الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ رضي الله عنه: أَن فُلَانًا بَاعَ خَمرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا! أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَملُوهَا فَبَاعُوهَا"(1)؟!.
* * *
(عن) أبي العباس (عبدِ الله بنِ عباس رضي الله عنهما، قال: بلغ) أميرَ المؤمنين (عمرَ) بن الخطاب - رضي الله عنه: أن فلانًا)، فلانٌ هذا
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البُخاريّ (2110)، كتاب: البيوع، باب: لا يذاب شحم الميتة، ولا يباع ودكه، و (2373)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (1582)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، والنَّسائيُّ (4257)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن الانتفاع، بما حرم الله عز وجل، وابن ماجه (3383)، كتاب: الأشربة، باب: التجارة في الخمر.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 256)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 467)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 211)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1649)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 414)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 36)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 235).
هو سَمُرَةُ بنْ جُنْدُب، وتقدمت ترجمته في الجنائز.
قال الخطيب، وابن بشكوال: كان على البصرة، وكان يأخذ الجزية منهم خمرًا، ثم يبيعه منهم ظانًا أنه يجوز (1)، وقد جاء مصرَّحًا في "مسند ابنَ أبي شيبة"، وأخرجه مسلم من طريقه، وطريق غيره، فقال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لأبي بكر، قال: حدّثنا سُفيانُ بن عُيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بلغ عمرَ رضي الله عنه أن سمرةَ (باع خمرًا)، (فقال) عمر رضي الله عنه:(قاتل الله فلانًا)؛ أي: سمرةَ كما صرح باسمه في الرواية الأخرى؛ أي: قتله، فليست المفاعلة على بابها، ولكن عمر رضي الله عنه لم يرد الدعاءَ على سمرة بأن يقتله، أو يعاديه، وإنما أراد التنفيرَ عن فعلته، والتهويلَ لما ارتكبه من صفقته، وسبيلُ فاعلَ أن يكون بين اثنين في الغالب، وقد ترد من الواحد؛ كسافرتُ، وطارقتُ النعل، ومثل قصة سمرةَ خبرُ السقيفة: قتل الله سعدًا؛ فإنّه صاحب فتنة وشر (2)؛ أي: دفع الله شره، كأنه أشار إلى ما كان منه في حديث الإفك، لما حامى عن ابن سلول.
وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال يوم السقيفة: اقتلوا سعدًا قتله الله (3)؛ أي: اجعلوه كمن قُتل، واحبسوه في عِداد مَنْ مات ولا تعتدّوا بمشهده، ولا تعرِّجوا على قوله (4).
(1) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 415).
(2)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(414).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37043).
(4)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 12 - 13).
(ألم يعلم) سمرةُ بن جندب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود)؛ أي: قتلهم، أو لعنهم، أو عاداهم.
قال الداودي: من صار عدوًا لله، وجب قتلُه.
قال البيضاوي: قاتل؛ أي: قتلَ، أو عادى، وعبر بذلك عنهم لما هو مُسَبَّبٌ عنهم؛ فإنهم بما اخترعوا من الحيلة، انتصبوا لمحاربة الله تعالى، ومن حاربه، حورب، ومن قاتله، قُتل (1)، فقد (حُرِّمت عليهم الشحوم)؛ أي: أكلُها، وإلا فلو حرم عليهم بيعُها، لم يكن لهم حيلةٌ فيما صنعوه من إذابتها، (فَجَمَلوها) -بفتح الجيم-؛ أي: أذابوها، والجميلُ: الشحمُ المذاب.
وفي "النهاية": جملتُ الشحمَ، وأجملْتُه: إذا أذبته، واستخرجتُ دهنهَ، وجَمَلْتُ أفصحُ من أجملت (2).
وقال الخطابي: معناه: أذابوها حتَّى تصير وَدَكًا، فيزول عنها اسمُ الشحم (3).
وفي هذا إبطال كل حيلة يُتوصَّل بها إلى محرَّم، وأنه لا يتغير حكمُه بتغيير هيئته، وتبديلِ اسمه؛ كما قدمنا في بيع العرايا وغيرها، (فباعوها)، فأكلوا أثمانها.
وروى أبو داود حديثَ ابن عباس هذا، وزاد فيه:"وإن الله إذا حَرَّمَ أكلَ شيء، حَرَّم عليهم ثمنه"(4)، وأخرجه ابن أبي شيبة، ولفظه:"إن الله إذا حَرَّمَ شيئًا، حَرَّم ثمنَه"(5).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 416).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 298).
(3)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 133).
(4)
رواه أبو داود (3488)، كتاب: الإجارة، باب: في ثمن الخمر والميتة.
(5)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(20381).
وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لمّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقترأهن على النَّاس، ثم نهى عن التجارة في الخمر (1).
وفي رواية لمسلم: فحرم التجارةَ في الخمر (2).
وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده شيءٌ منها، فلا يشربْ ولا يَبِعْ".
قال: فاستقبل النَّاس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها (3).
وخَرَّجَ أيضًا من طريق ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له صلى الله عليه وسلم:"هل علمتَ أن الله قد حَرَّمَها؟ "، قال: لا، قال: فسارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بِمَ سارَرْتَه؟ "، قال: أمرتُه ببيعها، قال:"إن الذي حرّم شربَها، حرّم بيعَها"، قال: ففتح المزادة حتَّى ذهب ما فيها (4).
والحاصل من هذه الأحاديث: أن الله سبحانه وتعالى إذا حرّم شيئًا، حرّم ثمنه، وهذه كلمة جامعة عامة تَطَّرد في كل ما كان المقصودُ من الانتفاع به حرامًا، وسواء في ذلك ما كان الانتفاع حاصلًا مع بقاء عينه؛
(1) رواه البُخاريّ (1978)، كتاب: البيوع، باب: آكل الربا وشاهده وكاتبه، ومسلم (1580/ 69)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر.
(2)
رواه مسلم (1580/ 70)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر.
(3)
رواه مسلم (1578)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر.
(4)
رواه مسلم (1579)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر.
كالأصنام؛ فإن منفعتها المقصودة منها هو الشرك بالله، وهو أعظمُ أنواع المعاصي على الإطلاق كما قاله الحافظ ابن رجب (1).
قلت: وعندي أن التعطيلَ ونفيَ المعبود بحق أعظمُ منه كما لا يخفى، ولكن مقصود الحافظ الإشارةُ إلى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وأنه من أعظم أنواع الكفر، أو أعظمُها، ويكون نافع واجبِ الوجود مشركًا؛ لأنَّه ينسب الفعل إما للدهر، وإما للطبيعة، وكلاهما شركٌ في الحقيقة.
ويلتحق بالأصنام ما كانت منفعتُه محرمة؛ ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال، وكذلك الصورُ المحرّمة، وآلاتُ الملاهي المحرمة، ومثله شراءُ الجواري للغناء (2).
وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله بعثني رحمةً وهدًى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات -يعني: البرابِطَ والمعازفَ- والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية، وأقسم ربي بعزته! لا يشربُ عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر، إلَّا سقيته مكانها من حَميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له، ولا يسقيها صبيًا صغيرًا، إلَّا سقيته مكانها من حميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له، ولا يدعُها عبدٌ من عبيدي من مخافتي، إلَّا سقيتها إياه في حظيرة القدس، ولا يحل بيعهن، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن، وأثمانهن حرام -يعني: المغنيات-"(3).
(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 415).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 257).
[وروى أبو بكر الطرطوشي المالكي حديثًا قال: "لا يحل بيعُ القيان ولا شراؤهنَّ"، وأخرجه التِّرمذيُّ، ولفظه: "لا تبيعوا القينات، لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهنَّ، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام"، وخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي مثل هذا أنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية (1)] (2).
وقد روي نحوه من حديث عمر، وعلي، وفي الحديث مقال.
ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك يقول: إذا بيعت المغنية، تباع على أنها ساذجة، ولا يؤخذ لصناعة الغناء ثمنٌ، ولو ليتيم، نصّ عليه الإمام أحمد (3).
(1) رواه التِّرمذيُّ (1282)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع المغنيات، واللفظ له، وابن ماجه (2168)، كتاب: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه.
(2)
ما بين معكوفين مثبت من النسخة الخطية الأصل، وفي النسخة "ب" بعد قوله في الحديث الذي ساقه عن الإمام أحمد في "المسند":"حظيرة القدس" قال: (قال أبو بكر الطرطوشي المالكي في القينات: لا يحل بيعهن ولا شراؤهن، ولا تعليمهن، ولا تجارة فيهن، وأثمانهن حرام -يعني: المغنيات. ذكره في كتابه: "النهي عن السماع" مرفوعًا، قال: وفيهن نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وأخرجه التِّرمذيُّ ولفظه: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام"، وخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي مثل هذا أنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية).
ولا ريب أن عبارة الأصل هي الصواب، وما وجد في النسخة "ب" لا يخفى ما فيها من اضطراب السياق، والله أعلم.
(3)
انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 415).
تنبيه:
اختلف العلماء متى حرمت الخمر؟
ذكر ابن سعد وغيره: أن تحريم الخمر كان في السنة الثالثة بعد غزوة أُحُد.
وقد روى الإمام أحمدُ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما حرمت الخمر، قال أناس: يا رسول الله! أصحابُنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93].
قال: ولما حُوِّلت القبلةُ، قال أناس: يا رسول الله! أصحابُنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1)[البقرة: 143].
وروى أبو داود الطَّيالسيُّ عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح (2).
قال العيني في "شرح البُخاريّ": وقول من قال: قُتل قوم؛ يعني: من استشهد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم يوم أُحُد، وهي في بطونهم، صدرَ عن غلبة خوف، أو عن غفلة عن المعنى؛ لأنَّ الخمر كانت مباحة، أو
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 295).
(2)
رواه أبو داود الطَّيالسيُّ في "مسنده"(715)، والترمذي (3052)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة.
لأنَّ من فعل ما أبيح له لم يكن له ولا عليه شيء؛ لأنَّ المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع (1).
واستظهر الحافظ ابن حجر في "الفتح" في تفسير سورة المائدة: أن تحريم الخمر كان عام الفتح سنة ثمان؛ لما روى الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة، قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيفٍ، أو دَوْسٍ، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يُهديها إليه، فقال:"يا فلان! أما علمتَ أن الله حرّمها؟ " الحديث (2)، وتقدم.
وروى الإمام أحمد أيضًا من طريق نافع بن كيسان الثَّقفيُّ، عن أبيه: أنه كان يتجر بالخمر، وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله! إنِّي جئتُك بشرابٍ جيد، فقال:"يا كيسان! إنها حُرّمت بعدَك"، قال: فأبيعها؟ قال: "إنها قد حرّمت، وحرّم ثمنها"(3).
وروى الإمام أحمد أيضًا، وأبو يعلى من حديث تميم الداري: أنه كان يهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ عام راويةَ خمر، فلما كان عام حرّمت، جاء براوية، فقال:"أشعرتَ أنها قد حرمت بعدك؟ "، قال: أفلا أبيعُها وأنتفعُ بثمنها؟ فنهاه (4).
فيستفاد من حديث ابن كيسان تسميةُ المبهم في حديث ابن عباس، ومن
(1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 12).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 230)، ولم يتقدم ذكره، كما قال الشارح رحمه الله.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 335).
(4)
رواه أحمد في "المسند"(4/ 227)، ولم أقف عليه في "مسند أبي يعلى"، والله أعلم.
حديث تميم تأييدُ الوقت المذكور؛ فإن إسلام تميم كان بعد الفتح (1).
وقد روى أصحاب السنن من طريق أبي ميسرة عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: اللهم بيّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في البقرة:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] فقرئت عليه، فقال: اللهم بينْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في المائدة:{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلى قوله تعالى: {مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا، انتهينا (2).
وصححه الإمام عليُّ بنُ المديني، والتِّرمذيُّ.
وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة نحوَه دون قصة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة: فقال النَّاس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون حتَّى أمَّ رجلٌ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فنزلت التي في النساء، فكانوا يشربون، ولا يقرب الرجل الصلاة حتَّى يُفيق، ثم نزلت آية المائدة، فقالوا: يا رسول الله! ناسٌ قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم، وكانوا يشربونها؟ فأنزل الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية [المائدة: 93]، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لو حُرِّمَ عليهم، لتركوه كما تركتموه"(3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 279).
(2)
رواه أبو داود (3670)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والنَّسائيُّ (5540)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر، والترمذي (3049)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 351).
وذكر الحافظ الدمياطي في "سيرته" جازمًا به بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبيةُ كانت في السادسة.
وذكر ابن إسحاق: أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أُحُد، وذلك سنة أربع على الراجح، ونظر فيه في "الفتح" بأن أنسًا كان هو الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها، بادرَ فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك، كذا قال (1).
قلت: كان سنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، وصاحب هذا السن، ولاسيما مع مداخلته الرسول، وخدمته له، وما لَهُ من التمييز على غيره بذلك لِما يكتب ويستفيد من العلم والحكم، لا يصغُر عن ذلك.
فائدة:
قال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستفاد تحريمُ الخمر من آية المائدة من تسميتها رجسًا، وقد سمي به ما أُجمع على تحريمه، وهو لحم الخنزير.
ومن قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]؛ لأنَّ مهما كان من عمل الشيطان، حرم تناوله.
ومن الأمر بالاجتناب، وهو للوجوب، وما وجب اجتنابُه، حرمَ تناولُه.
ومن الفلاح المرتب على الاجتناب.
ومن كون الشرب سببًا للعداوة والبغضاء للمؤمنين، وتعاطي ما يوقع ذلك حرام.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 31).
ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ فإنّه استفهام معناه الردع والزجر، فلهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمعها: انتهينا انتهينا.
وسبق الرازيَّ إلى نحو ما قال الطبريُّ (1)، والله تعالى الموفق.
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه، وعنه نقل الشارح رحمه الله، وكان سبق له أن ذكر الفائدة التي ساقها هنا فيما مضى من هذا الشرح المبارك، وبالله التوفيق.