المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع عَنْ رَافع بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٧

[السفاريني]

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع عَنْ رَافع بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا

‌الحديث الرابع

عَنْ رَافع بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذِي الحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إبِلًا وَغَنَمًا، وَكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في أخْرَيَاتِ القَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُور، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بالقُدور فَأكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكانَ فِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللهُ، فَقَالَ:"إن لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كأَوَابدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُم مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بهِ هَكَذَا"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا لَاقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، أفنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟

قَالَ: "مَا أَنْهَر الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأحَدِّثُكمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ، فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ، فَمُدَى الحَبَشَةِ"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البُخاريّ (2356)، كتاب: الشركة، باب: من عدل عشرًا من الغنم بجزور في القسم، و (2910)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، و (5179)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: التسمية على الذبيحة، و (5184)، باب: ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5187)، باب: لا يذكى بالسن والعظم والظفر، و (5190)، باب: ما ندَّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، و (5223) باب: إذا أصاب قوم غنيمة، فذبح بعضهم غنمًا أو إبلًا بغير أمر أصحابهم، لم تؤكل، و (5224)، باب: إذا =

ص: 10

(عن) أبي عبد الله (رافعِ بنِ خَدِيج) -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبالجيم- الحارثيِّ الأنصاريِّ، الأوسيِّ (رضي الله عنه قال: كنا) معشرَ الصحابة (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفة)، زاد مسلم:(من تِهامةَ)، وهذه ليست بذي الحليفة الميقات المعروف، وإنما هي عند ذات عرق كما ذكره ياقوت وغيره.

وذكر القابسي: أنها المُهَلُّ التي بقرب المدينة، وقاله أيضًا النووي.

وفي "مسلم" ما يردُّ ذلك (1).

وتِهامُة: كلُّ ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، سُمي بذلك لتغير

= ند بعير لقوم، فرماه بعضهم بسهم فقتله، فأراد إصلاحه، فهو جائز.

ورواه مسلم (1968/ 20 - 23)، كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلَّا السنن والظفر وسائر العظام، وأبو داود (2821)، كتاب: الضحايا، باب: في الذبيحة بالمروة، والنَّسائيُّ (4403)، كتاب: الضحايا، باب: النهي عن الذبح بالظفر، و (4404)، باب: الذبح بالسن، و (4409 - 4410)، باب: ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها، والترمذي (1491)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الذكاة بالقصب وغيره، وابن ماجه (3178)، كتاب: الذبائح، باب: ما يذكى به.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"معالم السنن" للخطابي (4/ 278)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 415)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 367)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 122)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1627)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 344)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 625)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 112)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 87)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 18).

(1)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

ص: 11

هوائها، يقال: تهم الدهنُ: إذا تغير ريحُه، ومكةُ من تهامةَ معدودة كما في "المطالع"(1).

وفي "القاموس": تهامة -بالكسر-: مكّة -شرّفها الله تعالى-، وبلاد معروفة (2).

(فأصاب النَّاسَ جوع) في تلك الغزاة.

قال ابن التين: وكانت سنةَ ثمان من الهجرة في قضية حنين (3).

(فأصابوا)؛ أي: غَنِموا (إبلًا وغنمًا، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أُخْرَيات القوم)؛ أي: في أواخرهم وأعقابهم، وهي جمع أُخرى، وكان يفعل ذلك رفقًا بهم، وليحمل المنقطع منهم (4)، (فعجِلوا) -بكسر الجيم-، (وذبحوا) من المواشي المغنومةِ قبل قسمتها، (ونصبوا القدور) على الأثافِيِّ ليطبخوا لحم ما ذبحوه من مواشي الغنم، والقدور: جمع قِدْر -بالكسر- مؤنث، أو يؤنث كما في "القاموس"، وهو ما يطبخ فيه (5)، (فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت)؛ أي: قلبت وأُميلت وأُريق ما فيها، وهو من الإكفاء.

قال ثعلب: كفأتُ القدرَ: إذا كببته، وكذا قال الكسائي وغيره، فعلى هذا إنما يقال: كُفِئَتْ، وأُكْفِئَتْ إنما يقال على قول ابن السكيت في "الإصلاح"، لأنَّه نقل عن ابن الأعرابي وأبي عبيد وآخرين: أنه يقال: أُكفئَت.

(1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 126).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1400)، (مادة: تهم).

(3)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

(4)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

(5)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروأبادي (ص: 591)، (مادة: قدر).

ص: 12

وقال ابن التين: صوابه كُفِئَت بغير ألف؛ من كَفَأْتُ الإناءَ، مهموزًا.

واختلف في إمالة الإناء، فيقال فيها: كفأت وأكفأت، وكذا اختلف في أكفأت الشيء لوجهه (1).

واختلف في سبب أمره بإكفاء القدور، فقيل: لأنهم فعلوا ذلك من غير قسمة بلا حاجة إلى أكلها، ويشهد له قوله: فانتهبناها (2)؛ كما في بعض الروايات، لكن في قوله: بلا حاجة إلى أكلها نظر؛ لأنَّه يردُّه قوله في الحديث: فأصاب النَّاسَ جوع، وفي رواية: فأصابتنا مجاعة (3)، فهو بيان لوجه الحاجة.

وقيل: لاستعجالهم في ذلك من غير إذن ولا تربص ليقدَمَ صلى الله عليه وسلم مع ما يعرض من مكيدة العدو، فأحرمهم الشارعُ ما استعجلوه عقوبةً لهم بنقيض قصدِهم؛ كما منع القاتلَ من الميراث.

قال القرطبي: ويؤيده رواية أبي داود: وتقدَّمَ سرعانُ النَّاس، فتعجلوا، فأصابوا الغنائم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في آخر النَّاس (4).

وقال النووي: إنما أمرهم بذلك؛ لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام، والمحل الذي لا يجوز الأكلُ فيه من مال الغنيمة المشتركة؛ فإن

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

(2)

رواه ابن ماجه (3938)، كتاب: الفتن، باب: النهي عن النهبة، من حديث الحكم بن ثعلبة رضي الله عنه.

(3)

رواه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 283)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(22323)، من حديث عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من أصحاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، به.

(4)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2821). وانظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 375).

ص: 13

الأكلَ منها قبل القسمة إنما يُباح في دار الحرب، والمأمور به من الإراقة إنما هو إتلافُ المرق عقوبة لهم، وأما اللحم، فلم يتلفوه، بل يُحمل على أنه جُمِعَ ورُدَّ إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه؛ لأنَّه مالُ الغانمين، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.

فإن قيل: لم يُنقل أنَّ اللحم حمل إلى الغنيمة، فالجواب: أنه لم يُنقل أيضًا أنهم حرقوه ولا أتلفوه، فوجب تأويله على وفَقْ القواعد الشرعية؛ بخلاف لحم الحمر الأهلية يومَ خيبر؛ لأنها صارت نجسة (1).

(ثم قسم) صلى الله عليه وسلم الغنيمةَ بين الغانمين، (فعدل عشرةً من الغنم ببعير).

هذا محمول على أنه كان بحسب قيمتها يومئذٍ، ولا يود عليه كونُ السبع من الغنم يعدلُها واحد من الإبل في الأضحية (2)؛ لأنَّ النظر في القسمة إلى القيمة، ولا نظر لها في الأضحية، (فندّ) -بفتح النون وتشديد الدال المهملة-؛ أي: نفرَ وذهبَ على وجهه شاردًا، يقال: نَدَّ يَندُّ نَدًّا [ونَديدًا] ونُدودًا (3)(منها)؛ أي: من إبل الغنيمة (بعير، فطلبوه) ليردُّوه إلى الغنيمة، (فأعياهم)؛ أي: أعجزهم. يقال: أعيا: إذا عجز، وعيي بأمره: إذا لم يهتدِ لوجهه، ومنه حديث عليّ رضي الله عنه فِعْلُهم الداءُ العياء، وهو الذي أعيا الأطباء، ولم ينجع فيه الدواء.

وحديث الزُّهريّ أن بريدًا من بعض الملوك جاءه يسأله عن رجلٍ معَهُ

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 127). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 411)، (مادة: ندد). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

ص: 14

ما معَ المرأة، كيف يورث؟ قال: من حيثُ يخرجُ الماءُ الدافق.

قال في ذلك قائلهم:

[من الكامل]

وَمُهِمَّةٍ أَعْيَا القُضَاةَ عَيَاؤُهَا

تَذَرُ الفَقِيهَ يَشُكُّ مِثْلَ الْجَاهِلِ

عَجَّلْتَ قَبْلَ حَنِيذِهَا بِشِوَائِهَا

وَقَطَعْتَ مَحْرَدَهَا بِحُكْمٍ فَاصِلِ

أراد: أنك عجَّلت الفتوى فيها، ولم تستأنِ في الجواب، فشبهه برجل نزل به ضيفٌ، فعجَّل قِراه بما قطع له من عبد الذَّبيحة ولحمِها، ولم يحبسه على الحنيذ والشواء، وتعجيلُ القِرى عندهم محمود، وصاحبهُ ممدوح (1).

(وكان في القوم)؛ أي: الغزاة؛ يعني: العسكرَ (خيلٌ يسيرة)؛ أي: قليلة، (فأهوى)؛ أي: قصد.

قال الأصمعي: أهويتُ بالشيء إلى الشيء: إذا أومأت إليه (2)(رجل منهم)؛ أي: القوم (بسهمٍ) متعلق بـ: أهوى، فأصابَ البعير، (فحبسَه اللهُ) تعالى عن شروده ونفوره بما أصابه من جراحة سهم الرامي، (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:(إنَّ لهذه البهائمِ) من الإبل والغنم وغيرها، سميت بهيمة؛ لأنَّها لا تتكلم.

وفي لفظ: "لهذه الإبل (أوابدَ) "(3) جمع آبِدة -بالمدِّ وكسر الباء الموحدة المخففة-، يقال منه: أَبَدَتْ تَأْبُدُ -بضم الباء وكسرها-، وهي التي نفرت من الإنس وتوحَّشت.

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 334 - 335).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (3/ 102).

(3)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5184، 5190)، وعند مسلم برقم (1968/ 20).

ص: 15

وقال القزاز: مأخوذة من الأبد، وهو الدهر؛ لطول مقامها.

وقال أبو عُبيد: أُخذت من تأبدت الدار تأبدًا، وأبدَت تأبِدُ أُبودًا: إذ خلا منها أهلها (1).

وفي "المطالع": قوله صلى الله عليه وسلم: "أوابد"؛ أي: نوافر، يقال: أبدت تأبِد، أو تأبُد أُبودًا فهي آبدة: إذا توحشت (2). ومن ثم قال: (كأوابد)؛ أي: نَفور (الوحش)، وهو ما لا يستأنس من دواب الأرض، والجمع وحوش. يقال: حمار وَحْش، وثور وَحْش (3).

(فما غلبكم منها)؛ أي: البهائم النافرة، إما بِعَدْوِه، وإما باستصعابه، والجامعُ لذلك كلِّه عدمُ القدرة على المقصود عنه.

(فاصنعوا)؛ أي: افعلوا (به)؛ أي: بالنادِّ والمتوحِّش منها ونحوِه (هكذا)؛ أي: ارموه بالسهم، فإذا نفر من البهائم الإنسية شيء، فهو بمنزلة الوحش في جواز عقره على أي صفة اتفقت (4)؛ كما أفاده قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا"(5) كما في لفظ من ألفاظ هذا الحديث.

وأما لفظ: "إن لهذه الإبل أوابد" إلخ، فالظاهر: أن تقديم ذِكْرِها كالتمهيد لكونها تشارك المتوحش في الحكم.

وأما قول ابن المنير: فإنها تنفر كما ينفر الوحش لأنها تُعطى حكمَها، فيردُّه آخرُ الحديث، وهو قوله:"فاصنعوا به" إلخ (6)، فدل على أن ما نَدَّ

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

(2)

وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 11).

(3)

انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 368)، (مادة: وحش).

(4)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (21/ 119).

(5)

تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5190)، وعند مسلم برقم (1968/ 20).

(6)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 638).

ص: 16

من الحيوان الإنسي، ولم يُقدر عليه، جاز أن يذكَّى بما يذكَّى به الصيد، وبه قال الإمام أحمد.

وهو مذهب أبي حنيفة، والشّافعيّ، وهو قول عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، ومن التابعين: طاوس، وعطاء، والشعبي، والأسود بن يزيد، والنخعي.

وذهب إليه الثوري، وداود، وغيرهم.

قال النووي: ذهب الجمهور إلى حديث أبي العشراء عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلَّا في اللبة والحلق؟ قال: "لو طعنت في فخذها، لأجزأ عنك" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابن ماجه (1)، وغيرهم، ورواته ثقات إلَّا أبا العشراء، فمختلَف فيه.

قال التِّرمذيّ بعد أن رواه: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة، وقال: لا يعرف هذا الحديث إلَّا من حديث حماد بن سلمة، قال: ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث.

واخْتُلِف في اسم أبي العشراء، فقيل: أسامة بن قِهْطم، وقيل: يسار بن برز، ويقال: ابن بلز، ويقال: اسمه عطارد (2).

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 334)، وأبو داود (2825)، كتاب: الضحايا، باب: ما جاء في ذبيحة المتردية، والنَّسائيُّ (4408)، كتاب: الضحايا، باب: ذكر المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها، والترمذي (1481)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة، وابن ماجه (3184)، كتاب: الذبائح، باب: ذكاة الناد من البهائم.

(2)

انظر: "سنن التِّرمذيُّ"(4/ 75)، عقب حديث (1481) المتقدم تخريجه.

ص: 17

وقال عليّ بن المديني: المشهور أن اسمه: أسامة بن مالك بن قهطم، فنسب إلى جده.

وقِهْطم -بكسر القاف وسكون الهاء وبالطاء المهملة-، وقيل: قحطم -بالحاء المهملة- (1).

قلت: ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فقال: أسامة بن مالك بن قهطم الداري، تابعي، روى عن أبيه، وروى عنه حماد بن سلمة، يُعد في البصريين، وفي نسبه واسمه اختلاف كثير، قال: وهذا أشهر ما قيل فيه، انتهى (2).

وقال الإمام مالك، وربيعة، والليث بن سعد: لا يؤكل إلَّا بذكاة الإنسي بالنحر أو الذبح استصحابًا لمشروعية أصل ذكاته؛ لأنَّه، وإن كان قد أُلحق بالوحش في الامتناع، فلم يلتحق بها لا في النوع، ولا في الحكم، ألا ترى أن مُلْكَ مالكِه باقٍ عليه؟

وهذا قول سعيد بن المسيب أيضًا.

قال مالك: ليس في حديث رافع بن خديج: أن السهم قتله، وإنما قال: حبسه، ثم بعد أن حبسه، صار مقدورًا عليه، فلا يؤكل إلَّا بالذبح أو النحر، ولا فرق بين كونه وحشيًا أو إنسيًا.

وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "فاصنعوا به هكذا": نحن نقول بموجبه أيضًا؛ أي: نرميه ونحبسه، فإن أدركناه حيًا، ذكيناه، وإن تلف بالرمي، فهل نأكله أو لا؟ ليس في الحديث تعيينُ أحدهما، فلحق بالمُجْمَلات، فلا تنهض به حجة.

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47).

(2)

انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 172 - قسم التراجم).

ص: 18

وقالوا في حديث أبي العشراء: ليس بصحيح، ولو سلمنا صحته، لاقتضى جواز الذكاة في أي عضوٍ كان مطلقًا، في المقدور على تذكيته وغيره، ولا قائل بذلك في المقدور عليه، فظاهره ليس بمراد قطعًا، وتخصيصُه بغير المقدور عليه تحكُّم.

وحمل بعض العلماء أن الحديث خرج جوابًا لسؤال عن المتوحش أو المتردِّي الذي لا يقدر على ذبحه.

وأما عمومُه، فلا عمل عليه، ولهذا نقل أبو الحسن الميموني: أنه سأل الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل رضي الله عنه عن هذا الحديث، فقال: هو عندي غلط، فقلت: فما تقول أنت؟ فقال: أما أنا، فلا يعجبني، ولا أذهب إليه إلَّا في وضع ضرورة كيفما أمكنتك الذكاة لا تكون إلَّا في الحلق أو اللبة، انتهى (1).

وقد روى ابن أبي شيبة من طريق أبي راشد السـ[ـلـ]ـماني، قال: كنت أرعى منائح لأهلي بظهر الكوفة، فتردَّى منها بعير، فخشيت أن يسبقني بذكاته، فأخذت حديدة، فوجأت بها في جنبه أو سنامه، ثم قطعته أعضاء، وفرّقته على أهلي، فأبوا أن يأكلوه، فأتيت عليًا، فقمت على باب قصره، فقلت: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! فقال: يا لَبَّيْكاه! يا لَبيكاه! فأخبرتُه خبرَه، فقال: كل وأطعمني (2).

وروى عبد الرَّزاق في أثر حديث رافع بن خديج، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن بعيرًا تردَّى في بئر

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47 - 48).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(19840)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(6/ 239).

ص: 19

بالمدينة، فلم يقدر على نحره، فوُجىء بسكين من قِبَلِ خاصرته حتَّى مات، فأخذ منه ابنُ عمر عشيرًا بدرهمين (1)، والعَشير: لغةٌ في العشر؛ كالنصف والنَّصيف (2).

وفي لفظ: أن ناضحًا تردَّى بالمدينة، فذُبح من قبل شاكلته، فأخذ منه ابنُ عمر عشيرًا بدرهمين.

وأخرجه ابن أبي شيبة عن عباية بلفظ: تردَّى بعيرٌ في رَكِيَّة، فنزل رجلٌ لينحرَه، فقال: لا أقدر على نحره، فقال له ابن عمر: اذكرِ اسمَ الله، ثم اطعن في شاكلته، ففعل، وأُخرج مقطَّعًا، فأخذ منه ابنُ عمر عَشيرًا بدرهمين أو أربعة (3).

قال علماؤنا: إن عجز عن قطع الحلقوم والمريء مثل أن يندَّ البعير، أو يردى في بئر، فلا يُقدر على ذبحه، صار كالصيد، إذا جرحه في أي موضع أمكنه، فقتله، حلّ أكله، إلَّا أن يموت بغيره؛ مثل أن يكون رأسُه في الماء، فلا يباح، ولو كان الجرح موحيًا؛ كما لو جرحه مسلم ومجوسي (4).

قال في "الفروع": نص عليه، وقيل: يحل إن كان جرحه موحيًا (5)، والله أعلم.

ثم (قال) رافعُ بنُ خَديج رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! إنا لاقو) من الملاقاة (العَدُوِّ) من أهل الشرك (غدًا، وليست معنا)؛ أي: مع

(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(8481).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48).

(3)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(19838).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 317).

(5)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 291).

ص: 20

كلنا، وإن كان بعضهم معه (مُدًى) -بضم الميم- جمع مدية، وهي السكين، والجملة حالية (أفنذبح بالقصب؟).

وفي رواية لمسلم: فنذكِّي باللِّيط (1) -بكسر اللام وسكون الياء ثم طاء مهملة آخر الحروف-، وهي قطع القصب، قاله القرطبي (2).

وقال النووي: قشوره، الواحدة ليطة (3).

وفي "النهاية": اللِّيط: قشرُ القصب، والقناة، وكل شيء به صلابة ومتانة، والقطعة منه ليطة (4).

وفي "سنن أبي داود": تُذَكَّى بالمَرْوَة (5)؟ وتقدم أنه الحجر.

فإن قيل: ما معنى هذا السؤال عند ذكر لقاء العدو؟

فالجواب: لأنهم كانوا عازمين على قتال العدو، وصانوا سيوفهم وأسنتهم وغيرها عن استعمالها؛ لأنَّ ذلك يفسد الآلة، ولم يكن لهم سكاكين صغار معدَّة للذبح؛ كما أشار إليه العيني (6) وغيره.

(قال) عليه الصلاة والسلام: (ما أنهرَ)؛ أي: ما أسالَ وأجرى (الدمَ) وكلمة "ما" شرطية، أو موصولة، والحكمة في اشتراط الإنهار دلَّ على تحريم الميتة لبقاء دمها.

(1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1968/ 22).

(2)

انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 367).

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 127).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 286).

(5)

تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2821).

(6)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47).

ص: 21

يقال: أنهر الدم: أساله، وصَبَّه بكثرة، وهو مشبه بجري الماء [في النهر](1).

وفي لفظ: "ما أنهز" -بالزاي-، وهو الدفع، لكنه غريب (2)، (وذكر اسمُ الله عليه)؛ بأن يقول: باسم الله عند حركة يده بالذبح، دل على اشتراط التسمية؛ لأنَّه قرنها بالذكاة، وعلق الإباحة عليها، فصار كل واحد منهما شرطًا، وهو حجة على من لم يشترطها؛ كالشافعيّ؛ فإن مذهبه حِلُّ متروكِ التسمية، ولو عمدًا.

وعند الثلاثة: لا يحلُّ إن تركها عمدًا، وكذا عندنا لو تركها جهلًا، وأما إن نسيها، فلا تحرم على معتمد المذهب، وقد ذكره ابن جرير إجماعًا، ولا يعتبر كون البسملة بالعربية، ولو ممّن يحسنها.

وقد ذكره بعض الحنفية إجماعًا، لأنَّه قد ذكر الله.

ويُسن التَّكبيرُ معها، فيقول: باسم الله والله أكبر. ولا تُستحب الصلاة على النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها، فإن كان أخرس، أومأ برأسه إلى السماء، ولو أشار إشارة تدل على التسمية، وعلم ذلك، كان كافيًا.

وقال داود بن عليّ الظاهري: ويحرم متروكُ التسمية، ولو ناسيًا.

قال الطبري: من قال: إن ما ذبحه المسلم، فنسي أن يذكر اسم الله عليه، لا يحل، فهو قولٌ بعيدٌ من الصواب؛ لشذوذه، وخروجِه عما عليه الجماعة.

(1) ما بين معكوفين سقط من "ب".

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 416)، وعنه النووي في "شرح مسلم"(13/ 123)، وابن حجر في "فتح الباري"(9/ 628)، والعيني في "عمدة القاري"(13/ 47)، وعن الأخير نقل الشارح رحمه الله.

ص: 22

وقال صاحب "الهداية" من الحنفية عن قول الشّافعيّ: يحلُّ متروكُ التسمية، ولو عمدًا: هذا القول من الشّافعيّ مخالفٌ للإجماع؛ لأنَّه لا خلافَ فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدًا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيًا (1).

وأما الحديث الذي رواه الدارقطني عن ابن عباس: أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمُ يكفيه اسمُه، فإن نسي أن يسمِّي حين يذبحُ، فليسمِّ، وليذكرِ اسمَ الله، ثم ليأكل"(2)، فهو حديث ضعيف؛ لأنَّ في سنده محمدَ بنَ يزيدَ بنِ سنان، فهو وإن كان صدوقًا، لكنه شديد الغفلة.

وفي سنده أيضًا مغفل بن عبد الله، وهو وإن كان من رجال مسلم، إلَّا أنه أخطأ في رفع هذا الحديث.

وقد رواه سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزُّبير الحُميدي عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، من قوله.

وكذلك الحديث الذي رواه الدارقطني من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: الرجلُ منا يذبح ثم ينسى أن يسمي الله، قال:"اسمُ الله على كل مسلم"(3)، فهو ضعيف؛ لأنَّ في سنده مروانَ بن سالم، ضعَّفه الإمام أحمد، والدارقطني.

وأما ما رواه أبو داود عن الصَّلْت، عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال: "ذبيحةُ المسلم

(1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 63). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48).

(2)

رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 296).

(3)

رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 295).

ص: 23

حلالٌ، ذكرَ اسمَ الله، أو لم يذكرْ" (1)، فهو مرسل، وفيه مع الإرسال: أن الصَّلْتَ السدوسيَّ لا يُعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا الحديث، ولا روى عنه غيرُ ثور بن يزيد (2).

وقد قال الغزالي في "الإحياء" في مراتب الشبهات:

المرتبة الأولى: ما يتأكد الاستحبابُ في التورُّع عنه، وهو ما يقوى فيه دليلُ المخالِف، فمنه: التورعُ عن أكل متروك التسمية؛ فإن الآية ظاهرة في الإيجاب، والأخبار متواردة بالأمر بها.

قال: ولكن لما صح قولُه صلى الله عليه وسلم: "المؤمنُ يذبحُ على اسم الله، سمَّى أو لم يُسَمِّ"، احتمل أن يكون عامًا موجبًا لصرف الآية والإخبار عن ظاهر الأمر، واحتمل أن يخصَّصَ بالناسي، ويبقى من عداه على الظاهر، وهذا الاحتمال الثاني أولى (3).

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الحديثُ الذي اعتمد عليه، وحكم بصحته، بالغَ النوويُّ في "أذكاره"، فقال: هو مجمَعٌ على ضعفه، [قال] (4): وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة، وقال: منكر، لا يحتج به (5)، والله الموفق.

(فكلوه)؛ لإباحته، والفاء جواب الشرط، أو لتضمنه.

(1) رواه أبو داود في "المراسيل"(378).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48 - 49).

(3)

انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 155).

(4)

ما بين معكوفين سقط من "ب".

(5)

رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 240). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 636).

ص: 24

وقال في "الفتح": "ما" موصولة في موضع رفع بالابتداء، وخبرها:"فكلوه"، والتقدير: ما أنهرَ الدمَ، فهو حلال، فكلوه، ويحتمل أن تكون شرطية.

ووقع في رواية ابن إسحاق: "كل ما أنهر الدم ذكاة"، و"ما" في هذا موصولة (1)، (ليس السنَّ والظفر) بالنصب على الاستثناء بليس.

قال في "الفتح": ويجوز الرفع؛ أي: ليس السنُّ والظفرُ مباحًا، أو مجزئًا.

ووقع في رواية أبي الأحوص: "ما لم يكن سنٌّ أو ظفرٌ"(2).

وفي رواية عمر بن عبيد: "غير السن الظفر"(3).

وفي رواية داود بن عيسى: "إلَّا سنًا أو ظفرًا"(4).

(وسأحدثكم عن ذلك).

وفي رواية: "سأخبركم"(5)؛ أي: سأبين لكم العلة في ذلك، وليس السين هنا للاستقبال، بل للاستمرار، كما في قوله تعالى:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} [النساء: 91].

وزعم الزمخشري أن السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه، أفادت أنه واقع لا محالة (6).

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 628).

(2)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5223).

(3)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5224).

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(4386). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 628).

(5)

تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5179).

(6)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47).

ص: 25

وهل هذه الجملة من جملة المرفوع، أو مدرجة؟ جزم النووي بأن ذلك من جملة المرفوع، وأنه من كلام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق.

وجزم أبو الحسن بن القطان في كتاب "بيان الوهم والإبهام": بأنه مُدْرج من قول رافع بن خَديج راوِي الخبر، وذكر ما حاصله: أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أورده على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: أو ظفر: قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك، ونسب ذلك لرواية أبي داود، وهو عجيب؛ فإن أبا داود أخرجه عن مسدد، وليس في شيء من نسخ السنن قوله: قال رافع، وإنما فيه -كما عند البخاريّ وغيره- بدون قال رافع (1).

والحاصل: أن المعتمد من ذلك أنه من جملة المرفوع.

(أما السنُّ فعظمٌ)، قال البيضاوي: وهو قياس حُذفت منه المقدمةُ الثَّانية؛ لشهرتها عندهم، والتقدير: أما السنُّ، فعظم، وكلُّ عظم لا يحلُّ الذبحُ به، وطوى النتيجة؛ لدلالة الاستثناء عليها.

وقال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد قرر كونَ الذكاة لا تحصل بالعظم، فلذلك اقتصر على قوله:"فعظم".

قال: ولم أَرَ بعد البحث مَنْ نقلَ المنعَ من الذبح بالعظم حتَّى يتعقل (2).

وقال الحافظ ابن الجوزي في "المشكل": هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودًا عندهم أنه لا يجزىء، وقررهم الشارع على ذلك، وأشار إليه هنا.

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 672).

(2)

وانظر: "فتاوى ابن الصلاح"(2/ 472).

ص: 26

قال التَّيميُّ: العظم غالبًا لا يقطع، إنما يجرح ويُدمي، فتزهق النفس من غير أن يتيقن وقوع الذكاة، فلهذا نهى عنه.

وقال النووي: لا يجوز بالعظم؛ لأنَّه يتنجس بالدم، وهو زادُ إخواننا في الجن، ولهذا نهى عن الاستنجاء به (1).

وقال الكرماني: السنُّ عظم خاص، وكذلك الظفر، ولكنهما في العرف ليسا بعظمين، وكذا عند الأطباء (2).

(وأما الظُّفْر) -بضم الظاء المعجمة وسكون الفاء، وبضمها أيضًا-، وأما -كسر الظاء-، فشاذ، يكون للإنسان وغيره، كالأُظفور. والجمع أظفار، وأظافير (3)، (فمُدَى) جمع مُدية، وهي بالتثليث: السكين (الحبشة)؛ أي: وهم وكفار، وقد نُهيتم عن التشبه بهم، قاله ابن الصلاح (4)، وتبعه النووي (5).

وقيل: نهي عنهما؛ لأن الذبح بهما تعذيبٌ للحيوان، ولا يقع به غالبًا إلَّا الخنق الذي ليس هو على صورة الذبح.

وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتَّى تزهق نفسُها خنقًا.

واعترض على التعليل الأول بأنه لو كان كذلك، لامتنع الذبح بالسكين، وسائر ما تذبح به الكفار.

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 124 - 125). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 633).

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 132).

(4)

انظر: "فتاوى ابن الصلاح"(2/ 473).

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 125).

ص: 27

وأجيب: بأن الذبح بالسكين هو الأصل، وأما ما يلتحق بها، فهو الذي يعتبر فيه التشبيه؛ لضعفها، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها.

وفي "المعرفة" للبيهقي من رواية حرملة عن الشّافعيّ: أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في البخور، فقال: إن السنَّ إنما يذكَّى بها إذا كانت منتزعةً، فأما وهي ثابتة، فلو ذبح بها، لكانت منخنقة؛ يعني: فدل على أن المراد بالسن: السنُّ المنتزَعة.

وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية من جواز التذكية بالسن المنفصلة.

قال: وأما الظفر، فلو كان المراد به ظفر الإنسان، لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طِيبٌ من بلاد الحبشة، وهو لا يفري، فيكون في معنى الخنق. كذا قال (1)، ولا يخفى ما فيه من البعد (2).

تنبيهان:

* الأول: اتفق الأئمة الأربعة على أن الذكاة بالسن أو الظفر المتصلين لا تجوز، واختلفوا فيما إذا كانا منفصلين.

فقال مالك، والشّافعيّ، وأحمد: لا تجوز أيضًا.

وقال أبو حنيفة: تجوز (3).

قال البدر العيني في "شرح البُخاري": ظاهر الحديث عدمُ جواز الذبح

(1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 454).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629).

(3)

انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 308).

ص: 28

بالسن والظفر، ويدخل فيه ظفرُ الآدميِّ وغيرِه من كلِّ الحيوانات، وسواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس.

وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين.

وعن مالك روايات:

أشهرها: جوازُ الذبح بالعظم دون السنِّ كيف كان.

والثانية: كمذهب أبي حنيفة.

والثالثة: يجوز بكل شيء يُصنع من عظم وغيره بحيث يَفْري الأوداجَ، وينهر الدم.

وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: يجوز الذبحُ بالظفر والقرنِ والسنِّ إذا كان منزوعًا، ويُنهر الدمَ، ويَفْري الأوداج (1).

وذكر العيني عن محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة: أنه قال: أكره هذا الذبحَ، وإن فعل، فلا بأس بأكله (2).

والمراد بمحمد: ابن الحسن، ويعقوب: أبو يوسف -رحمهما الله تعالى-.

* الثاني: يجوز الذبح بكل محدود من حجر وقصب وخشبة وعظم، إلَّا السنَّ والظفر.

وفي "الفروع": وفي عظمٍ غيرِ سِنٍّ روايتان (3):

(1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 65).

(2)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 49).

(3)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 281).

ص: 29

قال في "تصحيح الفروع": أطلق الخلاف، وأطلقه أيضًا في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، وغيرهم.

إحداهما: يحل، وهو الصحيح.

قال في "المغني": مقتضى إطلاق الإمام أحمد إباحةُ الذبح به، قال: وهو أصح (1)، وصححه الشارح، والناظم، وهو ظاهر كلامه في "الوجيز".

والرواية الثَّانية: لا يباح (2).

قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" في الفائدة السادسة بعد ذكر الحديث: وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعضها، وإما لتنجيسه على مؤمني الجن (3)، واختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، وقدمه ابن رزين في "شرحه"(4)، وفي "شرح المنتهى" للمصنف (5).

وأما الذبح بالعظم غير السن، فمقتضى إطلاق قول أحمد، والشافعي، وأبي ثور: إباحتُه، وهو قول عمرو بن دينار، وأصحاب الرأي؛ لأنَّ العظم دخل في عموم اللفظ المبيح، ثم استثنى السن والظفر خاصة، فتبقى سائر العظام داخلةً فيما يباح الذبح به، والمطلَق مقدَّم على التعليل، ولهذا علل الظفرَ بكونه مُدَى الحبشة.

وجزم ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" بحمل الحديث على السن

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 316).

(2)

انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (10/ 392 - 393).

(3)

انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 162).

(4)

انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (10/ 393).

(5)

انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 333). ولا أدري ما قصد الشارح رحمه الله بقوله: "للمصنف".

ص: 30

والظفر المتصلين، ثم قال: واستدل به قومٌ على منع الذبح بالعظم مطلقًا، لقوله:"أما السن، فعظم"، فعلل منعَ الذبح به لكونه عظمًا، والحكم يعم بعموم علته (1).

قال: وقد جاء عن مالك في ذلك أربع روايات:

ثالثها: يجوز بالعظم دون السن مطلقًا.

رابعها: يجوز بهما مطلقًا، حكاه ابن المنذر.

وحكى الطحاوي: الجواز مطلقًا عن قومٍ (2)، واحتجوا بقوله في حديث عدي بن حاتم:"أَمِرَّ الدم بما شئت" أخرجه أبو داود (3).

ولكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحًا في حديث رافع عملًا بالحديثين (4).

ولفظ حديث عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله! أرأيت أحدنا أصاب صيدًا، وليس معه سكين: أيذبح بالمروة، وشقة العصا؟ فقال:"أَمْرِرِ الدمَ بما شئت، واذكر اسم الله" رواه أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه (5).

ولفظ النَّسائي: "أنهرِ الدمَ"(6)، وكذلك رواه الإمام أحمد في "المسند"(7).

(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203 - 204).

(2)

انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 183).

(3)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629).

(5)

رواه أبو داود (2824)، كتاب: الضحايا، باب: في الذبيحة بالمروة، وابن ماجه (3177)، كتاب: الذبائح، باب: ما يذكى به.

(6)

رواه النَّسائي (4401)، كتاب: الضحايا، باب: إباحة الذبح بالعود.

(7)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 258).

ص: 31

وقال الخطابي: ويروى: " أَمِرَّ الدم"، قال: والصواب: أَمْرِرْ -بسكون الميم وتخفيف الراء- (1)، وبهذا اللفظ رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط مسلم (2).

وقال السهيلي في "الروض الأنف": "أَمِر الدَّمَ" -بكسر الميم-؛ أي: أرسله، يقال: دم مائر: سائل، قال: وهكذا رواه النقاش، وفسره، ورواه أبو عبيد -بسكون الميم-، وجعله من مَرَيْتُ الضَّرْعَ، قال: والأول أشبه بالمعنى (3).

وعند النَّسائي في "سننه الكبرى" في رواية: "أهرق"(4)، والله الموفق.

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 280).

(2)

رواه ابن حبان في "صحيحه"(332)، والحاكم في "المستدرك"(7600).

(3)

انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 51).

(4)

رواه النَّسائي في "السنن الكبرى"(4816). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 49).

ص: 32