الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا بَعْدُ: أَيُّها النَّاسُ! إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ؛ مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ.
ثَلاثٌ وَدِدْتُ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالكَلَالَةُ، وَأَبْوابٌ مِنَ أَبْوابِ الرِّبَا (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البُخاريّ (4343)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] و (5259)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العنب، و (5266 - 5267)، باب: ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب، ومسلم (3032/ 32 - 33)، كتاب: التفسير، باب: في نزول تحريم الخمر، وأبو داود (3669)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والنَّسائيُّ (5578 - 5579)، كتاب: الأشربة، ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزل تحريمها.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 262)، و"المفهم" للقرطبي (7/ 340)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 210)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1641)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 46)، و"عمدة القاري" للعيني (18/ 211)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 57).
(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ عمرَ) بنِ الخطاب (رضي الله عنهما: أن) أباه أميرَ المؤمنين (عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال) وهو يخطب (على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكان من جملة ما خطب به النَّاسَ أَنْ قال:(أما بعد: أيُّها النَّاس! إنه)؛ أي: الشأن والأمر قد (نزل)، وعند البيهقي: فحَمِدَ الله وأثنى عليه (1)، ثم قال: إنه قد نزل (تحريمُ الخمر) يومَ نزل، (وهي) تصنع (من خمسة) أشياءَ كما في لفظٍ لمسلم (2)، والجملة حالية؛ أي: نزل تحريمُ الخمر في حال كونها تُصنع من خمسة، والمراد: أن الخمر تُصنع من هذه الأشياء؛ لأنَّ ذلك مختص بوقت نزولها، ثم بيّن الخمسةَ، وبدأ بأشهرها وأكثرها، فقال:(من العنب) المعروفِ.
وقد أورد هذا الحديث أصحابُ المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة؛ لأنَّه له عندهم حكمُ الرفع، لأنَّه خبر صحابيٍّ شهدَ التنزيل، أخبر عن سبب نزول، وقد خطب به عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكارُه.
وأراد عمر رضي الله عنه بنزول تحريم الخمر: آيةَ المائدة، وهي قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] إلى آخرها، فنبه على أن المراد بالخمر في هذه الآية الكريمة ليس خاصًا بالمتخذ من العنب، بل تناول المتخذَ من غيرها.
ويوافقه حديثُ أنس رضي الله عنه، قال: حُرِّمَتْ علينا الخمرُ حينما
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 288).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (3032/ 32).
حُرمت، وما نجد -يعني: بالمدينة- خمرَ الأعناب إلَّا قليلًا، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر (1).
وفي الحديث الآخر عنه: حرمت الخمر، فقالوا: أكفئها، فكفأنا، قال معتمر: قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رُطَبٌ وبُسْرٌ، فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرَهم، فلم ينكر أنسٌ، متفق عليهما (2).
فإن ذلك يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريمَ كلِّ مُسْكِر، سواء كان من العنب، أم من غيرها (3).
وقد جاء ما قاله عمر رضي الله عنه عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صريحًا، فأخرج أصحابُ السنن الأربعة، وصححه ابن حبان من وجهين عن الشعبي: أن النعمانَ بنَ بشير قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمرَ من العصيرِ والزبيبِ والتمرِ والحنطةِ والشعيرِ والدُّرَةِ، وإني أنهاكم عن كلِّ مُسْكِر"(4).
ولأبي داود من وجهٍ آخر عن الشعبي، عن نعمان، بلفظ: إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا (5).
(1) رواه البُخاري (5258)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العنب، واللفظ له، ومسلم (1980/ 5)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر.
(2)
رواه البُخاري (5261)، كتاب: الأشربة، باب: نزل تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر، ومسلم (1980/ 3)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 46 - 47).
(4)
رواه أبو داود (3677)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر مما هو؟ والنَّسائيُّ في "السنن الكبرى"(6787)، والترمذي (1872)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، و (3379)، كتاب: الأشربة، باب: ما يكون منه الخمر، وابن حبان في "صحيحه"(5398).
(5)
رواه أبو داود (3676)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر مما هو؟
وأخرج الإمام أحمد من حديث أنس بسندٍ صحيح عنه، قال: الخمرُ من العنبِ والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ والذرة (1).
وفي "صحيح البُخاريّ" عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نزل تحريمُ الخمر وإنَّ بالمدينة يومئذٍ لخمسةَ أشربةٍ ما فيها شرابُ العنب (2).
(و) من (التمر)، وسواء أكان منه وحده، أو خُلط بفضيخ زَهْو، والفضيخ -بفاء ومعجمتين، وزن عظيم-: اسمٌ للبسر إذا شُدِخَ ونُبذَ، والزهو -بفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو-: هو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده، وعلي التمر وحده (3).
وعند الإمام أحمد عن أنس: وما خمرُهم يومئذٍ إلَّا البسرُ والتمرُ مخلوطَيْنِ (4).
وفي مسلم عن أنس: أَسقيهم من مَزَادَةٍ فيها خليط بُسر وتمر (5).
(و) من (العسل)، وهو البِتْعُ -بكسر الموحدة وسكون المثناة، وقد تفتح-، وهي لغة يمانية، وكان أهل اليمن يشربونه (6).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 112).
(2)
رواه البُخاري (4340)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ. . . .} [المائدة: 90].
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 38).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 217).
(5)
رواه مسلم (1980/ 7)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر.
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42).
وفى "البُخاريّ" عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربةٍ تُصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البِتْع والمِزْرُ، فقيل لأبي بردة: ما البِتْعُ؟ قال: نبيذُ العسل، والمِزْرُ نبيذُ الشعير (1).
وفي "مسلم" عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله! إن شرابًا يُصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشرابًا يقال له: البتع من العسل، فقال صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ"(2).
وفي "سنن أبي داود" عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرابٍ من العسل، قال:"ذاكَ البِتْعُ"، قلت: ومن الشعير والذرة؟ قال: "ذاك المِزْر"، ثم قال:"أخبر قومَكَ أن كلَّ مسكرٍ حرام"(3).
ففي هذا التصريح بأن تفسير البتع من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع.
(و) من (الحنطة)؛ أي: البُرِّ، (و) من (الشعير).
وتقدم آنفًا تسميةُ المتَّخَذِ من الشعير والذرة بالمزر، والجميعُ يسمَّى خمرًا.
(والخمر) المحرَّم شرعًا هو (ما خامرَ العقلَ)؛ أي: غطاه وخالطه، فلم يتركه على حاله، والعقلُ هو آلة التمييز، فلذلك حرم ما غطاه وغَيَّرَهُ؛ لأنَّ بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه، فكأن عمر
(1) رواه البُخاري (4087)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع.
(2)
رواه مسلم (1733)، (3/ 1586)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام.
(3)
رواه أبو داود (3684)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر.
- رضي الله عنه قال: الخمرُ الذي وقعَ تحريمُه في لسان الشرع هو ما خامر العقل.
فإن قيل: إن بعض أهل اللغة يخصُّ اسمَ الخمر بالمتَّخذ من العنب.
فالجواب: أن الاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر المتَّخَذ من غير العنب يسمى خمرًا، والحقيقةُ الشرعيةُ مقدَّمة على اللغوية، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخمرُ من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة"(1).
قال البيهقي: ليس المراد الحصر فيهما؛ لأنَّه ثبت أن الخمر يُتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا يختص بالمتَّخَذ من العنب، بل الغالب والأكثر اتخاذُ الخمر من العنب والتمر (2).
قال الراغب في "مفردات القرآن": يسمَّى الخمر؛ لكونه خامرًا للعقل؛ أي: ساترًا له، وهو عند بعض النَّاس اسم لكل مسكرٍ، وعند بعضهم: للمتَّخَذ من العنب خاصة، وعند بعضهم: للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم: لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا حقيقة (3).
وكذا قال أبو نصر القشيري في "تفسيره": سُمِّيت الخمرُ خمرًا؛ لسترها العقل، ولاختمارها.
(1) رواه مسلم (1985)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرًا.
(2)
انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 42).
(3)
انظر: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص: 298).
وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، منهم: أبو حنيفة الدِّينوريُّ، وأبو نصرٍ الجوهريُّ (1).
وفي "القاموس": الخمر: ما أسكرَ من عصير العنب، أو عامٌّ؛ كالخمرة، وقد يذكر، قال: والعمومُ أصحُّ؛ لأنها حُرمت وما بالمدينة خمرُ عنب، وما كان شرابهم إلَّا البسرَ والتمرَ، سميت بذلك؛ لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تُركت حتَّى أدركت واختمرت، أو لأنها تُخامر العقل؛ أي: تخالطه (2).
ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر؛ لأنها تُركت حتَّى اختمرت، واختمارُها تغيرُ رائحتها.
وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الخمر عندنا ما اعْتُصر من العنب إذا اشتد، قال: وهو المعروف عند أهل اللغة وأهلِ العلم، قال: وقيل: اسمٌ لكل مسكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمرٌ"، ولأنه من مخامرة العقل، وهو موجود في كل مسكر، قال: وأما إطباقُ أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، فلأن هذا اشتهر استعمالُها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذَ من العنب ظني، قال: وإنما سُمي الخمر خمرًا؛ لتخمره، لا لمخامرة العقل، انتهى (3).
وينافي ما ادعاه ثبوتُ النقل عن بعض أهل اللغة بأن غيرَ المتخذ من العنب يسمَّى خمرًا.
وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلَّا من العنب،
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 47).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 495)، (مادة: خمر).
(3)
انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 108).
فيقال لهم: إن الصحابة الذين سَمَّوا غيرَ المتخذ من العنب خمرًا عربٌ فصحاء، [فلو] لم يكن هذا الاسم صحيحًا، لما أطلقوه (1).
وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: الخمرُ من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يُعصر، لا ما يُنبذ. قال: ولا دليل فيه على الحصر.
وقال أهلُ المدينة، وسائرُ الحجازيين، وأهلُ الحديث كلُّهم: كلُّ مسكر خمر، وحكمه حكم ما اتُّخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر، فهمَ الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمَّى خمرًا يدخل في النهي (2)، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، وعلي تقدير التسليم، فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع، كان حقيقة شرعية، وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية.
وقوله: لا لمخامرة العقل، فيقال له: سبحان الله! كيف استجاز هذا مع قول عمر بمحضر الصحابة: الخمرُ ما خامرَ العقل؟! وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيحمل قول عمر على المجاز (3).
لكن قد اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرًا -كما قدمنا-.
قال الحافظ ابن رجب: تواترت الأحاديثُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "كلُّ مسكر حرام، وكل ما أسكر عن الصلاة، فهو حرام، وكل خمرٍ حرام"، كما
(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 262).
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 246).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 48).
في "الصحيحين" وغيرهما من حديث عائشة وابن عمر وغيرهما.
وتقدم حديث جابر عند مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام".
وإلى هذا ذهب جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهبُ مالك، والليث، والأوزاعي، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، وهو مما اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلُّهم.
قال ابن رجب: وخالف فيه طوائفُ من أهل الكوفة، فخصوه بخمر العنب، قالوا: وأما ما عدا ذلك، فإن ما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، لا ما دونه.
قال: وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين معذورين، وفيهم خلقٌ من أئمة العلم والدين.
قال ابن المبارك: ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلَّا عن إبراهيم النَّخعي.
وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح.
وقد صنف رضي الله عنه كتاب "الأشربة"، ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة، وصنف كتابًا في المسح على الخفين، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره، فقيل له: كيف لم تجعل في كتاب "الأشربة" الرخصةَ كما جعلت في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيحٌ.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنسَ بنَ مالك عن الشرب في الأوعية، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة، وقال:"كلُّ مسكرٍ حرام"، قلت له: صدقت، المسكرُ حرام، فالشربةُ
والشربتان على طعامنا؟ قال: "المسكر قليلُه وكثيرُه حرام"، وقال:"الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فما خمرت من ذلك، فهو الخمر"(1). وإسناد هذا على شرط مسلم.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والتِّرمذيُّ وحسنه من حديث جابر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "ما أسكرَ كثيرُه، فقليلُه حرام"(2).
وأبو داود، والتِّرمذيُّ من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"كلُّ مسكر حرام، وما أسكرَ الفرقُ، فملءُ الكفِّ منه حرام". وفي رواية: "الحَسْوَةَ منه حرام"(3).
وقد احتج به الإمام أحمد، وذهب إليه، وسئل عمن قال: إنه لا يصح، فقال: هذا الرجل مُغْلٍ؛ يعني: أنه قد غلا في مقالته.
وقد أخرج النسائيُّ هذا الحديثَ من رواية سعد بن أبي وقاص (4)، وعبدِ الله بن عمرٍو (5)، مرفوعًا.
وروي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ كثيرة يطول ذكرها.
وقد كانت الصحابة تحتج بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مسكرٍ حرام" على
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 112).
(2)
رواه أبو داود (3681)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، والترمذي (1865)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء: ما أسكر كثيره، فقليله حرام، وابن ماجه (3393)، كتاب: الأشربة، باب: ما أسكر كثيره، فقليله حرام.
(3)
رواه أبو داود (3687)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، والترمذي (1866)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء: ما أسكر كثيره، فقليله حرام.
(4)
رواه النَّسائي (5608)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره.
(5)
رواه النَّسائي (5607)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره.
تحريم جميع أنواع المُسْكِرات، ما كان مأخوذًا منها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حدث بعده، كما سئل ابن عباس عن الباذِق، فقال: سبقَ محمدٌ الباذقَ، فما أسكر، فهو حرام. رواه البُخاري (1).
يشير إلى أنه إن كان مسكرًا، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة (2).
والباذَق -بالباء الموحدة فمعجمة بعد الألف مفتوحة- كما ضبطه ابن التين، ونقل عن القابسي أنه حدّث به -بكسر الذال-، وسئل عن فتحها، فقال: ما وقفنا عليه. قال: وذكر أبو عبد الملك: أنه الخمر إذا طبخ.
وقال ابن التين: هو فارسيٌّ معرَّب.
وقال الجواليقي: أصلُه بادَهْ، وهو الطلاء، وهو أن يُطبخ العصير حتَّى يصيرَ مثلَ طلاء الإبل.
وقال ابن قرقول: الباذق: المطبوخُ من عصير العنب إذا أسكرَ، أو إذا طُبخ بعد أن اشتد.
وذكر ابن سيده في "المحكم": أنه من أسماء الخمر (3).
وأعلم: أن المسكرَ المزيلَ للعقل نوعان:
أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، فهذا هو الخمر المحرَّمُ شربُه.
وفي "المسند" عن طلق الحنفي: أنه كان جالسًا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له
(1) رواه البُخاري (5276)، كتاب: الأشربة، باب: الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة.
(2)
انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 422 - 423).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 63)، وعنه نقل الشارح رحمه الله.
رجلٌ: يا رسول الله! ما ترى في شراب نصنعُه بأرضنا من ثمارنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ السائلُ عن المسكر؟ فلا تشربه، ولا تسقِه أخاك المسلمَ، فوَالذي نفسي بيده! أو بالذي يحلف به! لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذةِ سُكْرِه، فيسقيه اللهُ الخمرَ يومَ القيامة"(1).
قالت طائفة من العلماء: وسواء كان هذا المسكر جامدًا، أو مائعًا، وسواء أكان مطعومًا، أو مشروبًا، وسواء أكان من حَبٍّ، أو ثمرٍ، أو لبن، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشةَ التي تُعمل من ورق القِنَّبِ وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره.
وفي "سنن أبي داود" من حديث شهر بنِ حَوْشَب، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كُلِّ مسكر، ومُفَتِّرٍ (2).
والمفتر: هو المخدِّرُ للجسد، وإن لم ينته إلى حدِّ الإسكار.
والثاني: ما يزيل العقل ويسكره، ولا لذة فيه ولا طرب؛ كالبنج ونحوه.
فقال أصحابنا: إن تناوله لحاجة التداوي به، وكان الغالب منه السلامة، جاز.
قال ابن رجب: وقد روي عن عروة بن الزُّبير: أنه لما وقعت الأكلة في رجله، وأرادوا قطعَها، قال له الأطباء: نسقيك دواءً حتَّى يغيبَ عقلُك
(1) رواه الإمام أحمد لكن في كتاب: "الأشربة"(32)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(23743)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(5/ 562)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 205).
(2)
رواه أبو داود (3686)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر.
ولا تحسَّ بألم القطع، فأبى، وقال: ما ظننتُ أن خلقًا يشربُ شرابًا يزولُ منه عقلُه حتَّى لا يعرفَ ربَّه (1).
وروي عنه: أنه قال: لا أشربُ شيئًا يحوْلُ بيني وبين ذِكْر ربي عز وجل.
قال الحافظ ابن رجب: وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثر أصحابنا؛ كالقاضي، وابن عقيل، وصاحب "المغني": إنه يحرم؛ لأنَّه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة، فحرم، كشراب المسكر.
وقالت الشّافعيّة: هو محرم.
ولم يُحرمه الحنفية (2).
تكملة: ممن قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب: عمرُ، وعليٌّ، وسعد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشةُ رضي الله عنهم، ومن التابعين: ابنُ المسيب، وعروة، والحسن، وسعيدُ بن جبير، وآخرون (3).
قال عمر رضي الله عنه: (ثلاث) هي صفة موصوف؛ أي: أمورٌ أو أحكامٌ (وَدِدْتُ) -بالكسر- وُدًا -بالضم والفتح-، ووِدادًا؛ أي: تمنيت (4)، وإنما تمنى ذلك؛ لأنَّه أبعد من محذور الاجتهاد، وهو الخطأ فيه على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورًا عليه؛ فإنّه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات"(140).
(2)
انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 423 - 424).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 49).
(4)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 282).
بالنص إصابة محضة (1)(أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان) قبل وفاته وفراقه لنا (عهدَ)، وفي لفظ: لم يفارقنا حتَّى يعهد (2)(إلينا) معشرَ الأمة (فيهن عهدًا ننتهي إليه)، وهذا لفظ مسلم، ولم يذكر البُخاريّ: فيهن، ولا ننتهي إليه، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نصٌّ فيها، ويشعر بأنه كان عنده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى شيء غيرِه، حتَّى خطب بذلك جازمًا به:(الجَدُّ) قدر ما يرث؛ لأنَّ الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، حتَّى إن عمر رضي الله عنه قضى فيه بقضايا مختلفة مع الإخوة (3)، وقد استقر الآن حكمُه، ولله الحمد.
(والكَلالةَ) -بفتح الكاف وتخفيف اللام-، وقد استقر الكلام عليها بأنها أن يموت الرجل ولا يدع والدًا ولا ولدًا يرثانه، وأصلها من تَكَلَّلَهُ النسبُ: إذا أحاط به.
وقيل: الكَلالة: الوارثون ليس فيهم ولد ولا والد، فهو واقعٌ على الميت، وعلي الوارث بهذا الشرط.
وقيل: الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما، فقد مات من ذهاب طرفيه، فسمي ذهابُ الطرفين كلالةً.
وقيل: كل ما احتفَّ بالشيء من جوانبه، فهو إكليل؛ لأنَّ الوُرَّاث يحيطون به من جوانبه (4).
وأراد عمر رضي الله عنه بيانَ إرث الكلالة في قوله تعالى: {وَإِن
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50).
(2)
تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5266).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50).
(4)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 197).
كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] وفي قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176].
(و) الثالث: (أبوابٌ من أبواب الربا)، ولعله أشار إلى ربا الفضل؛ لأنَّ ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياقُ كلامه يُشعر بأنه كان عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفةَ البقية (1).
وقد سئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شكَّ فيه، فذكر ربا النسيئة، وهو أن يكون له دين، فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه، زاده في المال، وزاده هذا في الأَجَل، فيربو المال على المحتاج من غير نفعٍ حصل له، ويزيدُ مال المُرْبي من غير نفعٍ حصل منه للمسلمين، فحرَّمَ الله هذا؛ لما فيه من ضررِ المحاويج، وأكلِ المال بالباطل (2).
وأما ربا الفضل، فلم تحرمه طائفة من العلماء، وإن كان الصحيح بل الحق الذي لا ريب فيه تحريمُه، وعدُم تحريمه مأثور عن قتادة، وهو قول أهل الظاهر، وابنُ عقيل في آخر مصنفاته مال إلى هذا القول، مع كونه يقول بالقياس.
وممن قال بعدم تحريم ربا الفضل: ابن عباس في المشهور عنه، ويُروى عن ابن مسعود، ومعاوية رضي الله عنهم، وقد أنكر أبو سعيد الخدري على ابن عباس، وكذلك غير أبي سعيد من الصحابة (3).
وروى أبو سعيد حديثَ يخبر لما قال له وكيلُه: إنما نبتاع الصاعَ من
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50).
(2)
انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (2/ 154).
(3)
المرجع السابق، (2/ 155 - 156).
التمر الجَنيب -وهو الجيد- بالصاعين من الجَمْع، وهو المخلوط، فقال صلى الله عليه وسلم:"أوَّه عينُ الربا"(1)، وتقدم ذلك في محله.
وقد استقر الحال عند الأئمة على تحريم ربا الفضل كالنسيئة، والله الموفق.
(1) تقدم تخريجه.