المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٧

[السفاريني]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ

‌الحديث الثاني

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُم فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُها العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ الغَدوَةُ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (2735)، كتاب: الجهاد، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، واللفظ له، ومسلم (1881)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، مختصرًا، والنسائي (3118)، كتاب: الجهاد، باب: فضل غزوة في سبيل الله عز وجل، والترمذي (1648)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، وابن ماجه (2756)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله عز وجل.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 300)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 709)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 26)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 225)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1676)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 85)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 176)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 24).

ص: 155

(عن) أبي العباس (سهلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ) الخزرجيِّ الأنصاريِّ (رضي الله عنه)، وتقدمت ترجمته في باب: صلاة الجمعة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباطُ يوم) من الأيام (في سبيل الله).

الرباط: مصدر رابطَ رِباطًا ومُرابطة: إذا لزمَ الثغرَ مُخيفًا للعدوِّ، وأصلُه من ربطِ الخيل؛ لأن كلًا من الفريقين يربطون خيلَهم مستعدين لعدوهم (1).

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

قال زيد بن أسلم: أي: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو (2) (خيرٌ من الدنيا)؛ أي: ثوابُها أفضلُ من نعيم الدنيا كلِّها لو تصور أن إنسانًا ملكَها وتنعَّم بها كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باقٍ.

قال القرطبي: وهذا منه عليه السلام إنما هو على ما استقر في النفوس من تعظيم ملك الدنيا، وأما على التحقيق، فلا تدخل الجنة مع الدنيا تحت أفضل إلا كما يقال: العسلُ أحلى من الخَل.

وقيل: معنى ذلك: ثوابُ رباطِ يوم في سبيل الله أفضلُ من الدنيا لو ملَكَها مالكٌ فأنفقَها في وجوه البِرِّ والطاعة غيرِ الجهاد. قال: وهذا أليق. والأول أسبق، انتهى (3).

وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المُغَيَّب منزلةَ المحسوس؛ تحقيقًا له

(1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 210).

(2)

رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(4/ 221).

(3)

انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 710).

ص: 156

في النفس؛ لكون الدنيا محسوسة في النفس، مستعظَمَة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا، فمن المعلوم أن جميعَ ما في الدنيا لا يساوي ذرة مِمَّا في الجنة.

الثاني: المراد: أن هذا القدرَ من الثواب خيرٌ من الثواب الذي يحصُل لمن لو حصلَتْ له الدنيا كلها، لأنفقها في طاعة الله تعالى (1).

ويؤيد الثانيَ ما رواه الإمام عبدُ الله بن المبارك من مرسَل الحسن، قال: بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا، فيهم عبدُ الله بنُ رواحة، فتأخر ليشهدَ الصلاة مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده! لو أنفقتَ ما في الأرض جميعًا، ما أدركْتَ فضلَ غَدْوَتِهم"(2).

والحاصل: أن المراد: تسهيلُ أمر الدنيا، وتعظيمُ أمر الجهاد، وأنَّ من حصلَ له من الجنةِ قدرُ سوط يصير كأنه حصل له أعظمُ من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصلَ له منها أعلى الدرجات؟!.

والنكتة في ذلك: أن سبب التأخير عن الجهاد الميلُ إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبَّه المتأخرَ أن هذا القدرَ اليسيرَ من الجنة أفضلُ من جميع ما في الدنيا (3)، (وما عليها)؛ أي: على الدنيا.

وفائدة العدول عن قوله: وما فيها: هو أن معنى الاستعلاء أعمُّ من

(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 225).

(2)

رواه ابن المبارك في "الجهاد"(ص: 34)، ورواه الترمذي (527)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في السفر يوم الجمعة، من وجه آخر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 14).

ص: 157

الظرفية، وأقوى، فقصده لزيادة المبالغة. كذا قال العيني في "شرح البخاري"(1).

(وموضع سوطِ)؛ أي: مِقْرَعَهِ (أحدِكم) معشرَ المسلمين، وسمي سوطًا؛ لأنه يخلط اللحمَ بالدم، وجمعه سِياط، وأسواط (2) (من الجنة)؛ أي: جنة الخلدِ (خيرٌ من الدنيا) الفانيةِ، (وما عليها)؛ لأنها فانية، وكل شيء في الجنة باقٍ، وإن صغر في التمثيل لنا، وليس فيه صغير، فهو أدومُ وأبقى من الدنيا الفانية المنقرضة، فكان الدائم الباقي خيرًا من المنقطع الفاني -كما قدمناه آنفًا (3) -.

(والرَّوْحة) المرةُ الواحدةُ من الرواح (4)، وهي -بفتح الراء-، والرواح: المجيء (يروحها العبد).

قال العيني: الروحةُ: من الزوال إلى الليل، قال: وهي -بالفتح-: المرةُ الواحدة من الرواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها، كذا قال (5).

وفي "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري: الروحة: المجيء، (أو الغَدْوة) -بفتح الغين المعجمة-: المرة من الغُدُوّ (6)، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه (7).

(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 176).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 868)، (مادة: سوط).

(3)

وانظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 176).

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 274).

(5)

انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 91).

(6)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 154)، عقب حديث (1896).

(7)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 14).

ص: 158

قال النووي: و"أو" هنا للتقسيم، لا للشك، ومعناه: أن الروحة يحصُل بها الثواب، وكذا الغدوة.

قال: والظاهر أنه لا يختص في ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل ذلك بكل غدوة أو روحة (1)(في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها) كما مرَّ.

[فإن قلت: من أفضل الرباط وإلا الجهاد](2)؟

فالجواب: أنها مسألةُ خلاف، إلا أن الجهاد أفضلُ من الرباط؛ لأن الرباط يراد للجهاد، وهو من شُعبه وتَعَلُّقاته.

والحديث ظاهر في تفضيل الجهاد عليه؛ لأنه رتب على رباط يوم من الثواب مثلَ ما رتَّب على الغدوة والروحة، مع كثرة العمل في اليوم، وقلَّته في الروحة والغدوة.

قال علماؤنا: وأفضلُ ما يُتطوَّع به الجهادُ، وهو أفضل من الرباط؛ لأنه أشقُّ، وهو مقصود في نفسه، والرباطُ وسيلة، ولأن فيه حقنَ دماء المسلمين، وسفكَ دماء الكافرين (3).

تتمات:

الأولى: يُسن الرباطُ بثغر تقويةً للمسلمين، وإرهابًا للكافرين، وأقلُّه ساعةٌ، وتمامُه أربعون يومًا، وإن زاد، فله أجرُه، وهو بأشدِّ الثغور خوفًا

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 26).

(2)

ما بين معكوفين سقط من "ب"، والصواب في العبارة أن يقول:"فإنْ قلتَ: ما الأفضل، الرباط أو الجهاد؟ "، والله أعلم.

(3)

وانظر: "المبدع" لابن مفلح (3/ 312).

ص: 159

أفضلُ، وأفضلُ من المُقام بمكةَ المشرفةِ، والصلاةُ بمكةَ أفضلُ من الصلاة بالثغر، ويُكره لغير أهل الثغر نقلُ أهلِه من الذريَّةِ والنساء إليه، لا إلى غيرِ مَخوفٍ كأهلِ الثغر.

ذكرَ أبو داودَ للإمام أحمد رضي الله عنه منعةَ طرسوس وغيرها، فكرهه، ونهى عنه.

قلت: تخافُ عليه الإثمَ؟ قال: كيف لا أخاف يعرض بذريته للمشركين؟

قيل له: فأنطاكية؟ قال: لا ينقلهم إليها؛ فإنه قد أغير عليهم منذ سنين قريبة من ساحل الشام كلها إذا وقعت الفتنة، فليس لأهل خراسان عندهم قدر، يقوله في الانتقال إليها بالعيال.

قيل: فالأحاديث: "إن الله تكفل لي بالشام"(1)؟ فقال: ما أكثرَ ما جاء فيه.

قلت: فلعلها في الثغور. قال: إلا أن تكون الأحاديث في الثغور.

وقال مرة: الأرض المقدسة أين هي؟ ولا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق هم أهل الشام.

قال: قعوده عليهم أفضل، والتزويج به فضل، نص على ذلك.

الثانية: في بعض ما روي في "الترغيب" في الرباط:

روى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباطُ يوم وليلةٍ خيرٌ

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 33)، وابن حبان في "صحيحه"(7306)، وغيرهما من حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه. وفي الباب عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 160

من صيامِ شهرٍ وقيامهِ، وإن ماتَ، جرى عليه عملُه الذي كان عمله، وأُجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفتانَ" (1).

وروى الإمام أحمد، والنسائي أيضًا، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سواه من المنازل"(2).

وروى الإمام أحمد عن عثمان أيضًا رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حرسُ ليلةٍ في سبيل الله أفضلُ من ألفِ ليلةٍ يُقام ليلُها ويُصام نهارُها"(3).

وروى الترمذي، وحسَّنه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عينانِ لا تَمَسُّهما النارُ: عينٌ بكتْ من خشية الله، وعين باتت تحرسُ في سبيل الله"(4).

وأخرج أبو داود، والترمذي، وقال: حَسَنٌ صحيحٌ، والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، وابن حبان في "صحيحه" عن فَضالة بن عُبيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ ميتٍ يُختم على عمله، إلا

(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 441)، ومسلم (1913)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، والنسائي (3168)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الرباط.

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 65)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4377)، وكذا الترمذي (1667)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 61).

(4)

رواه الترمذي (1639)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله.

ص: 161

المرابطَ في سبيل الله، فإنه ينمى عملُه إلى يوم القيامة، ويؤمَنُ من فتنة القبر" (1).

وروى الطبراني، ورواته ثقات، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"رباطُ شهرٍ خير من صيامِ دهرٍ، ومن ماتَ مرابطًا في سبيل الله، أَمِنَ من الفزعِ الأكبر، وغُدِيَ عليه برزقِه ورِيحَ من الجنة، ويجري عليه أجرُ المرابط حتى يبعثه الله عز وجل"(2).

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جدًا (3).

الثالثة: قال ابن التين: شرطُ الرباط أن يكونَ غيرَ وطنِ المرابطِ. قاله ابنُ حبيب عن الإمام مالك، ونظر فيه غيرُ واحد، بل المعتمدُ حصولُ هذا الثواب لمن نوى بإقامته في ثغر من ثغور الإسلام، ولو بأهله، الدفعَ للأعداء؛ لأن الرباط المقصودُ منه الإقامةُ في نحور العدو، وحفظُ ثغور الإسلام، وصيانتُها عن دخول العدو إلى حوزة بلاد المسلمين.

وهذا حاصل بالمقيم بأهله كالآفاقِيِّ، بل الأولُ أولى كما لا يخفى (4)، والله تعالى الموفق.

(1) رواه أبو داود (2500)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الرباط، والترمذي (1621)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من مات مرابطًا، وابن حبان في "صحيحه"(4624)، والحاكم في "المستدرك"(2417).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، كما عزاه إليه المنذري في "الترغيب والترهيب"(2/ 155)، حديث رقم (1899)، والهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 290).

(3)

وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 154) وما بعدها، وعنه نقل الشارح رحمه الله ما سرده من أحاديث الترغيب في الرباط.

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 85).

ص: 162