المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٧

[السفاريني]

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله

‌الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ البِتع، فَقَالَ:"كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ"(1).

البِتع: نَبِيذُ العَسَلِ.

* * *

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقةِ (رضي الله عنها، عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن البتع).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البُخاري (5263 - 5264)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العسل، وهو البتع، ومسلم (2001/ 67 - 69)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، وأبو داود (3682)، كتاب: الأشرية، باب: النهي عن المسكر، والنَّسائيُّ (5592 - 5594)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء كل مسكر حرام.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"معالم السنن" للخطابي (4/ 265)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 20)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 55)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 462)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 169)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 211)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1648)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 42)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 170)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 57).

ص: 68

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": لم أقف على اسم السائل في حديثٌ عائشة هذا صريحًا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري؛ فقد روى الشيخان من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه، عن أبي موسى: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربةٍ تُصنع بها، فقال:"ما هي؟ "، قال: البِتْعُ والمِزْرُ، قال:"كلُّ مسكرٍ حرام"، قلت لأبي بردة: ما البتعُ؟ قال: نبيذ العسل (1).

(فقال) صلى الله عليه وسلم في جواب السائل: (كلُّ شرابٍ أسكرَ)، وفي لفظٍ لمسلم:"كل شرابٍ مسكرٍ (فهو حرام) ".

قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (البتعُ: نبيذُ العسل) كما تقدم في تفسير خمر العسل، وما تقدم يشعر في الأحاديث بأن التفسير من المرفوع.

وقد صحح حديثَ عائشة هذا الإمامُ أحمد، وابنُ معين، واحتجا به.

ونقل ابن عبد البر إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبتُ شيء يروى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر (2).

وأما ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه، فلا يثبت ذلك عنه (3)، ويكفي من ذلك كله اتفاقُ الشيخين البُخاريّ ومسلم على تصحيحه، وتخريجه، وتصريح إمامَيْ أهلِ الجرح والتعديل: أحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ على صحته، فلم يبق لمن زعم عدمَ صحته ما يتمسَّكُ به من عدم الثبوت، إلَّا ما هو أضعفُ وأوهى من خيوط بيتِ العنكبوت.

(1) تقدم تخريجه. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42).

(2)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 124).

(3)

انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 422).

ص: 69

وظهر من متعدد روايات: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" ما يفسرُ المرادَ بقوله في حديث عائشة هذا: "كلُّ شرابٍ أسكرَ"، وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد: أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار، حَرُمَ تناولهُ، ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه.

ويؤخذ من لفظ السؤال: أنه وقع عن حكم جنس البتع، لا عن القدر المسكِرِ منه؛ لأنَّه لو أراد السائل ذلك، لقال: أخبرني عمّا يحلُّ منه وما يحرُم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس، فقالوا: هل هذا نافع أو ضار مثلًا؟ وإذا سألوا عن القدر فقالوا: كم يؤخذ منه؟

وفي الحديث: أن المفتي يجوز له أن يُجيب السائل بزيادة عمّا سأل عنه إذا كان ذلك مما يحتاج إليه السائل.

وفيه: تحريم كل مسكر، سواء كان متخذًا من عصير العنب، أو من غيره.

قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتدَّ حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد، حَرُمَ قليلُه وكثيره، ثم لو تخلَّلَ بنفسِه، حَلَّ بالإجماع أيضًا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتجددات، فأشعر ذلك بارتباط بعضِها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كلَّ شراب وُجد فيه الإسكار حرم تناولُ قليلهِ وكثيرهِ، انتهى (1).

قال في "الفتح": وما ذكره استنباطًا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود، والنَّسائيُّ، من حديث جابر، وصححه ابن حبان،

(1) انظر: "فتح الباري" لابن رجب (10/ 42 - 43).

ص: 70

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيرُه، فقليلُه حرام"، وتقدم في الحديث الذي قبله (1)، وقد أخرج ابنُ حبان، والطحاوي من حديث عامرِ بنِ سعدِ بن أبي وقاص، عن أبيه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أنهاكم عن قليلِ ما أسكرَ كثيرُه"(2).

وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنسَ ما يُسكر، وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكرُ عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلًا حتَّى يَقتل، قال: ويدل له حديث ابن عباس، رفعه:"حُرِّمَتِ الخمرُ قليلُها وكثيرُها، والسُّكرُ من كلِّ شراب"(3).

قال في "الفتح": أخرجه النَّسائي (4)، ورجاله ثقات، إلَّا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وعلي تقدير صحته، فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: المُسْكِر (5) -بضم الميم وسكون السين المهملة- لا السُّكْرُ -بضم فسكون-، أو بفتحتين، وعلى فرض ثبوتها، فهو حديث فرد، ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها؟

(1) وتقدم تخريجه.

(2)

رواه ابن حبان في "صحيحه"(5370)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 216).

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 221).

(4)

رواه النَّسائي (5683)، كتاب: الأشربة، باب: ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر.

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(109)، ثم قال: يقول شريك: ربما حدث "المسكر"، وربما حدث:"السكر".

ص: 71

وقال أبو المظفر بن السمعاني، وكان حنفيًا فتحول شافعيًا: ثبتت الأخبارُ عن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرًا منها، ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، ورووا أخبارًا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرًا، فقد دخل في أمرٍ عظيم، وباءَ بإثمٍ كبير، وإنما الذي شربه كان حلوًا، ولم يكن مسكرًا.

وقد روى ثُمامة بن حَزْن القشيريُّ: أنه سأل عائشة عن النبيذ، فدعت جارية حبشيةً، فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاءٍ له من الليل، وأُوكيه وأغلقه، فإذا أصبحَ، شرب منه، أخرجه مسلم (1).

وروى الحسن البصري عن أمه، عن عائشة، نحوَه (2)، ثم قال: فقياسُ النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والإطراب من أجلى الأقيسة وأوضحِها، والمفاسدُ التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ثم قال: وعلى الجملة، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قلَّ أو كثرَ مغنيةٌ عن القياس (3)، والله أعلم.

(1) رواه مسلم (2005/ 84)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد، ولم يصر مسكرًا.

(2)

رواه مسلم (2005/ 85)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد، ولم يصر مسكرًا.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 43).

ص: 72