المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الرابع عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَمَرَنَا - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٧

[السفاريني]

الفصل: ‌ ‌الحديث الرابع عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَمَرَنَا

‌الحديث الرابع

عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بسَبْعٍ، وَنَهانَا عَنْ سَبْعِ: أَمَرَنَا بعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإبْرَارِ القَسَمِ أَوِ المُقْسِمِ، وَنَصرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإفْشَاءِ السَّلَامِ، وَنَهانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَوْ تَخَتُّمٍ بالذَّهبِ، وَعَنِ الشُّرب بالفِضَّةِ، وَعَنِ المَيَاثِرِ، وَعَنِ القَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ (1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (1182)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، و (2313)، كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم، و (4880)، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، و (5312)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، و (5326)، كتاب: المرضى، باب: وجوب عيادة المريض، و (5511)، كتاب: اللباس، باب: الميثرة الحمراء، و (5525)، باب: خواتيم الذهب، و (5868)، كتاب: الأدب، باب: تشميت العاطس إذا حمد الله، و (5881)، كتاب: الاستئذان، باب: إفشاء السلام، و (6278)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، ومسلم (2066)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، واللفظ له، والنسائي (1939)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، و (3778)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إبرار القسم، والترمذي (2809)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل، والقسي. =

ص: 105

(عن البراء بن عازب) أيضًا (رضي الله عنهما، قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسبع) من الخصال، (ونهانا عن سبع) بتقديم الأوامر على النواهي.

قال ابن دقيق العيد: إخبارُ الصحابيِّ عن الأمر والنهي على ثلاث مراتبَ:

الأولى: أن يأتي بالصيغة؛ كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا.

الثانية: قولُه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى في العمل به، أمرًا ونهيًا، وإنما نزل عنها؛ لاحتمال أن يكون ظنَّ ما ليس بأمرٍ أمرًا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح؛ للعلم به بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة.

الثالثة: أُمِرْنا ونُهينا -على البناء للمجهول-، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها؛ لاحتمال أن يكون الآمرُ غيرَ النبي صلى الله عليه وسلم (1).

(أمرنا) عليه الصلاة والسلام (بعيادة المريض)، وحمل الجمهور الأمرَ فيها على الاستحباب، فُيستحبُّ عيادةُ غيرِ مبتدِعٍ، ومثلُه مَنْ جهر بالمعصية.

= * مصَادر شرح الحَدِيث:

"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 565)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 389)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 31)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 218)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1657)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 350)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 315)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 6)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 129).

(1)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 176). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

ص: 106

وقال ابن حمدان: عيادتُه فرضُ كفاية.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقتضيه النص وجوبُ ذلك، واختاره جمعٌ، والمراد: مرةً، وظاهره: ولو من وجع ضرس، ورمد، ودُمَّلٍ؛ خلافًا لأبي المعالي بن المنجا من علمائنا، وتحرُم عيادةُ الذميِّ (1).

قال في "الفروع": تُستحب عيادة المريض اتفاقًا، وقيل: بعد أيام، وأوجب أبو الفرج وبعضُ العلماء عيادتَه، والمراد: مرةً، واختاره الآجري.

وقال أبو حفص العكبري: السُّنَّةُ مَرَّةً، وما زاد نافلة (2).

روى الإمام مالك، بلاغًا، والإمام أحمد مسندًا، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في "صحيحه" من حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادَ مريضًا، لم يزل يخوضُ في الرحمة، فإذا جلسَ، اغتمس فيها"(3).

ورواه الطبراني، ورواته ثقات، من حديث أبي هريرة، بنحوه (4).

ورواه الإمام أحمد أيضًا، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" من حديث كعب بن مالك، مرفوعًا، ولفظه:"من عاد مريضًا، خاضَ في الرحمة، فإذا جلس عنده، استنقع فيها"(5).

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 327).

(2)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 138).

(3)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 946) بلاغًا. ورواه موصولًا: الإمام أحمد في "المسند"(3/ 304)، وابن حبان في "صحيحه"(2956).

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2205)، بلفظ:"عائد المريض يخوض في الرحمة، فإذا جلس عنده، اغتمس فيها".

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 460)، والطبراني في "المعجم الكبير" =

ص: 107

ورواه الطبراني فيهما أيضًا من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه، وزاد:"وإذا قام من عنده، فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيثُ خرج"(1)، وإسناده إلى الحَسَن أقرب.

وأخرج الترمذي، وحَسَّنه عن علي رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يعود مُسلمًا غُدْوَةً، إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبحَ، وكان له خريفٌ في الجنة"(2).

ورواه أبو داود موقوفًا على عليٍّ، ثم قال: وأُسند هذا عن عليٍّ من غيرِ وجهٍ صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3).

ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه مرفوعًا (4).

والأحاديث في هذا كثيرة شهيرة (5).

والعيادة: الزيارة والافتقاد، سميت عيادةً، قال عياض: لأن الناس يتكررون؛ أي: يرجعون، يقال: عدتُ المريض عَوْدًا وعيادةً، الياءُ منقلبةٌ عن واو (6).

وأصرحُ من هذا الحديث في إيجاب عيادة المريض قولُه صلى الله عليه وسلم: "خمسٌ

= (19/ 102)، وفي "المعجم الأوسط"(903).

(1)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5296).

(2)

رواه الترمذي (969)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عيادة المريض.

(3)

رواه أبو داود (3098 - 3099)، كتاب: الجنائز، باب: فضل العيادة على الوضوء.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 81)، وابن ماجه (1442)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من عاد مريضًا.

(5)

انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/ 164).

(6)

انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 105).

ص: 108

تجبُ للمسلمِ على أخيه: رَدُّ السلامِ، وتَشْميتُ العاطسِ، وإجابةُ الدعوة، وعيادةُ المريض، واتباعُ الجنازةِ" متفق عليه (1).

وفي لفظ: "حَق المسلمِ على المسلم خمسٌ. . . ." رواه الشيخان، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة (2).

ومن قال بعدم الوجوب، وهم الجمهور، يجيب بأن الأمر بذلك محمول على مزيد الترغيب في عيادة المريض، والاعتناء بها، والاهتمام بشأنها، (واتباع الجنازة)، وتقدم بيان ذلك في الجنائز، (وتشميت العاطس) إذا حَمِدَ الله تعالى.

ومعنى شَمَّته -بالمعجمة والمهملة-: دعا له بقوله: يرحمُك الله، أو يرحمُكم الله.

قال في "القاموس": والتسميت -بالمهملة-: ذكرُ الله تعالى على الشيء، والدعاءُ للعاطس، ولزومُ السَّمت (3). وقال: والتشميت -بالمعجمة-: التسميتُ، والجمعُ والتحنين (4)، انتهى.

قال في "الآداب": التشميت -بالمعجمة- هي الفصحى، ومعناها:

(1) رواه مسلم (2162/ 4)، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام، ولفظ البخاري هو الآتي.

(2)

رواه البخاري (1183)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2162/ 4)، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأبو داود (5030)، كتاب: الأدب، باب: في العطاس، وابن ماجه (1435)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عيادة المريض.

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 197)، (مادة: سمت).

(4)

المرجع السابق، (ص: 198)، (مادة: شمت).

ص: 109

أبعدَكَ الله عن الشماتة. قال ابن الأنباري: كل داع بخير فهو مُشمِّت (1).

قال في "النهاية": هما الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما (2)، وقالت طائفة: معنى شَمَّتُّ العاطسَ: أزلتُ عنه الشماتة (3).

ومعتمد المذهب: أن تشميت العاطس فرضُ كفاية إذا حَمِدَ الله؛ كرد السلام إن كانوا جماعة، وعلى الواحد فرض عين.

والحاصل: أن حمد الله تعالى سنة في حقِّ العاطس، وتشميتَه إذا حمدَ فرضُ كفاية، وإجابةُ المشمِّتِ فرضُ عين.

وذكر بعض العلماء أن تشميتَ العاطس فرضُ عين.

قال ابن القيم: ولا دافع له، ولفظُه في حواشي "السنن" جاء بلفظ: الوجوب الصريح، وبلفظ: الحق الدال عليه، وبلفظ: على الظاهر فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي: أَمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوبَ أشياءَ كثيرةٍ بدون مجموع هذه الأشياء (4).

وقال بالوجوب: عليُّ بن مزين من المالكية، وجمهورُ أهل الظاهر.

وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الباقين.

ورجحه أبو الوليد بن رشد، وأبو بكر بن العربي، وقال به الحنفية.

(1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 467).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 499).

(3)

انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 467).

(4)

انظر: "حاشية ابن القيم على سنن أبي داود"(13/ 258).

ص: 110

وقال عبد الوهاب من المالكية، وجماعةٌ منهم: إنه مستحب، ويجزىء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعيّة، والراجحُ من حيث الدليل القولُ الثاني الذي عليه الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة؛ فإن الأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا ينافي كونه على الكفاية؛ فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن ورد في عموم المكلفين، ففرضُ الكفاية يُخاطَب به الجميعُ على الأصح، ويسقط بالبعض (1).

(وإبرارِ القَسَم) إذا حلف (أو) قال: إبرارِ (المُقْسِم) إذا حلف على شيء، ما لم يكن الذي حلف أَلَّا يفعله فعلُه أحبُّ إلى الله ورسوله، أو يكون الذي حلف عليه ليفعلنه تركُ فعلهِ أحبُّ إلى الله ورسوله؛ فإن فعلَ المحبوب وتركَ المكروه أولى، وربما وجب؛ كما تقدم في الأيمان؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، ولْيُكَفِّرْ عن يمينهِ" رواه أحمد، ومسلم، والترمذي (2).

(ونصرِ المظلوم) بإعانته على ظالمه، وتخليصه منه.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: كيف أنصرُه ظالمًا؟ قال: "تَحجُزُهُ عن الظلمِ؛ فإن ذلك نصرُه" رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي (3).

(وإجابةِ الداعي) إلى وليمة العرس.

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 603).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 99)، والبخاري (6552)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، والترمذي (2255)، كتاب: الفتن، باب:(68).

ص: 111

وقد نقل ابنُ عبد البر (1)، ثم عياض (2)، ثم النوويُّ (3) الاتفاقَ على القول بوجوب الإجابة لها، وفيه نظر، نعم، المشهورُ من أقوال العلماء الوجوبُ، وصرح جمهور الحنابلة والشافعية: أنها فرض عين، ونصّ عليه مالكٌ، وعن بعض الحنابلة والشافعية: أنها مستحبة.

وذكر اللخمي من المالكية: أنه المذهب، وكلامُ صاحب "الهداية" من الحنفية يقتضي الوجوبَ مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد: أنها وجبتْ بالسنَّةِ، وليستْ فرضًا كما عُرف من قاعدتهم.

وعن بعض الحنابلة، والشافعية: أنها فرض كفاية (4).

وفي "فروع" ابن مفلح: ويجبُ -في الأشهر عنه، يعني: الإمام أحمد، قاله في "الإفصاح"-: إجابةُ داعٍ مسلم يَحْرُم هجرُه، إن عَيَّنه، أولَ مرةٍ، والمنصوص: ومَكْسَبُهُ طيبٌ، ومنع في "المنهاج" من ظالم وفاسق ومبتدِع ومفاخرٍ بها، أو فيها مبتدعٌ يتكلم ببدعته، إلا لرادٍّ عليه، وكذا مضحك يُفحش (5)، وفروع ذلك كثيرة منثورة في كتب الفقه.

(و) السابع: (إفشاء السلام)، وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وأصحاب "السنن" الأربع، وابن حبان، وغيرُهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، مرفوعًا:"أفشوا السلامَ تسلموا"(6)، والحاكم من

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 532).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 589).

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 234).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 242).

(5)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 226).

(6)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 286)، والبخاري في "الأدب المفرد"(787)، وابن حبان في "صحيحه"(491). ولم يروه أحد من أصحاب السنن =

ص: 112

حديث أبي موسى الأشعري: "أفشوا السلام بينكم تَحابُّوا"(1)، والطبراني في "الكبير" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"أفشوا السلام كي تعلوا"(2).

قال النووي: السلامُ أولُ أسباب التآلف، ومفتاحُ استجلابِ المودة، ومعنى إفشاء السلام؛ أي: نشرُه وتكثيرُه، ففي إفشائه تمكينُ ألفة المسلمينَ بعضهم لبعض، وإظهارُ شعارهم؛ بخلاف غيرِهم من سائر الملل، مع ما فيه من رياضة النفوس، ولزومِ التواضع، وإعظامِ حرمات المسلمين (3).

وفي لفظ: "ابذلوا السلام للعالم، والسلام على مَنْ عرفتَ، ومَنْ لم تعرف"(4)، وهما بمعنى إفشاء السلام.

ومن ذلك لطيفةٌ أخرى: أنها تتضمن رفعَ التقاطع والتهاجر والشحناء، وفساد ذات البين التي هي الحالقة. وأن سلامه لله تعالى لا يتبع فيه هواه، ويخص به أحبابه (5).

= الأربعة من حديث البراء رضي الله عنه.

(1)

رواه الحاكم في "المستدرك"(7310).

(2)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 30 - "مجمع الزوائد" للهيثمي) لكن عن أبي الدرداء رضي الله عنه وكان في الأصل: "تعلموا" بدل "تعلوا"، والصواب ما أثبت.

(3)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 36).

(4)

روى البخاري (12)، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم (39)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: بلفظ: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 36).

ص: 113

وفي لفظ آخر من حديث البراء: "ورَدِّ السلام" كما في البخاري (1) وغيره.

قال في "الفتح": ولا مغايرة في المعنى؛ لأن ابتداء السلام وردَّه متلازمان، وإفشاء السلام ابتداءً يستلزم إفشاءه جوابًا (2).

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، مرفوعًا:"ألا أَدُلُكُم على ما تَحَابُّونَ به؟ أَفْشوا السلامَ بينكم"(3).

قال ابن العربي فيه: إن من فوائد إفشاء السلام وحصولهِ المحبةَ بين المتسالمين. وكان ذلك؛ لما فيه من ائتلاف الكلمة؛ لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامةِ شرائع الدين، وإخزاءِ الكافرين، وهي كلمة إذا سُمعت، أخلصت القلبَ الواعيَ لها في النفور إلى الإقبال على قائلها (4).

وعن عبد الله بن سَلَام، رفعه:"أَطْعِموا الطعام، وأَفْشوا السلام" الحديث، وفيه:"تدخلوا الجنةَ بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، والترمذي (5).

والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة.

تنبيهان:

الأول: ابتداءُ السلام سُنَّةُ كفاية من الجماعة، وسنةُ عين من الواحد، والأفضلُ إذا كانوا جماعة السلامُ من جميعهم.

(1) تقدم تخريجه عند البخاري (1182).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18).

(3)

رواه مسلم (54)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

(4)

انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (9/ 315 - 316). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18 - 19)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 114

وردُّ السّلام حيث سُنَّ ابتداؤه فرضُ كفاية، وعلى الواحد فرضُ عين (1)؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وعلم مما ذكرنا أن ابتداءه ليس بواجب.

وذكره ابن عبد البر إجماعًا، وظاهر ما نُقل عن الظاهرية وجوبُه.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وغيرِه.

الثاني: استدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سِرًّا، بل يشترط الجهرُ به، وأقلُّه أن يُسمع المسلَّم عليه في الابتداء، وفي الجواب: أن يسمع المُسَلِّم، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوِها (2).

وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر، رفعه:"لا تُسَلِّموا تسليمَ اليهود، فإنَّ تسليمَهم بالرؤوس والأَكُفِّ"(3).

ويستثنى من ذلك حالةَ الصلاة، فقد وردت أحاديثُ جيدة أنه صلى الله عليه وسلم ردَّ السلام وهو يصلي إشارةً (4).

قال علماؤنا: رفعُ الصوت بالسلام بقدرِ إبلاغٍ واجبٌ في رَدٍّ، ومندوبٌ في ابتداءٍ (5)، والله الموفق.

قال البراء بن عازب رضي الله عنهما: (ونهانا) رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن

(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 377).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18).

(3)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(10172).

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 454)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (11/ 19).

(5)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 378).

ص: 115

خواتيمَ) جمع خاتِم، ويجمع -أيضًا- على خَواتم -بلا ياء-، وعلى خياتيم -بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا-.

وفي الخاتم ثمان لغات: فتحُ التاء وكسرُها، وهما واضحان، وبتقديمهما على الألف مع كسر الخاء: خِتَام، وبفتحها، وبفتحها وسكون التحتية، وضم المثناة بعدها واو: خَيتوم، وبحذف التاء والواو مع سكون المثناة: خَتْم، وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء: خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة: خاتِيام، وبحذف الألف الأولى، وتقديم التحتية: خَيْتام، وقد جمعها في "الفتح" ناظمًا لها في قوله:

[من البسيط]

خُذ نَظْمَ عَدِّ لُغاتِ الْخَاتَمِ انتظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاها قَطُّ نَظَّامُ

خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتَمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيام وَخَيْتُومٌ وخَيْتَامُ

وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ (1) وَإِذَا

سَاغَ القِيَاسُ أَتَمَّ العَشْرَ خَأْتَامُ

لكنَّ الخَتْمَ والخِتامَ مختصٌّ بما يُختم به (2).

(أَوْ) قال البراء: نهانا عن (تختُّمٍ بالذهب).

وفي رواية: عن حلقة الذهب (3)، وفي لفظ: عن خاتم الذهب (4)؛ أي: عن لبسه للرجال دون النساء.

وقد نقل الإجماع في "الفتح" على إباحة خاتم الذهب للنساء (5).

(1) أي: خَأْتَم.

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 316).

(3)

رواه النسائي (5167)، كتاب: الزينة، باب: خاتم الذهب.

(4)

تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5326، 5525، 5868)، وعند مسلم برقم (3/ 1636) رقم (2066).

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317).

ص: 116

وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النجاشي أهدى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتمٌ من ذهب، فأخذه، وإنه لمعرضٌ عنه، ثم دعا أُمامةَ ابنةَ ابنته صلى الله عليه وسلم، فقال:"تَحَلَّي به"(1).

وظاهرُ النهي عن التختم بالذهب للتحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه.

قال القاضي عياض: وما نُقل عن أبي بكر بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزم مِنْ تختُّمه بالذهب، فشذوذ، والأشبهُ أنه لم تبلغه السُّنة فيه، والناس بعده مُجْمِعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خَبّاب، وقد قال له ابن مسعود: أما آنَ لهذا الخاتم أن يُلقى؟ فقال: إنك لن تراه عليَّ بعدَ اليوم (2)، فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه، رجع.

قال ابن دقيق العيد -بعد أن نقل الإجماع على تحريمه-: وقد ذهب بعضُهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهيةَ تنزيه لا تحريم؛ كما قال مثلَ ذلك في الحرير.

قال: وهو يقتضي إثباتَ الخلاف في التحريم، وهو يناقضُ القول بالإجماع على التحريم، ولابدّ من اعتبار وصف كونه خاتمًا.

قال في "الفتح": القائلُ بكراهة التنزيه انقرضَ، واستقرَّ الإجماعُ بعدَه على التحريم (3).

(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(25140).

(2)

رواه البخاري (4130)، كتاب: المغازي، باب: قدوم الأشعريين، وأهل اليمن. وانظر:"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 603 - 604).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317).

ص: 117

ومن أدلة النهي عن التختم بالذهب: ما رواه يونسُ عن الزهريِّ، عن أبي إدريسَ، عن رجل له صحبةٌ، قال: جلس رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده خاتمٌ من ذهب، فقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه بقضيب، فقال:"أَلقِ هذا". ذكره في "الفتح"(1).

وعموم أحاديث الوعيد؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: "هذان حرامان على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها"(2).

وحديث عبد الله بن عمر [و]، رفعه:"من ماتَ من أمتي وهو يَلْبَسُ الذهبَ، حَرَّمَ اللهُ عليه ذهبَ الجنة" أخرجه الإمام أحمد، والطبراني (3).

وفي حديث ابن عمر الآتي ما يشعر بنسخ جواز لبس خاتم الذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال؛ قليلِه وكثيرِه؛ للنهي عن التختم، وهو قليل، وتعقبه ابنُ دقيق العيد بأن التحريم لم يتناول ما هو في قدر الخاتم، وما هو فوقه، فأما ما هو دونه، فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهيُ جميعَ الأحوال، فلا يجوز لبسُ خاتم الذهب لمن فاجأه الجربُ؛ لأنه لا تعلُّق له به؛ بخلاف الحرير؛ من الرخصة في لبسه بسبب الجرب (4).

(و) نهانا (عن الشرب) بآنية (الفضة)، وتقدم الكلام على ذلك قريبًا.

(وعن المياثر) جمع مِيْثَرَة -بكسر الميم وسكون التحتية، وفتح المثلثة

(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 166)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5/ 146 - "مجمع الزوائد" للهيثمي).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317 - 318).

ص: 118

بعدها راء ثم هاء، ولا همز فيها-، وأصلها من الوثارة، أو الوِثْرَة -بكسر الواو وسكون المثلثة-، والوثير: هو الفراش الوطيء، وامرأة وثيرة: كثيرة اللحم، كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثلَ القطائف، يصفُّونها؛ أي: يجعلونها كالصفة، وإنما قال: يصفونها -بلفظ المذكر-؛ للإشارة إلى أن النساء يصنعن ذلك، والرجال هم الذين يستعملونها في ذلك.

وقال الزبيدي اللغوي: الميثرة: مِرْفَقَة كصُفَّةِ السرج.

وقال الطبري: هو وطاء يوضع على سَرج الفَرَس، أو رَحْل البعير، كانت النساء تصنعُه لأزواجها من الأرجوانِ الأحمر، ومن الديباج، وكانت مراكبَ المعجم.

وقيل: هي أغشية للسروج من الحرير، وقيل: هي سروجٌ من الديباج.

وقال أبو عبيد: المياثر الحمرُ كانت من مراكب المعجم من حرير أو ديباج (1).

وقد أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وأصله عند أبي داود بسند صحيح، عن علي رضي الله عنه، قال: نُهِيَ عن مياثر الأُرجوان (2)، هكذا عندهم بلفظ: نُهي -على البناء للمجهول-، وهو محمولٌ على الرفع.

وحكى القاضي عياض في "المشارق" قولًا: أن الميثرة تشبه المِخَدَّة

(1) المرجع السابق، (10/ 293).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 121)، وأبو داود (4050)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (5184)، كتاب: الزينة، باب: حديث عبيدة.

ص: 119

تُحشى بقطن أو ريش، يجعلها الراكبُ تحته (1)، وهذا يوافق تفسير الطبري.

وعلى كل تقدير، فالميثرة إن كانت من حرير، فالنهي عنها كالنهي عن الجلوس على الحرير، وتقدم حكم الحرير، ولكن تقييدها بالأحمر أخصُّ من مطلق الحرير، فتمتنع إن كانت حريرًا، ويتأكد المنعُ إن كانت مع ذلك حمراءَ، كان كانت من غير حرير، فالنهيُ فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم.

قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسويةَ في المنع من الركوب عليها، سواء كانت من حرير، أم غيره، فكان النهي عنها إذا لم تكن من حرير للتشبه، أو للسرف، أو التزين، وبحسب ذلك تتفصل الكراهة بين التحريم والتنزيه. وأما تقييدها بالحمرة، فمن يحمل المطلق على المقيد، وهم الأكثر، يخصُّ المنع بما كان أحمر.

والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرنا إليها -بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة-.

وحكى عياض (2)، [ثم](3) القرطبي (4) -فتحَ الهمزة-، وأنكره النووي، وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث، واللغة، والغريب (5).

واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صِبغٌ أحمرُ شديد الحُمرة، وهو نَوْرُ

(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 279).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 567).

(3)

في الأصل: "عن"، والصواب ما أثبت.

(4)

انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 389).

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 42).

ص: 120

شجرٍ من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وكلُّ شيء أحمر فهو أُرجوان، ويقال: ثوب أرجوان، وقطيفة أُرجوان، وحكى السيرافيُّ: أحمر أرجوان، فكأنه وصفٌ للمبالغة في الحمرة؛ كما يقال: أبيض يَقَق، وأصفر فاقع، وأسود حالك.

واختلفوا هل الكلمة عربية أو معرّبة؟

فإن كان النهيُ مختصًا بالأحمر من المياثر، فالمعنى في النهي عنها ما في غيرها، وإن كان النهيُ لا يختصُّ بالأحمر، فالمعنى في النهي عنها للترفُّه، وقد يعتادها الشخص فتُغوِزُه، فيشُقُّ عليه تركُها، فيكون نهيَ إرشادٍ لمصلحة دنيوية، وإن كان من أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية.

لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص به شعارهم، زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة كما في "الفتح"(1).

فائدة:

قد قيل: إن المراد بالميثرة: جلودُ السباع.

قال النووي: وهو تفسير باطل مخالِفٌ لما أطبقَ عليه أهلُ الحديث (2).

قال في "الفتح": بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت الميثرة وطاءً، وصُنِعت من جلد، ثم حُشيت، والنهي عنها حينئذٍ إما لأنها من زِيِّ الكفار، وإما لأنها لا تعمل فيها الذكاة، أو لأنها لا تُذَكَّى غالبًا، فيكون فيه حجة لمن منعَ لبسَ ذلك، ولو دُبغ (3).

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 307).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 33).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 293 - 294).

ص: 121

وقد ثبت النهيُ عن الركوب على جلود النمور، أخرجه النسائي من حديث المقدام بن معدي يكرب (1).

ولأبي داود: "لا تصحبُ الملائكةُ رُفْقَةً فيها جلدُ نَمِرٍ"(2)، وهذا يؤيد التفسير المذكور (3).

(و) نهانا صلى الله عليه وسلم (عن) لبس (القَسِّيِّ) -بفتح القاف وتشديد السين المهملة بعدها ياء نسبة-.

وذكر أبو عُبيد في "الغريب": أن أهل الحديث يقولون: بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها (4)، وهي نسبة إلى بلد يقال لها: القس، قاله في "الفتح"، قال: رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقس قريةٍ بمصر، منهم الطبري، وابن سيده.

وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل.

وقال المهلبي: هي على ساحل مصر، ولها حصن بالقرب من الفَرَما من جهة الشام، والفَرَما -بفاء وراء مفتوحة-.

قال النووي: وهي بقرب تَنِّيس (5).

وقد أخرج الإمام أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابنُ حبان عن

(1) رواه النسائي (2454)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن الانتفاع بجلود السباع.

(2)

رواه أبو داود (4130)، كتاب: اللباس، باب: في جلود النمور والسباع.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 294).

(4)

انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 226).

(5)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 34).

ص: 122

علي -رضوان الله عليه-، قال: نهاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب، وعن لُبس القَسَيِّ، والميثرةِ الحمراء (1).

ورواه مسلم من حديث علي، وقال علي رضي الله عنه: فأما القسيُّ، فثيابٌ مضلعة أتتنا من الشام، أو مصر.

في رواية مسلم: من مصر والشام، مضلَّعة، فيها حرير (2)؛ أي: خطوط عريضة كالأضلاع.

وحكى المنذري: أن المراد بالمضلع، ما نُسج بعضُه وتُرك بعضه، وفيها أمثال الأترج؛ أي: إن الأضلاع التي فيها غليظة معوجة (3).

(وعن لبس الحرير)، وتقدَّم، (و) عن لبس (الإِستبرق)، (و) عن لبس (الديباج)، وهما -يعني: الديباج والإِستبرق- صنفان نفيسان من الحرير، وقد تقدم الكلام على الحرير، وأنه يحرم على غير أنثى اتفاقًا.

قال علماؤنا: حتى تكَّةٌ وشُرَّابَةٌ، نص عليه الإمام أحمد، والمراد: شرابةٌ مفردةٌ كشرابة البريد، لا تَبَعًا؛ فإنها كزِرّ.

ويحرُم على غير أنثى افتراشُ الحرير، واستنادٌ إليه؛ خلافًا لأبي حنيفة.

(1) رواه أبو داود (4051)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (1040)، كتاب: التطبيق، باب: النهي عن القراءة في الركوع، والترمذي (1737)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في كراهية خاتم الذهب، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 81)، وابن حبان في "صحيحه"(5440).

(2)

رواه مسلم (2078/ 64)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها، بلفظ: فأما القسي، فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه كذا.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 292 - 293).

ص: 123

وما غالبه حرير ظهورًا، وقيل: وَزْنًا، ويُباح ما سُدِّيَ بالحرير، وأُلْحِمَ بغيره (1)؛ كما هو مستوفًى في كتب الفقه.

وقد أنهيت الكلامَ عليه بما فيه كفاية في كتابي "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب"، وبينت ما وقع من الخلاف بين شيخ مشايخنا بقيةِ السلف، وسلفِ الخلف مولانا أبي المواهب مفتي الحنابلة بدمشقَ المحمية، وخاتمةِ المحققين الشيخِ عثمانَ النجديِّ بما لعله يكفي ويشفي (2).

(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 307)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 141).

(2)

انظر: "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" للشارح (2/ 150 - 155). قال: فإن قلت: أي القولين أرجح ما فهمه النجدي أو أبو المواهب؟ قلت: مأخذ النجدي دقيق، وهو يوافق ما عللوا به، ولكن إن شاء الله تعالى ما قاله وفهمه أبو المواهب -وهو ما ذكره الشارح آنفًا- هو التحقيق وعليه العمل.

ص: 124