الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع عشر
وَعَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجاعَةً، وَيُقاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقاتِلُ رِياءً، أَيُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ اللهِ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (123)، كتاب: العلم، باب: من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا، و (2655)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، و (2958)، كتاب: الخمس، باب: من قاتل للمغنم، هل ينقص من أجره؟ و (7020)، كتاب: التوحيد، باب:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، ومسلم (1904/ 149 - 151)، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وأبو داود (2517)، كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والنسائيُّ (3136)، كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والترمذي (1646)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، وابن ماجه (2783)، كتاب: الجهاد، باب: النية في القتال.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 150)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 742)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 246)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1717)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 28)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 196)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 43)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 32).
ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، (قال سئل) -بضم السين المهملة على صيغة ما لم يُسم فاعله- (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) مرفوع نائب الفاعل.
وفي لفظ: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وفي آخر: جاء أعرابي (2).
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ظاهره أن القائل هو أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه (3).
قال العيني: رواية: جاء أعرابي تدلُّ على وهم ما وقع عند الطبراني: عن أبي موسى: أنَّه قال: يا رسول الله! وذكره (4)؛ فإن أبا موسى، وإن جاز أن يُبهم نفسه، لكن لا يصفها بكونه أعرابيًا.
قال: وقيل: هذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بنِ ضمرة.
وحديثه عند أبي موسى المديني في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان: سمعت لاحقَ بنَ ضميرةَ الباهلي، قال: وفدتُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن الرجل يلتمسُ الأجرَ والذكرَ، فقال:"لا شيء له" الحديث، وفي إسناده ضعف (5).
وروى أبو داود، والنسائيُّ من حديث أبي أمامة بإسناد جيد، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكرَ، ماله؟
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (123، 2655، 7020).
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 222).
(4)
لم أقف عليه عند الطبراني، والله أعلم.
(5)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 108).
قال: "لا شيء له"، فأعادها ثلاثًا، كُلَّ ذلك يقول:"لا شيء له"، ثمَّ قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالِصًا، وابتُغي به وجهُه"(1).
(عن الرجل يقاتل شجاعة) هي مَلَكَة تقتضي شدةً في القلب، وقوة في البأس، والشُّجاع؛ كسحاب، وكتاب، وغُراب، وأمير، وكتف: الشديد القلب عند البأس (2)، (ويقاتل حمية)؛ أي: لأجل الحمية؛ يعني: أنفًا وغضبًا، يقال: حَمِي أنفُه (3)، (ويقاتل رياء) وسمعة.
وفي رواية: "ليرى مكانه"(4)؛ أي: مرتبته في الشجاعة (أيُّ: ذلك) المذكور [من] القتال يكون (في سبيل الله)؟
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مجيبًا للسائل بكلمة جامعة في غاية البلاغة والإيجاز، وهي من جوامع كلمِه صلى الله عليه وسلم:(من قاتل) الكفارَ (لتكونَ كلمةُ الله)، وهي دعوة الله تعالى إلى الإِسلام؛ يعني: كلمة التوحيد (هي العليا، فهو في سبيل الله).
وفي لفظ في "الصحيحين" و"السنن" الأربعة من حديث أبي موسى أيضًا رضي الله عنه: الرجلُ يقاتل للمغنم، والرجلُ يقاتل للذكر،
(1) رواه النسائي فقط (3140)، كتاب: الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجر والذكر. ولم يروه أبو داود كما ذكر الشارح رحمه الله، وهو في ذلك تبع المنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 23 - 24)، وعنه أخذ رحمه الله.
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 945)، (مادة: شجع).
(3)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 201).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2655، 2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149).
والرجلُ يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"من قاتل" الحديث (1).
ويحتمل أن يكون المراد: أنَّه لا يكون في سبيل الله إلا مَنْ كان سببُ قتاله طلبَ إعلاء كلمة الله فقط؛ بمعنى أنَّه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة، أخلَّ بذلك.
ويحتمل أَلَّا يخل إذا حصل ضمنًا، لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صرح الطبري، فقال: إذا كان أصلُ الباعث هو الأول، لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، ويحمل ما مر من حديث أبي أمامة على من قصد الأمرين معًا، أو يقصد أحدَهما صرفًا، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضِمْنًا، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنًا، وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان.
قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إن كان الباعثُ الأولُ قصدَ إعلاء كلمة الله، لم يضرَّه ما انضاف إليه.
ويدلُّ على أن دخولَ غيرِ الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاءِ إذا كان الإعلاءُ هو الباعثَ الأصليَّ: ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة: قال: بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنمْ شيئًا، فقال:"اللهمَّ لا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ" الحديث (2).
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2655، 2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149).
(2)
رواه أبو داود (2535)، كتاب: الجهاد، باب: في الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة.
واشتمل طلبُ إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وثوابه، وطلبِ دَحض أعدائه، وكُلُّها متلازمة.
وحاصل ما ذكر يرجع إلى أن منشأ القتال القوةُ العقلية، والقوةُ الغضبية، والقوةُ الشهوانية، وليس في سبيل الله إلا الأول.
وقال ابن بطال: إنما عدل صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع، فأفاد رفعَ الإلباس، وزيادةَ الإفهام.
وفيه: بيان أن الأعمال إنما تُحسب بالنية الصالحة، وأن الفضلَ الذي ورد في المجاهدين يختصُّ بمن ذُكر.
وفيه: جوازُ السؤال عن العلة، وتقدمُ العلم على العمل (1).
لطيفة:
ذكر ابنُ عرب شاه في "تاريخ تمرلنك" الذي أنشأه، وابنُ الشحنة في "تاريخه": أن تمرلنك لما أخذ حلب الشهباء، واستأصل أهلَها قتلًا وأسرًا ونهبًا، وذلك سنة ثمان مئة وثلاث في شهر ربيع الأول، قال ابن الشحنة: لما كان يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، صَعِد تمرلنك لقلعة حلب، وآخرَ النهار طلب علماءها وقضاتها.
قال: فحضرنا إليه، فأوَقَفنا ساعةً، ثمَّ أمر بجلوسنا، وطلب مَنْ معه من أهل العلم، فقال لأميرهم عنده، وهو المولى عبدُ الجبار بنُ العلامةِ نُعمانِ الدينِ الحنفيّ، ووالده من العلماء المشهورين بسمرقند: قُلْ لهم: إني سائلُهم عن مسألة سألتُ عنها علماءَ سمرقند وبخارى وهراةَ وسائر البلاد التي افتتحتُها، فلم يفصحوا عن الجواب، فلا تكونن مثلهم، ولا يجاوبني
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 28 - 29).
إلا أعلمُكم وأفضلُكم، وليعرفْ ما يتكلَّم به؛ فإني خالطتُ العلماء، ولي بهم اختصاص وأُلفة، ولي في العلم طلب قديم.
قال: وكان يبلغنا عنه أنَّه يتعنت العلماء في الأسئلة، ويجعلُ ذلك سببًا لقتلهم أو تعذيبهم.
فقال القاضي شرفُ الدين الأنصاري الشافعي: هذا شيخُنا، ومدرس هذه البلاد ومفتيهًا، سلوه، وبالله المستعان.
فقال لي عبد الجبار: سلطانُنا يقول: إنه بالأمس قُتل منا ومنكم، فمن الشهيدُ، قتيلنُا أم قتيلُكم؟.
فقلنا في أنفسنا: هذا الذي يبلغنا عنه من التعنت.
وسكتَ القوم، ففتحَ اللهُ عليَّ بجواب سريع بديع، وقلت: هذا سئل عنه سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنه، وأنا مجيبٌ بما أجاب به سيدُنا رسولُ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قال لي القاضي شرفُ الدين الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة: والله العظيم! لما قلتَ: هذا سؤالٌ سُئل عنه سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنه، وأنا محدث يا مولانا هذا عالمنا قد اختل عقله، وهو معذور، فإن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، ووقع في نفس عبد الجبار مثلُ ذلك.
وألقى تمرلنك إليَّ سمعَه وبصرَه، وقال لعبد الجبار: سله كيف سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكيف أجاب؟
قلت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجلُ يقاتل حَمِيَّةً، الحديث.
فقال تمرلنك: خوب، وقال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت!
ومعنى خوب: جيد (1)، والله الموفق.
(1) انظر: "عجائب المقدور في نوائب تيمور" لابن عربشاه (ص: 48).