِتُ هَهُنَا فَالْفَوْتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْمُحْتَمَلِ وَهُوَ الْعَيْشُ إلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَنَظِيرُهُ الْمَفْقُودُ لَا يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَا يَرِثُ عَنْ وَاحِدٍ لِأَنَّ مِلْكَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ أَيْضًا وَبِخِلَافِ تَأْخِيرِ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي لَيْلَةٍ نَادِرٌ فَلَمْ يُعَدَّ تَفْوِيتًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَصَارَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ لَا فَوَاتَ إلَّا بِالْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ وَيُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ مِنْ الْقُدْرَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا بِالْمَوْهُومِ وَنَحْنُ نَقُولُ إذَا تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْفَوَاتُ وَلَهُ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ فَوَاتًا بِالْإِدْرَاكِ وَفِيهِ شَكٌّ فَحَكَمْنَا بِالْفَوَاتِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فَوَاتًا.
(فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَنَزَلَتْ فَرْضِيَّتُهُ سَنَةَ سِتٍّ مِنْهَا فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ (قُلْنَا) تَأْخِيرُهُ عليه السلام كَانَ لِعُذْرٍ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِأَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا حُرِّمَ لِلْفَوْتِ وَذَلِكَ بِالشَّكِّ فِي الْعَيْشِ وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ عليه السلام فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمٌ قَبْلَ عَامِ الْحَجِّ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الشَّكُّ فِي حَقِّهِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَصَارَ كَأَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الدَّلِيلُ لَمْ يَثْبُتْ فِي
وَيَصِيرُ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ التَّعَارُضِ كَالسَّاقِطِ بِالْحَقِيقَةِ فَيَصِيرُ كَوَقْتِ الظُّهْرِ فِي التَّقْدِيرِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا يُفَوِّتُهُ وَالتَّعَارُضُ لِلْحَالِ غَيْرُ قَائِمٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي غَالِبَةٌ، وَالْمَوْتُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْفُجَاءَةِ نَادِرٌ فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ بِالنَّادِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَوَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا كَأَنَّهُ أَدْرَكَهَا جُمْلَةً فَخُيِّرَ بَيْنَهَا وَلَا يَتَعَيَّنُ أَوَّلُهَا وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ النَّفَلَ بَقِيَ مَشْرُوعًا لِأَنَّا إنَّمَا اعْتَبِرْنَا التَّعْيِينَ احْتِيَاطًا وَاحْتِرَازًا عَنْ الْفَوْتِ فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ لَا غَيْرُ فَأَمَّا أَنْ يَبْطُلَ اخْتِيَارُ جِهَةِ التَّقْصِيرِ وَالْمَأْثَمِ فَلَا وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ لِأَنَّا إنَّمَا عَيَّنَّا الْأَوَّلَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فَإِذَا أَدْرَكَهُ وَذَهَبَ الشَّكُّ صَارَ الثَّانِي هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَسَقَطَ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَحْتَمِلُ الْأَدَاءَ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَفِي إدْرَاكِ الثَّالِثِ شَكٌّ فَقَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ ظَرْفٌ لَهُ لَا مِعْيَارٌ
ــ
[كشف الأسرار]
حَقِّ غَيْرِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا سَأَلَنَا سَائِلٌ وَقَالَ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ حَجٌّ وَأُرِيدُ أَنْ أُؤَخِّرَهُ إلَى السَّنَةِ الَّتِي تَأْتِي وَالْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ عَنِّي فَهَلْ يَحِلُّ لِي التَّأْخِيرُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا نَعَمْ فَلَمْ يَأْثَمْ بِالْمَوْتِ الَّذِي لَيْسَ إلَيْهِ.
وَإِنْ قُلْنَا لَا يَحِلُّ فَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّك تَمُوتُ قَبْلَ إدْرَاكِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَحِلُّ لَك التَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّك تَحْيَا فَلَكَ التَّأْخِيرُ فَيَقُولُ أَوْ مَا يَدْرِينِي مَاذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَمَا فَتْوَاكُمْ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِالتَّحْلِيلِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْإِثْمِ وَإِنْ مَاتَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ الْإِثْمُ بِنَفْسِ التَّأْخِيرِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ (وَيَصِيرُ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ التَّعَارُضِ كَالسَّاقِطِ بِالْحَقِيقَةِ) يَعْنِي قَدْ سَقَطَ أَشْهُرُ الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الْحَجِّ فِي حَقِّهِ لِتَعَارُضِ دَلِيلِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَدَلِيلِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ الْمَمَاتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَقَطَ حَقِيقَةً أَيْ صَارَ كَأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بَعْدُ لَيْسَ مِنْ عُمْرِهِ أَصْلًا فَيَبْقَى هَذَا الْوَقْتُ الْمَوْجُودُ بِلَا مُعَارِضٍ فَيَصِيرُ كَوَقْتِ الظُّهْرِ فَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَتَأْخِيرِ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ أَيْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهِمَا أَنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا يُفَوِّتُهُ لِمَا ذُكِرَ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ مُسَاوِيًا لِدَلِيلِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالتَّعَارُضُ لِلْحَالِ غَيْرُ قَائِمٍ أَيْ تَعَارُضُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي لَيْلَةٍ غَيْرُ قَائِمٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ غَالِبَةٌ وَالْمَوْتُ نَادِرٌ فَلَا يَسْقُطُ إدْرَاكُ الْيَوْمِ الثَّانِي بِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِتَعَارُضِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ كَانَ مُزَاحِمًا لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَثْبُتْ تَعَيُّنُهُ لِلْأَدَاءِ فَجَازَ التَّأْخِيرُ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لِلْحَالِ قَائِمٌ أَيْ تَعَارُضُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْحَالِ قَائِمٌ وَإِنْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْمَوْتِ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ كَمَا فِي الْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَلَا يُقَابِلُ الْغَالِبَ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ لِلْأَدَاءِ فَجَازَ التَّأْخِيرُ.
وَقَوْلُهُ لِلْحَالِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّعَارُضَ فِي الْحَجِّ لِلْحَالِ مَعْدُومٌ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِدْرَاكِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ هَهُنَا فَقَبْلَ الْإِدْرَاكِ ثَابِتٌ وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ النَّفَلَ بَقِيَ مَشْرُوعًا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ وَقْتًا لِلنَّفْلِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا ثَبَتَ هَهُنَا يُعَارِضُ خَوْفَ الْفَوْتِ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ فَيَظْهَرُ التَّعْيِينُ أَيْ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ التَّأْخِيرِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ بِهِ لَا فِي انْتِفَاءِ شَرْعِيَّةِ النَّفْلِ بِخِلَافِ تَعَيُّنِ رَمَضَانَ لِلْفَرْضِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ ثَبَتَ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي انْتِفَاءِ النَّفْلِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ جَمِيعًا فَأَمَّا أَنْ يُبْطِلَ أَيْ بِهَذَا التَّعْيِينِ جِهَةَ اخْتِيَارِ التَّقْصِيرِ وَالْمَأْثَمِ بِالشُّرُوعِ فِي النَّفْلِ فَلَا نَعْنِي شُرُوعَهُ فِي النَّفْلِ اخْتِيَارَ جِهَةِ الْإِثْمِ وَالتَّقْصِيرِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْفَرْضَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ كَمَا لَهُ اخْتِيَارُ جَانِبِ التَّرْكِ أَصْلًا وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إذْ لَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ لَحَصَلَتْ الْعِبَادَةُ جَبْرًا وَالْفِعْلُ الْجَبْرِيُّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً
1 -
قَوْلُهُ (وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ وَقْتِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
الْحَجِّ أَوْ الْوَقْتِ الْمُشْكِلِ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ وَقَوْلُهُ إنَّ وَقْتَ الْحَجِّ إقَامَةٌ لِلْمُظْهَرِ مُقَامَ الْمُضْمَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ وَقْتَ الْحَجِّ يَفْضُلُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ فَإِنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهِمَا وَلَوْ كَانَ مِعْيَارًا لَا يَفْضُلُ عَنْهُ كَوَقْتِ الصَّوْمِ عَنْ الصَّوْمِ وَأَنَّ الْحَجَّ أَفْعَالٌ عُرِفَتْ بِأَسْمَائِهَا كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا وَصِفَتُهَا أَيْ وَهَيْئَتُهَا وَتَرْتِيبُهَا مِثْلُ كَيْفِيَّةِ الطَّوَافِ وَالرَّمَلِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا بِمِعْيَارِهَا أَيْ لَا مَدْخَلَ لِلْوَقْتِ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَانَ ظَرْفًا كَوَقْتِ الظُّهْرِ وَمُشَابَهَتُهُ لِوَقْتِ الصَّوْمِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَدَّرٌ لِلْعِبَادَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اشْتِبَاهًا فِي ظَرْفِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أُذِنَ فِيهِ بِأَدَاءِ حَجٍّ آخَرَ لَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أَمْثَاله مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي الْأَوَّلِ كَمَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا يُدْفَعُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ كَوَقْتِ الظُّهْرِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله الْعِبَادَةُ مَتَى أُعْمِلَتْ بِأَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ بِنَفْسِهَا صَارَتْ مُتَقَدِّرَةً بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا بِالْوَقْتِ وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالْوَقْتِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَغْرَقًا بِهِ فَلَا يَقْتَضِي تَعَيُّنُهُ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ نَفْيَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْحَالَّ بِمَحِلٍّ إنَّمَا يَنْفِي غَيْرَهُ إذَا اسْتَغْرَقَهُ كَالصَّوْمِ لَمَّا قُدِّرَ بِالْوَقْتِ اسْتَغْرَقَهُ وَنُفِيَ غَيْرُهُ وَالِانْتِفَاءُ بِسَبَبِ الْفَرْضِ لَيْسَ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى دَفْعِ غَيْرِهِ صَرِيحًا بَلْ بِحُكْمِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَذَلِكَ بِاسْتِغْرَاقِ الْحَالِّ لِلْمَحَلِّ كُلِّهِ وَلَا اسْتِغْرَاقَ إلَّا إذَا قُدِّرَتْ الْعِبَادَةُ بِالْوَقْتِ وَالْحَجُّ لَمْ يُقَدَّرْ بِالْوَقْتِ فَإِنَّهُ إذَا فُسِّرَ عَنْ قَدْرِهِ قِيلَ أَنَّهُ إحْرَامٌ وَوُقُوفٌ وَطَوَافٌ كَالصَّلَاةِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَلَا يَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَلَا يَنْفِي غَيْرَهُ وَالْأَمْرُ بِالتَّعَجُّلِ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ كَالْأَمْرِ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَنْفِي غَيْرَهُ.
قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ قُلْنَا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ مَنْ عَلَيْهِ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ يَصِحُّ وَيَقَعُ عَمَّا نَوَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَلْغُو نِيَّةُ النَّفْلِ وَيَقَعُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَظُمَ أَمْرُ الْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ عُدِمَتْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً حُجِرَ عَنْ الصَّرْفِ إلَى التَّطَوُّعِ مَعَ قِيَامِ الْفَرْضِ صِيَانَةً لَهُ أَيْ لِحَجِّ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَوْتِ وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمَشَاقِّ الْكَثِيرَةِ وَتَرْكَ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَاخْتِيَارَ النَّفْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ السَّفَهِ وَالسَّفِيهُ عِنْدِي مُسْتَحِقُّ الْحَجْرِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا صِيَانَةً لِمَالِهِ كَالْمُبَذِّرِ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى فَيَجْعَلُ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْحَجْرِ وَيَبْقَى أَصْلُ نِيَّةِ الْحَجِّ وَبِهِ يَتَأَدَّى فَرْضُ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْفَرْضَ ثُمَّ طَافَ أَوْ وَقَفَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ تَلْغُو نِيَّتُهُ وَوَقَعَ ذَلِكَ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا فِي أَصْلِ الْحَجِّ وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ أَصْلُ النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّوْمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّا نَقُولُ الصِّفَةُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَ وَصْفُ الصِّحَّةِ فِي الْحَجِّ بَقِيَ أَصْلُ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الصِّفَةَ هُنَاكَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَإِنَّ الصِّحَّةَ إذَا عُدِمَتْ لَمْ يَبْقَ أَصْلُ الصَّوْمِ لَكِنَّا نَقُولُ الْحَجْرُ عَنْ هَذَا يُفَوِّتُ الِاخْتِيَارَ وَفَوَاتُ الِاخْتِيَارِ يُنَافِي الْعِبَادَةَ
وَجَوَازُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِدَلَالَةِ التَّعْيِينِ مِنْ الْمُؤَدِّي إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ النَّفَلَ وَعَلَيْهِ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فَصَارَ التَّعْيِينُ لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي لَا فِي الْمُؤَدَّى فَإِذَا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ جَاءَ صَرِيحٌ بِخِلَافِهِ فَيَبْطُلُ بِهِ بِخِلَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي وَقْتِهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي وَهَذَا كَنَقْدِ الْبَلَدِ لَمَّا تَعَيَّنَ لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي وَهُوَ تَيَسُّرُ إصَابَتِهِ دَلَالَةً بَطَلَ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِغَيْرِهِ.
ــ
[كشف الأسرار]
فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِالْحَجْرِ لِصِيَانَةِ الْحَجِّ مُؤَدِّيًا إلَى تَفْوِيتِ الْحَجِّ بَيَانُهُ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّ مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ لَا يَصْلُحُ طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا عَلَى مَا عُرِفَ فَإِذَا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ بِأَبْلَغَ مِنْ تَرْكِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي ذَاتِهِ قَابِلٌ لِلنَّفْلِ فَمَعَ هَذَا لَوْ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ كَانَ وَاقِعًا بِدُونِ اخْتِيَارِهِ وَهَذَا هُوَ الْجَبْرُ الصَّرِيحُ فَالْقَوْلُ بِهِ يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى إبْطَالِهِ فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ فَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ يَكُونُ قَوْلًا بِإِبْطَالِهِ إذْ الْعِبَادَةُ لَا تَقَعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ قَطُّ بِخِلَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّفْلِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ النَّفْلِ أَصْلًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِعْرَاضُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ النَّفْلِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَوْلُهُ وَقَطُّ لَا يَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِلَا اخْتِيَارٍ رَدٌّ لِقَوْلِهِ وَصَحَّ أَصْلُهُ بِلَا نِيَّةٍ وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ الِاخْتِيَارُ فِي كُلِّ بَابٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ صِحَّةِ إحْرَامِ الرُّفْقَةِ عَنْهُ بِدُونِ أَمْرِهِ وَقَصْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَعْنِي إنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُ تَقْدِيرًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ أَصْلًا.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالرُّفْقَةُ إنَّمَا تُعْقَدُ لِيُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَالْإِذْنُ دَلَالَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَإِذَا ثَبَتَ الْأَذَانُ قَامَتْ نِيَّتُهُمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَكَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاخْتِيَارِ كَافِيًا فِيمَا هُوَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى بَدَنِهِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ لِأَنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي الشُّرُوطِ وَلَا تَجْرِي فِي الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ وَلَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَابَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَفِي أَصْلِ الْإِحْرَامِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ فَيَنُوبُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهَا الْعَجْزُ لِأَنَّهُمْ إذَا حَضَرُوا الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ رَاكِبًا بِعُذْرٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ نِيَابَتُهُمْ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ يَصِحُّ أَيْضًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَهُوَ الْأَصَحُّ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطُوفُوا بِهِ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ رَفِيقًا وَلَوْ أَدَّوْا عَنْهُ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدَّى بِالنَّائِبِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (وَجَوَازُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ يَصِحُّ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَعْيِينَ الْفَرْضِ سَاقِطٌ بَلْ هُوَ شَرْطٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَكَلَّفُ لِحَجِّ النَّفْلِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَصَارَ الْفَرْضُ مُتَعَيَّنًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ التَّعْيِينِ وَانْصَرَفَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ إلَيْهِ فَإِذَا سَمَّى شَيْئًا آخَرَ نَصًّا انْدَفَعَ بِهِ مَا تَعَيَّنَ بِالْحَالِ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ ثَوَابَهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى مَنْ شَاءَ لَا أَنْ يَكُونَ الْأَفْعَالُ وَاقِعًا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَحْرَمَ عَنْهُمَا لِأَنَّ جَعْلَ الثَّوَابِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْهُمَا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَتَمَسَّكَ فِيهِ بِأَحَادِيثَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا